أنا مصري أعيش في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد، ولا أشعر أبدًا بأن أحمس جدّي ولا نفرتيتي جدّتي، ولا أشعر بأن تلك القبور والمعالم لها أي قداسة في قلبي.
لكني -مع ذلك- أعتز بها أيضًا كما يعتز الأمريكي بتاريخ بلاده، وما تركه الهنود الحمر عليها من آثار، مع أنهم ليسوا أجدادًا له، وكما يعتز الإسباني ببقايا التاريخ العربي في الاندلس؛ مع أنهم ليسوا اجداده أيضًا، وكما يعتز الاتراك ببقايا آثار الدولة البيزنطية.
وأقر بأنني إذا نطقت اللغة الهيروغليفية، فلن أنطقها إلا على سبيل التندّر والمزاح، أو من قبيل المتوارثات، مثلها مثل مفردات كثيرة ذرتها علينا رياح تعدد الثقافات التي تزاحمت على هذا البلد، دون أن تؤثر على ثقافته النهائية، العروبة والإسلام.
إنها حركة التاريخ التي لا يريد البعض أن يؤمن بها لغرض في القلوب، فيتباكون بصوت عال، على أننا نعيش بهوية مزورة، ولغة ليست لغتنا، وثقافة ليست ثقافتنا.
وبغض النظر عن كذب هذا الادعاء، فالحقيقة أن من يدّعى ذلك هو أيضًا لا يمثّل الفراعنة، وليس ابنا لهم، ولكنه يريد الانتقام من الثقافة الحالية والتشويش عليها.
من يفعل ذلك يبتدع بدعة لم يأت بها أحد من قبل، ودون حاجة إليها، فلم نسمع -مثلًا- في الأمم الأخرى أن هناك من يسعى لإحياء البابلية أو الآشورية أو الفينيقية أو الأمورية أو غيرها.
وإذا فتحنا الباب لإحياء الماضي في مصر، فإننا -حتمًا- يتوجب علينا إحياء الثقافات البطلمية واليونانية والرومانية والبيزنطية والصومالية والحبشية وحتى الهكسوسية، فهذه الحضارات تعاقبت على حكم مصر لآلاف السنين بشكل متصل، أكبر مما نعرفه عن الحضارة الفرعونية.
وبالطبع، ما ينطبق عليها جميعًا ينطبق أيضًا على الفتح العربي واللغة العربية، وهي حالة مستقرة منذ ما يقرب من 1400 سنة في هذا البلد.
الأمة المصرية
منذ عقود، تعلو بعض الأصوات وتصخب، ناهشة في هوية البلاد، وتسعى جاهدة لإحداث شرخ يفصل بين هذه الثقافة وهذا الوطن، ثم سرعان ما تخفت وتموت حينما لا تجد صدى الصوت الذي يطيل عمرها.
بدءًا من دعاية الأمة المصرية التى وجدت بيئة خصبة لها بعد اتفاقات كامب ديفيد، وما أحدثته من قطيعة عربية لنظام السادات، وصولًا إلى تلك الكتابات المتناثرة التي بدأت تعلو مجددًا في الصحف المصرية التي تحاول تعميق هذا الشرخ، وبث روح الصدع فيه.
فبعد معاهدة السلام، وجد السادات نفسه وحيدًا منبوذًا، فحاول الخروج من هذه العزلة، بتبرير ما حدث، وطرح اقتراح الأمة المصرية، وكان هدفه حينئذ سياسيًّا بحتًا، لا يهدف إلى نهش هوية البلاد المستقرة بشيء.
لكنه فوجئ -كما فوجئ الجميع- بقفز توفيق الحكيم قفزة كبيرة لنفي عروبة مصر، هنا ثارت ثائرة المثقفين من مختلف التيارات، وراحوا يفندون تلك المزاعم، ويقتلعونها في المهد.
ثم مرت البلاد بمحاولات، أحيانًا فردية وأخرى منظمة، تارة في صورة أحزاب أو جمعيات تدعو إلى الفرعونية، وتارة للتقليل من شأن اللغة العربية، فأنشأ بعضهم صحفًا مادتها الأساسية اللهجة العامية، بما فيها من انعدام للقواعد وتوافر السوقية والابتذال، بهدف تحقير لغة القرآن، لكن المجتمع لفظهم سريعًا وفشلت التجربة.
ومنذ أيام، وجدنا من يصف الفتح العربي لمصر بأنه كان احتلالًا، داعيًا إلى إحياء اللغة الهيروغليفية، تمامًا كما فعل الدكتور وسيم السيسي في مقال له بجريدة “المصري اليوم” بتاريخ 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
ونحن هنا لا نهاجم الرجل، فله الحق في التعبير عن رأيه كما يشاء، كما أن للأخرين الحق في انتقاد توجهه والرد عليه.
تمامًا كما ننتقد مزاعم زاهي حواس التي رددها في محاضرة لطلاب جامعة القاهرة عام 2019، وقال فيها “نحن نتكلم اللغة العربية لكننا لسنا عربًا، ونقول إننا في أفريقيا لكننا لسنا أفارقة، نحن شعب إلى الوقت الحالي له شكل خاص وطبيعة خاصة نابعة من 5 آلاف عام”.
العروبة ثقافة أو نسب
رغم وجود عشرات الملايين من المصريين الذين ما زالوا يحتفظون بتسلسل تاريخهم العربي وأنسابهم العربية، فإن الواقع يقول إن العروبة ليست انتسابًا لكنها ثقافة، فكل من دان بالإسلام وتثقف بثقافته وتحدّث بلغة قرآنه في تعاملاته اليومية، هو في الواقع عربي.
ونقول كما قال الزعيم الوطني مكرم عبيد الذي كان يحفظ القرآن رغم أنه مسيحي، فكان يردد دائمًا: أنا مسيحى دينًا ومسلم وطنًا.
…..
بلا شك ستفشل كل محاولات تغيير الهوية العربية لمصر، كما فشلت في أعتى الحقب الاستعمارية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق