في كتابه القيّم (الاستبداد الديمقراطي)، قسّم المفكر القومي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة ظاهرة الاستبداد إلى ثلاثة أقسام متباينة “استبداد متخلف واستبداد متحضر واستبداد ديمقراطي”، تتفق جميعا في النتيجة، في حين تختلف في الأشكال والأساليب والوسائل والمبررات.
ويستعرض في قسم الاستبداد المتخلف عددا من نظريات الديمقراطية، خاصة نظرية (جورج بوردو) عن الديمقراطية “الحاكمة والمحكومة”، حيث ديمقراطية فعلية “حاكمة” تعبّر عن شعب حقيقي، وغايتها خلق عالم جديد متحرر.
وديمقراطية “محكومة” تستوفي جميع أشكال الديمقراطية: الانتخابات والحياة النيابية والحرية الفردية وغيرها، ومع ذلك فقرارات السلطة الناجمة عنها لا تعبّر عن إرادة الشعب الحقيقي، وتكمن غايتها في تسكين المجتمع لا نهضته.
ويرى أن الديمقراطية المحكومة هي في الواقع “استبداد متحضر” فهذا -مثلا- نظام ديمقراطي كامل شكليا، يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه، لكن كل ما في الأمر أنه “شعب زائف لا يعبّر عن الشعب الحقيقي”.
وأهم ما يميز هذا النوع من الاستبداد، أنه لا يستدعي شعارات الاستبداد ومبرراته القديمة، بل يضفي عليها صفة الخضوع لإرادة المجتمع.
حلم بعيد المنال
والمؤسف حقا أن الانتقال من الاستبداد المتخلف إلى الاستبداد المتحضر، لا يزال حلما بعيد المنال لدى شعوبنا التي ما زالت ترزح تحت نير الاستبداد المتخلف.
ويكشف سيف الدولة أن اتجاها يسود لدى المفكرين الغربيين ينكر صحة التاريخ الديمقراطي الذي يتباهى به الغرب، لا سيما أمام حقيقة أن الحرية والمساواة بين الناس لم تكن موجودة أصلا في الحضارتين الإغريقية واليونانية، ولا شك أن غياب المساواة بين الناس يهدم بديهيات الديمقراطية.
وللتدليل على ذلك، يستدعي رؤية أعظم مفكري هذا التاريخ (أرسطو) القائلة بأن كل إنسان ليس مواطنا، وأن الطبيعة خلقت رجالا ليحكموا وآخرين ليطيعوا، وأنها جعلت من حق العقلاء والحكماء أن يكونوا سادة، وأن يكون القادرون جسمانيا على تنفيذ ما يصدر من أوامر عبيدا.
ويؤكد سيف الدولة أن من البديهيات التي ينكرها المستبدون “تعدد” الأفراد في المجتمع “الواحد”، وهو ما ينتج عنه تناقض محتوم، بسبب اختلاف الاحتياجات الفردية من شخص إلى آخر، فيلجؤون إلى ممارسة عمليات الإلغاء، فإما إلغاء التعدد، أو إلغاء المجتمع، أو إلغاء الاحتياجات.
وقد يلجأ المستبد المتمكن إلى إلغائها جميعا بحجة أنه “إله” أو يملك الحق الالهي، أو أنه “رب الأسرة” والأكثر دراية بمصالحها، كما الحال في الاستبداد المتخلف، أو الإيهام باحترامها مع عدم تمثيلها تمثيلا صادقا، كما في الاستبداد المتحضر.
ويعزو سيف الدولة جنوح المستبد إلى الاستبداد، بأنه العودة إلى مرحلة الطفولة، وخلالها تبرز ظاهرة النزوع إلى التدمير كما يفعل الطفل، حينما يفتقد مصدر اللذة.
وبالتالي، فإن قرارات السلطة الديمقراطية الحقة -هنا- لا بد أن تكون خاضعة لرأي أغلبية المجتمع، حتى لو كان رأيا مشكوكا في صوابه.
الاستبداد الديمقراطي
فرّق سيف الدولة بين الاستبداد البرجوازي والاستبداد الديمقراطي، ورأى أن أسلوب البرجوازية في استبدادها، أو -على الأصح- في تغطية استبدادها، هو اللجوء إلى نظام التمثيل النيابي، في حين لم يتم التسليم بأن التمثيل النيابي أسلوب ديمقراطي خالص.
وعلى النقيض تماما، يرى سيف الدولة أن الاستفتاء الشعبي هو أصل الديمقراطية، ولا يعترض عليه إلا المستبدون، وهذه الميزة تجعله صالحا ليكون ستارا عصريا مروعا -ولا نقول رائعا- للاستبداد، لأن من يعارض هذا الأسلوب هنا سيكون كمن يعارض الديمقراطية ذاتها.
ولمّا كانت مخالفة الدستور -في ذاتها- استبدادا محرّما، فإن كل استفتاء شعبي يخالف الدستور هو ستار ديمقراطي للاستبداد، أو كما نسمّيه استبدادا ديمقراطيا، إلا الاستفتاء على الدستور وتعديلاته.
وفي المقابل، يكون الاستفتاء الممكن “دستوريا” غطاء للاستبداد، حينما يكون مستحيلا موضوعيا، بمعنى أنه يستثني فئات من المجتمع، بسبب عدم قدرتها على الاختيار الصحيح، بسبب صغر السن وعدم التمكن من الإدراك.
ويعتقد سيف الدولة أن الفارق الدقيق بين الاستفتاء الشعبي الذي يعبّر عن إرادة الشعب، والاستفتاء الشعبي الذي يغطي على قبح الاستبداد، هو أن ينحصر الاختيار بين “نعم” و “لا” في حين أن الموضوع المستفتَى عليه يتطلب أسئلة غير ذلك.
ورغم إيمانه بأن الاستفتاء الشعبي هو أبرز دليل على الديمقراطية، فإن سيف الدولة راح يستعرض عشرات الأساليب والنماذج التي اتبعها المستبدون المصريون، فحوّلوا هذا المظهر الديمقراطي إلى محفل استبدادي يغاير طبيعته تماما.
ويرى سيف الدولة أن المنظمات التي سُمّيت “أحزابا” في فترة الثمانينيات والتسعينيات، جاءت صراحة وعلنا وقطعا نتيجة قرار منفرد تمت صياغته خارج نطاق الدستور وبالمخالفة لأحكامه الأساسية، ولم يهتم أحد حتى بالتظاهر باحترام الدستور، بل اهتم أصحاب القرار والمنتفعون منه بإقامة “المظاهرات الفكرية ترحيبا بالأحزاب الوليدة سفاحا”.
ثم بدأت السلطات البحث عن طريقة التحوّط ضد المسؤولية، بإسناد القرار إلى الإرادة الشعبية أو إشراك الشعب في خرق الدستور عن طريق الاستفتاء الشعبي، فأُقحِم قرار إنشاء الأحزاب في كل الاستفتاءات التي حدثت بعد ذلك.
……..
هذه كانت مجرد قشور لمحتوى كتاب مهم، لكاتب كبير، يُعد واحدا من أهم الكتب العربية التي تحدثت عن فلسفة الاستبداد، وتناولته بشيء من التأطير والتنظير.
رابط تخطي الحجب على موقع الجزيرة مباشر: https://ajm.me/pfsmxd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق