الأحد، 14 أكتوبر 2018

سيد أمين يكتب: من مظاهر السخرة والتمييز

السبت 13 أكتوبر 2018 17:06
 بينما تجتهد دول العالم الحر في رصد ومكافحة كل العوامل المسيئة لآدمية الإنسان، وثبت مصر وثبات قوية للغاية نحو تعزيز حالة "العبودية" سواء تحت شعارات خدمة الوطن ، والتي كان آخر مظاهرها جلد مواطن بسبب إصراره على ضرورة التزام ضابط جيش بالدور في الحصول على "البنزين" في محطة وقود بسيناء ، أو تحت شعارات اقتصاديات السوق الحر، والعرض والطلب ، والتي كان آخرها احتفاء الإعلام المصري بخريج لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية يجيد خمس لغات وحصل على دراسات عليا في العلوم السياسية، ولكنه يعمل ماسح أحذية في الشارع ، وتجاهل هذا الإعلام أن المواطن أهدر كل ما تعلمه في عمل لا يحتاج أي علم ، وأن مسلكه لا يشجع الشباب على حب العمل ولكنه يحرض على عدم التعلم.
السخرة الرسمية
وتتمركز غالبية مظاهر العبودية في العمل بالسخرة والإكراه وهو ما تمددت رقعته مؤخرا، بعد أن كانت قاصرة فقط على العمل في "الجهات السيادية" بصفة عامة، وعلى بعض الظواهر الخاصة التي تتفشى في هذه الجهات والتي تتمثل في استغلال بعض القادة للمجندين بشكل شخصي بطريقة فجة، فيجعلونهم سعاة لقضاء حاجات أسرهم أو سائقين لسياراتهم، أو حراسا لممتلكاتهم، وهى الممارسات التي جرأت ثورة يناير الإعلام للتحدث عنها بشكل رسمي وتوجيه اتهامات لوزير داخلية مبارك ومساعديه بمثل تلك الممارسات.
بل إن الدولة راحت عبر كبار مسؤوليها تقر بأن أولاد الفقراء وأصحاب الوظائف المتدنية لن يتولوا الوظائف العليا مهما كان مستواهم التعليمي، وذلك كان خلاصة ما عبر عنه صراحة وزير "العدل" حينما قال إن أولاد جامعي القمامة لن يصبحوا أبدا قضاة، بينما جهر رئيس نادي القضاة عبر الإعلام بأنهم هم السادة -أي القضاة- وغيرهم هم العبيد!
جاء ذلك رغم ما هو معروف في مصر بالتوريث الفئوي لوظائف السلطة العليا مثل "القضاء والشرطة والجيش وأجهزة الاستخبارات" حيث صار العمل في تلك الجهات حكرا على بضع عائلات بعينها، وصارت ممارسات أفرادها فوق القانون والمحاسبة، كما احتكرت أيضا - ولكن بدائرة أكثر اتساعا - الوظائف الجالبة للثروة والمال والنفوذ.
وتمادت الدولة الجائرة في غيها فسنت قوانين تميز بين الناس تارة على أساس العمل كأن تعفي مشتغلي المهن السيادية من كثير من الصعاب التي يتعرض لها أبناء الشعب، بل ورحت تقنن حق الأب في تعيين الابن في عمله بما يتضمن ذلك من حرمان الأكفأ من العمل بتلك الوظيفة.
تمييز
وتمارس الدولة المصرية التمييز بين مواطنيها على أساس طائفي خدمة لأهداف سياسية، فإذا توفي مواطن من فئة ما نتيجة إهمال الدولة تكون ديته 5 آلاف جنيه " أقل من ثمن خروف"، أما لو مات مواطن أخر من فئة مقربة من السلطة فديته تبدأ من 100 ألف جنيه لتصل إلى المليون، وتلك المعادلة قد تنقلب عكسيا طبقا لخريطة المصالح.
كما أن هناك تمييزا على أساس جغرافي حيث إن محافظات بعينها يحتكر أبناؤها العمل بالجهاز الإداري للدولة ويتولون مناصب المحافظين ورؤساء المدن والأحياء والأندية وغيرها، وفي المقابل هناك محافظات مصرية يكون مجرد الانتماء إليها جالبا لشقاء صاحبه، وإذا خرج مواطنوها بعيدا عنها ينتظرهم الويل والتنكيل، فضلا عن منعهم من تولى أي مناصب بالدولة بل إنه لا يتم منحهم هويات مصرية دائمة كما هو الحال في سيناء.
وكذلك امتدت ظاهرة التمييز الجغرافي عبر انتشار حملات التبرع تارة بالبطاطين وتارة بمحطات مياه الشرب أو أضحيات العيد من أجل فقراء الصعيد، وهو ما أعطى انطباعا سلبيا لدى المراقبين الأجانب، والمصريين أيضا، بأن أهل محافظات الصعيد هم الأقل شأنا، مع أن الفقر لا يقتصر على محافظات الصعيد بل يتمدد على كل رقعة مصر.
طيلة العقود السابقة كانت هناك مظاهر تمييز ديني ضد المسيحيين في مصر - وهو أمر مرفوض بالقطع -  لكن هذا التمييز أبدا لم يكن كالتمييز الحادث لهم اليوم، والفرق بين "التمييزين" كان صارخا حيث كان التمييز الأول اضطهاديا يتمثل كله في عدم منح الأقباط تراخيص بناء الكنائس، بينما التمييز الثاني كان احتفاء بهم وإغداقا في العطايا لها بما يهدر مبدأ المساواة بين مواطنيها، وتمثل التمييز الأخير في منح الكنائس مساحات شاسعة وغير مبررة من الأراضي لها لدرجة وصلت إلى منحها مناطق مصنفة محميات طبيعية، كما هو الحال في اقتطاع الكنيسة مساحات شاسعة من وادي الريان بالفيوم.
 استعباد المعارضة
الآن تمايز السلطة بين مصري وأخر بقدر ما تتحصل عليه من معلومات حول مدى ولائه للنظام، فلو كان المواطن مؤيدا للسلطة فكل أخطائه يتم التجاوز عنها وتتعامل معه الدولة بكل اللين والهوادة، أما لو كان معارضا للسلطة فقد لا يرى الشمس مرة أخرى مع التنكيل بأسرته.
هذه مجرد خطوط عريضة لمظاهر التمييز والسخرة والعبودية في مصر وفي التفاصيل يكمن الشيطان.

يرجى قراءة المقال في الجزيرة نت 

الأحد، 7 أكتوبر 2018

سيد أمين يكتب: وجهة نظر حول سوريا وايران والربيع العربي

غياب الرؤى العميقة ، والأمية السياسية ، والتزمت والرعونة والانتهازية ، هي من الأسباب الأصيلة المسئولة عن تحول وطننا العربي إلى قطعة من الجحيم ، ووقوعه بين سندان الاستمرار في الاستبداد مضافا إليه غالبا التبعية للخارج ، وسحق النبوغ وعوامل الرقي أو الاستقلال الوطني الحقيقي ، وبين التحول إلى أمة من اللاجئين والمشردين.
ولا يعني ذلك أننا ندافع عن هؤلاء الحكام الخونة الذي نثق أنهم مجرد وكلاء عن الاستعمار لا أكثر ، ولكن نعتب على غفلة الثوار والحالمين بتغيير أحوال أوطانهم للأفضل ووقوع بعضهم في التحيزات الطائفية والمذهبية والعرقية وغيرها ، وفقدانهم العمل بقاعدة أخف الضررين أو حتى فهم صراعات قوى الاستبداد الإقليمية بعضها البعض ، وحاجات الدول التي تدفعها إلى التدخل بين شعوبنا وحكامنا وتجعلها تخشى نهضة بلادنا.
ولو سألت أحداً اليوم عن مصلحة إيران من تدخلها العسكري في سوريا ، لكانت من ضمن الإجابات الكثيرة إجابة: الدفاع عن بشار أو الشيعة ، ولو قلنا أن الشيعة هناك قلة لم تكن أبداً في خطر، لا من قِبل الثورة ولا حتى من قِبل أعدائها ،سيقولون أيضا أن التدخل كان بسبب رغبتها في تشييع سوريا رغم أنه لو كان الأمر بهذا الوضوح والنهم ، لأجبرت إيران ثلث مواطنيها من السنة وديانات أخري علي التشيع وكان ذلك أجدى لها - وهذا لا يعني أنها لا تمسهم باضطهاد وتمييز - كما أن تلك المصالح أو المكاسب تكاد لا تذكر مقارنة بما خسرته من صناعة أعداء جدد لها هي في غنى عنهم.
هذه نماذج لإجابات رائجة لكن الإجابة الأكثر منطقية هو أن إيران قصدت من تدخلها تأمين خط الإمدادات بينها وبين حزب الله في لبنان كذراع عسكرية متقدمة لها، ذلك الخط الذي يمر عبر العراق وسوريا وقصدت بعض القوى الكارهة لنشأة هذا التحالف قطعه من خلال استغلال الثوار في سوريا أو استغلالا لضعف وعيهم السياسي أو استثماراً لحصاد الجهد الدعائي في تأليب مشاعر الكراهية المذهبية بين السنة والشيعة ، وذلك من أجل صناعة حمام دم كبير تعود كل نتائجه بين الغالب والمغلوب في صالح إسرائيل ، بل ولصالح بقاء حلفائها في نظم الاستبداد العربي التي قامت ثورات الربيع العربي من أجل إسقاطها.

أهذا دفاع عن إيران؟

 والسؤال الآن، هل يعد ذلك دفاعاً عن إيران وجرائمها في العراق وسوريا؟
بالطبع لا ، ولكنه تذكير بمدي خيانة أو استهتار أو قلة حيلة النظم العربية الحاكمة التي لم تسارع إلي منع إشعال الأتون السوري ليس بصب الزيت عليه كما فعلت وتفعل، ولكن بإيجاد الحلول الدبلوماسية الرشيدة التي تحترم إرادة الشعب في التغيير ، وتنظر في الوقت ذاته إلى متطلبات إيران وتؤمنها لها سواء انتصرت الثورة أو انتصر النظام الحاكم هناك.
ولو حدث ذلك على ما أعتقد ما تدخلت إيران في سوريا بكل تلك الفجاجة ، ولا كان أمر الثورة فيها يعنيها، وما سالت دماء مئات الألوف من السوريين ولا من حزب الله ولترك آمر الثورة هناك للسوريين ومنظمات العدالة الدولية.
لكن قطعاً لم يحدث هذا لأن هناك من لا يريد الخير لسوريا أو السوريين ويعنيه صناعة بؤرة صدام مذهبية لتخدم مشروعاته كزعيم للعرب السنة ، وهو مَن يعادي كل الثورات العربية قاطبة ومع ذلك نجده لا يقف معها إلا في المشهد السوري، وهو في الواقع الوقوف الذي حول الثورة إلي نزاع مسلح غرق فيه طرفي الصراع.

استبداد ، أم استبداد وعمالة؟

وفيما يبدو أن معظم حكومات الوطن العربي كانت قبل الربيع العربي مقسمة بين نوعين من نظم الحكم، الأولى نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية ، والثانية نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية وأيضا عميلة للخارج ، وعملت قوى الغرب على الاستيلاء على تلك الثورات وتحويلها لصالحها،عبر تقوية نظم التبعية لتعود أقوى مما كانت كما هو الحال في المشهدين المصري والتونسي، وهدم الدول التي ترفض أو تمشي بخطى متثاقلة في دخول الحظيرة الغربية ثم بنائها على الأساس الذي يرغب فيه بانيها، وها هنا نرى بشار الأسد ونظامه يعود تابعا ذليلا لروسيا كواحدة من قوى الاستعمار العالمي ، ونرى الناتو والاتحاد الأوربي والأمريكان هم أصحاب القرار الأول والأخير في ليبيا.
لقد كانت ليبيا من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد"، الاستبداد فقط وليس العمالة ، فليبيا كانت في اعتقادي أكثر استقلالا بدليل أن الغرب حاصرها في قضية لوكيربي التي وقعت عام 1988أكثر من 20 عاما حتى عام2002 ، والأمر ذاته ينطبق على سوريا، حيث كانت إحدى ثاني الدول التي اعتبر أنها التالية المرشحة للغزو الأمريكي بعد العراق.
أما مصر وتونس فهما من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد والتبعية" والحديث عن التبعية هنا قد لا يحتاج للتدليل ، ففي الحالة المصرية مثلا ، يكفي القول أنها هي من بادرت بجر قاطرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني ، والآن هي من تدعو لتصفية القضية الفلسطينية والسلام الدافئ وصفقة القرن وبالطبع ذلك كله خدمة لإسرائيل ، فيما لا ينكر احد مدى التدخل الفرنسي في القرار السياسي التونسي سابقا، ذلك كان قبل ثورة الشباب ، أما بعدها وبعد أن أخمدت المؤامرات الغربية وأذنابها في الدخل جذوة الثورة فكانت السخرية من تلك الثورة بأن جعلت ثورة الشباب تتمخض عن رجل تسعيني حاكما للبلاد.

الصراع المذهبي

القوى المضادة للربيع العربي التي كما نعلم رأسها في الخارج وذنبها في الغالب هو من يحكم في بلداننا العربية ، استفادت كثيرا من الثورة السورية بعد أن حولتها إلي حرب طائفية ، أفزعت الناس في أقاصي الوطن العربي ، وشوهت فكرة الربيع العربي كخلاص للشعوب الراغبة في الحرية والاستقلال ، وعززت فكرة الخير في البقاء ضمن الحظيرة.
الغرب والمتشددون في الداخل يزجون بالعرب في هذا الجحيم الذي لا ناجي منه ، بينما تجاوز الغربيون تلك الخلافات في بلدانهم واعتبروها مصدر إعزاز وطني يدل على التنوع والتعايش المشترك.
الحرب المذهبية هي أخطر القنابل التي يسعى جميع الكارهين للعرب في تفجيرها في الوطن العربي، فلنحذر. 

الخميس، 27 سبتمبر 2018

سيد أمين يكتب: مطلقو الشائعات


الأحد 23 سبتمبر 2018 15:01
لو كنت مصريا وأنت تتابع المشهد في مصر لعرفت من أول برهة أن هذا الضجيج الكبير في إعلام النظام المصري حول حرب الشائعات، هو مقدمة للجم الافواه والاجبار على تبني الخطاب الرسمي للدولة، وذلك في محاولة لحصار العقل والمنطق و"التوقع والتحليل والاستنتاج" عبر اتهام كل صاحب وجهة نظر بأنه من مروجي الشائعات.
ويؤكد هذه المخاوف أن رأس النظام شخصيا هو من أعلن عن رصد نظامه 21 ألف "اشاعة" في 3 أشهر معتبرا أن انهيار الدول يبدأ من الداخل عبر الشائعات، وهو التصريح الذي سبقته تمهيدات إعلامية كبيرة اتفقت على طريقة مواجهة مروجي الشائعات عبر القوة الغاشمة واختلفت في الأرقام التي تدرجت ما بين 60 ألف شائعة - ووصلت بعد ضبط جهاز رصد الشائعات - إلى 21 ألف شائعة فقط.
المهين حقا هنا أن الإعلام المصري راح يردد حينها نفس اللفظ الخاطئ الذي ردده السيسي فنطقوا الكلمة بلفظ "إشاعة" والصحيح "شائعة" لأن الإشاعة نجدها عند معامل "الإشاعات الطبية" فقط، بحسب اللفظ الدارج لـ "الأشعة"!
ويعتقد الكثيرون أن السلطة نفسها هي من تطلق عبر أدواتها غير الرسمية من إعلاميين ومسؤولين محليين الشائعات، ثم تقوم رسميا بتكذيبها وتدلل على ذلك بوجود مؤامرة ضدها يجب لجم منفذيها.

حول الشائعة

ولم يقل لنا هؤلاء ما هو الفرق بين الشائعة والاستنتاج؟ وهل هناك تعريف للشائعة وتعريف أخر للاستنتاج يجعلنا نفرق بين الشرير المغرض والباحث المتأمل المفكر؟ وهل يمكن أن يصدق الناس أي شائعة دون أن يتوافر شيء ما يدلل عليها؟ فرجلا الشرطة والنيابة الجادان مثلا يقومان بجمع المعلومات المتوافرة لديهما عن أمر ما ليستنتجا منها احتمالات معينة، هذه الاحتمالات تكون في تلك اللحظة غير مؤكدة وفي إطار "الإشاعة" حتى يثبت صدقها.
وبالتالي فإن تغييب المعلومات الصادقة والحقائق وعدم الإجابة عن التساؤلات بشكل منطقي - وهو ما تفعله السلطة في مصر- هو ما يصنع بيئة خصبة للشائعات، وليس من الإنصاف أن نعاقب الناس لأنها أكملت "حلقات" البحث باستخدام أدمغتها التي خلقها الخالق خصيصا لمثل هذه المهام، بعد أن ساقت السلطة نتائج لا تتسق مع المقدمات المتوافرة.
ولهذا لم يصدق الناس الأمر وراحوا يفكرون بأنفسهم مع أن الدول الحرة تشجع مواطنيها على التفكير بعد تقديم كافة الإجابات المقنعة لكل الأسئلة التي يطرحها الناس دون ضجر أو ملل أو تخوين أو إكراه لهم.
والحقيقة أن كل تجارب التاريخ الناجحة بنيت على اعتقاد ما، وكل اعتقاد قد يحتمل الخطأ والصواب، وكل خطأ هنا هو في الأصل كان شائعة تحتمل أيضا الصواب، وإيجازا فإن كل ما يشاع هو أمر قد يحتمل الصواب أو الخطأ كليا أو جزئيا.
وكل ما يخشاه المرء أن يكون النظام هو نفسه من يطلق الشائعات تارة ليكذبها بعد أن يرددها معارضوه فيصبح هو ضحية لمؤامرة كبيرة وتارة لكي يأخذها ذريعة لاجتثاث كل من يقول خلاف ما يقول هو، خاصة أن الشائعات تعد واحدة من أهم معالم الحرب النفسية التي يتم تدريسها في الكليات الحربية ليس في مصر بل العالم بأثره للتأثير في نفسية العدو.
وهناك اعترافات لقيادات سابقة بالمجلس العسكري منها ما قاله اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية السابق يؤكد فيها أنهم كانوا يطلقون الشائعات للتحكم في أحداث الثورة وذلك في مداخلة له أجراها على قناة دريم في أواسط عام 2011.
ومن المعروف أن النظام العسكري الحاكم في مصر اعتاد منذ عقود إطلاق الشائعات قبل اتخاذ أي قرار يخشى عواقبه، وكان يسمي ذلك بسياسة جس النبض.

شائعة أم تحليل؟

اختلطت الشائعة بالاستنتاج كاختلاط مكونات الماء، فالصحف الإسرائيلية تتحدث مرارا عن خطة لتبادل الأراضي بسيناء، وقال مبارك في تسريب صوتي له إن رئيس وزراء الكيان عرض عليه إقامة دولة للفلسطينيين في شمال سيناء مقابل ضم إسرائيل لغزة لكنه رفض.
ثم تتكرر فجأة بعد 2013 أحداث إرهابية في المنطقة المراد إقامة تلك الدولة عليها تحديدا دون غيرها ، تلاها تهجير لأهاليها بحجة مكافحة الإرهاب، ثم تتدفق الاستثمارات من دول داعمة لإسرائيل لإحداث تنمية في تلك المنطقة، ويتم افتتاح سحارات سرابيوم لتوصيل مياه النيل إليها ، ثم يتحدث السيسي في لقاء مع ترمب عما أسماها "صفقة القرن"، ثم حصار إسرائيلي مصري خانق لقطاع غزة المراد تهجيره، والسؤال: هل لو قلنا بعد كل هذه المعلومات أن ما يجري في سيناء هو تمهيد لإقامة تلك الدولة المزعومة - والمرفوضة فلسطينيا قبل أن تكون مرفوضة مصريا - نكون نحن بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟ وهل حينما نشك في أن الإرهاب هناك حدث مبتدع لخلق هذه الحالة، نكون نحن من المغرضين؟
وخذ مثالا أخر ، شرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة الذي سيحجب نحو نصف حصة مصر السنوية من ماء النيل وكنا نتوقع إعلان مصر الحرب لذلك السبب، لكن وجدنا السيسي برفقة الرئيسين السوداني والإثيوبي يوقعون اتفاقا لم يطلع عليه أحد حينها، وخرجت في اليوم الثاني الصحف المصرية بعنوان موحد "السيسي حلها".
ثم تتجدد دعوات قديمة بعد ذلك بتوصيل مياه النيل لإسرائيل، ثم نجد أموالا من بنوك مصرية وإسرائيلية وخليجية قد تدفقت سرا على إثيوبيا لبناء هذا السد، تلاها فتح سحارات سرابيوم وترعة السلام لنقل المياه من النيل إلي شرق القناة ..فهل حينما نقول أن النظام المصري يسعى لتوصيل مياه النيل لإسرائيل نكون بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟
وهل حينما ترفع الكاميرات من المتحف المصري بعد رئاسة السيسي لمجلس "أمنائه" ثم تطفئ أنوار مطار القاهرة ثم يعلن عن سرقة 23 ألف قطعة أثرية من المتحف وبعدها بأسابيع تفتح دولة الأمارات – حليفة السيسي- متحفا كبيرا عرضت فيه الكثير من تلك المسروقات، فهل حينما نقول إنه تم تهريب الآثار إلى الإمارات نكون بذلك نستنتج أم نطلق شائعات؟
ولو قلنا إن ترديد معلومات مجهولة يعد علامة من علامات الشائعات كما يزعم الإعلام المصري، فإننا أيضا حينما نقول بوجود رب للكون نكون بذلك من مرددي الشائعات، ولا يمكن أن نخرج من تلك الورطة إلا بالعودة للإيمان بالشواهد والمقدمات، وأن ندلل على وجود الله كما دلل عليه الإعرابي بأن: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟!
الخلاصة أنه حتى لو كان نظامكم عادلا - وهو أمر لا يصدق من فرط استحالته - فهو مدان لأنه أشاع الضبابية وخلق الشائعات وليس "الإشاعات"!


اقرأ المقالا كاملا على الجزيرة نت هنا

الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

سيد أمين يكتب: التصفية الجسدية.. الطغيان الأكبر في مصر

الثلاثاء 28 أغسطس 2018 16:58
 لا يمر شهر واحد في مصر دون إعلان وزارة الداخلية تصفية عدد ممن تصفهم بـ "الإرهابيين" الذين تلحقهم تارة بولاية سيناء أو تنظيم الدولة أو حركة حسم وغيرها، ثم تلحق هذا الإعلان عادة بعبارة "إن الإرهابيين قتلوا أثناء اشتباك مع قوات الشرطة".
ولم يحدث مطلقا أن قامت القوات بالقبض على أي من هؤلاء الإرهابيين المزعومين أحياء أو حتى اكتفت بإصابتهم، وهو الدور المنوط بها كيلا تكون هي الخصم الذي يصدر لائحة الاتهام وهي أيضا من تصدر الحكم بالإعدام، وهى من تنفذه دون حتى تسجيل فيديو واحد متكامل لعمليات الدهم تلك.
ثم سرعان ما يعلن الطرف المقابل من ذوي هؤلاء القتلى عن شهادات مكتوبة أو مرئية وبلاغات قديمة للجهات الأمنية تؤكد أن ذويهم كانوا محتجزين من قبل جهات الأمن نفسها، أو أنهم قتلوا في عمليات إعدام ميداني دون أدني مقاومة منهم.
ومع ذلك لا أحد يتحرك أو حتى يجري تحقيقا شفافا في كل هذه الاتهامات، خاصة أن أجهزة الدولة الخاصة بتحقيق العدالة إما أن تصر على الرواية الأمنية، وإما أنها تلتزم الصمت على تلك الاتهامات المروعة في أكثر أوقات الحياد لها، أو تتجرأ فتبادر بفتح تحقيقات سرعان ما تموت في الأدراج كما حدث في القتلى الخمسة الذين اتهمتهم أجهزة الأمن بقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وهى نفسها من نفت ذلك وفتحت تحقيقا لم يعرف أحد نتيجته منذ أكثر من عامين.
كل ذلك يحدث على مسمع ومرأى من الداخل والخارج ولا أحد يجرؤ في الداخل أن يطالب باستجلاء الحقائق بشكل عملي حماية للعدالة 
نحن هنا لا نكذب الروايات الرسمية، ولكن نطالب بتقديم الإجابات المنطقية أو الموثقة على الوقائع بدرجة تجعلنا نصدقها ولا نتساءل مجددا اقتناعا وليس خوفا من عاقبة السؤال. 
الغموض والقوة المفرطة
أخشى أن يكون هذا الأسلوب –  أسلوب الغموض والأبواب المواربة والقمع المفرط – مقصودا في حد ذاته من أجل تكوين شعور عام بأن السلطة ليست بحاجة لتقديم المبررات لما تفعل، وأنها تفعل ما تريد وقتما تريد دون أي بواعث على القلق أو حرص على الشفافية، ويجب على الجميع الاستسلام والتسليم بما يفعلون أو يقولون دون قيد أو شرط ، وذلك آملا في تحقيق حكمة المفكر السياسي الايطالي الأشهر في التاريخ نيقولا مكيافيللي بأن القوة المفرطة تصنع صديقا مخلصا، وأنه حينما تعاقب خصما لك فيجب أن تعاقبه بالطريقة التي تغنيك من خشية انتقامه.
إن كان كذلك فالثمار أتت أكلها، لا أحد في مصر الآن إلا ويشعر بالخوف وعدم الأمان والقلق مما يحمله المستقبل، وبواعث هذا الشعور لا تعود كما يمكن أن يصوره البعض إلى ضعف قوة السلطة، بل منها ومن جنونها وقوة بطشها، وانهيار منظومة العدالة فيها.
وكرست لتنامي هذا الشعور عوامل عديدة أهمها الغلاء والفساد وتفشى الواسطة والمحسوبية وتوحش الطبقية وعودة الإقطاع وإمساكه بمفاصل الدولة، فضلا عن تلك المظلوميات التي لا تنتهي التي يسمعها ويقرؤها ويعيشها المصري منذ أن يفتح عيناه صباحا حتى يخلد للنوم ليلا، مع تنامي الوعي لديه بأن شبكة المصالح التي تربط جلاديه ببعضهما البعض، أو تربطها بقوي إقليمية ودولية، عصية على الكسر، وكل ما تفعله سيغض العالم الطرف عنه.
الحرب النفسية
وإذا كان الخوف والأمان هما فقط مجرد شعور، فان بث الشعور بعدم الأمان قد يكون مقصودا من قبل النظام الحاكم من أجل تركيع المجتمع في إطار ما يسمي بـ "الحرب النفسية"، وقد يتعمد في سبيل ذلك تسريب جوانب من الفظائع التي تجري بحق المعتقلين أو مناوئيه لهذا الهدف.
وعمليا فان الحشود الهادرة المحتجة التي نزلت شوارع المدن المصرية الكبرى في أشهر الانقلاب الأولى، كانت من الكثرة والإصرار ما تعجز أي قوة عسكرية عن التغلب عليه، هنا تم التركيز على استخدام أساليب الحرب النفسية، التي كان من أهم أدواتها إهدار قيمة المنطق والقانون، والتهويل والتهوين في غير موضعيهما، وهي الحالة التي انتهت مؤخرا بسن قوانين غير منطقية تلغي دور الشهود في المحاكم، فضلا عن عدم تكلف السلطة بخلق تبريرات وذرائع قانونية لارتكاب أي جرائم.
كما جيشت السلطة قطاعات غير ناضجة فكريا من المجتمع لتكون حائط الصد الأساسي الذي يحول دون وصول غضب الحراك الشعبي إليها وهو ما أشاع حالة من الإحباط لدي كثيرين من أبناء هذا الحراك.
 العنصر الأكثر بطشا
وإذا كانت أدوات السلطة هي الجيش والشرطة والقضاء فالسؤال الآن؛ ما هو العنصر الأكبر تأثيرا في تشكيل خوف المصريين؟ هل هي القبضة الأمنية المفرطة؟ أم انهيار القضاء ومنظومة العدالة؟ أم قوة الدعم الإسرائيلي والغربي لهذا النظام؟ آم أن الثورة قد وصلت لحالة من الوهن والإنهاك قادت الناس إلى اليأس بعد سبع سنوات من المقاومة؟
ظاهريا تبدو كل تلك الأسباب مجتمعة وراء ذلك، لكن كان لانهيار منظومة العدالة خاصة في القضاء الطعنة الغائرة في جسد الثورة والتي سببت لها الوهن والوجع الشديد، وذلك لأن الدعم الغربي والإسرائيلي ما كان له تأثير في الداخل إلا عن طريق غض الطرف عما يرتكبه النظام من جرائم بحق معارضيه في الداخل، وما كان للحراك أن يتوقف آنذاك إلا عندما لمس الناس أن مؤسسة العدالة والمفترض فيها رفع الظلم أصبحت أحد أكبر الخصوم.
انهيار منظومة العدالة هي الطغيان الأكبر في مصر.

اقرأ المقال  بالنقر هنا علي موقع الجزيرة نت


الأحد، 22 يوليو 2018

سيد أمين يكتب: هكذا أساءوا لعبد الناصر

 الأحد 22 يوليو 2018 15:29
 شكل منتصف القرن الماضي ولادة قوية جديدة للفكر القومي العربي بشكل ينبئ بأن دولة عربية واحدة تتشكل في الأفق على جميع الأراضي التي يعيش فوقها العرب من المحيط إلى الخليج، فيما أن القوميات الأخرى في هذه البقعة الجغرافية تعاطت مع الثقافة العربية بسبب الدين الذي نطق بلغتها، فصارت مكونا أساسيا من ثقافتها القومية الخاصة، وترافق هذا البعث الجديد مع تأسيس جامعة الدول العربية وتنامي موجات الاستقلال الوطني وبدء انحسار الاستعمار بصورته القديمة.
إلا أن النهوض القومي العربي تلقى طعنة قاتلة بغرس الكيان الصهيوني في ثاني أقدس مقدساته، ما أطال مسار "التحرر" الذي كاد أن ينجز آنذاك، وذلك خصما من العمل على مسار "الوحدة" الذي لم يطرق أصلا حتى الآن بأية صورة كانت، فيما أتت الطعنة الثانية لتلك القومية من ظهور تفريعات داخلية فيها والتي شكلت "الناصرية" أحد أبرز مظاهرها وذلك بما تحمله من شخصَنة وذاتية ونقل غير مبرر للأفكار المتفق عليها بين الجميع من الوضوح إلى الغموض، ومن العام إلى الخاص ومن العلمي إلى هوى النفس.
الناصرية: لماذا؟
وبيت القصيد أنني لا أعرف كيف تم نحت لفظ "الناصرية"؟ ولا لماذا؟ ولكن أثق في أنها شكلت طعنة قاتلة للفكر القومي العربي، رغم أنها تبدو لأول وهلة كإبنة شرعية له وبالتالي فإنها لا يمكن لها إلا أن تدعمه، ورغم أنه من غير المعلوم حتى هذه اللحظة ما طبيعة هذا الفكر ولا مبادئه؟ ولا مواطن تميزه؟ ولا بماذا ينادي غير ما تنادي به دعوات الوحدة العربية؟ وما جدوى اختراقه للإجماع القومي؟ لكن كلما نحاول البحث لا نجد إلا طنطنات وتهويمات وشعارات لا ترقى إلى مستوى المنهج.
ولا تقتصر خسارة الفكر القومي من ظهور الناصرية عند ذلك فحسب، بل امتد الأمر أيضا إلى أن بعض الانتهازيين المتعصبين لم يرتضوا بالتوقف عند تفريع الفكر القومي وتجزئته ولكن حاولوا جعل الناصرية بديلا عنه وجعلوا عبد الناصر وصيا على الأمة العربية ، ما تسبب بشكل أو بأخر في تحول أعداء عبد الناصر - وهم كثر داخل مصر وخارجها -  إلى أعداء للفكر القومي العربي، كما حدث مع التيارات الإسلامية، على خلاف قناعتها الأصلية بأن الوحدة العربية هى مجرد مرحلة لتحقيق الوحدة الإسلامية، والسبب في هذا العداء يعود في الأصل لمعاداة عبد الناصر للإخوان المسلمين بعد احتجاجهم علي الانقلاب على الرئيس محمد نجيب عام 1954 فأعدم قياداتهم ونكل بهم أشد تنكيل، وكما حدث مع بعض النظم الملكية التي كان يمكن إشراكها في بحث سبل وحدة الأمة عبر الدعوة للوحدة الكونفدرالية مثلا بدلا من تحويلها إلى عدو لهذه الحلم العربي.
الناصرية فشلت
المشكلة أن التطبيق العملي للناصرية يؤكد أنها فشلت في كل شعاراتها، فلماذا اجترار الفشل إذن؟
هي فشلت في إقامة وحدة عربية حقيقية - كما حدث في الجمهورية العربية المتحدة- رغم تهيؤ الظروف في كثير من الأقطار العربية لذلك بسبب تولى الحكم جنرالات آنذاك يقولون إنهم يؤمنون بضرورة الوحدة العربية، وتسبب هذا الفشل في تباعد فكرة الوحدة عن التحقق بعدما غيرت الكثير من نظم الحكم قناعاتها.
وأيضا فشلت الناصرية في توحيد الصف الوطني حينما راحت تقصي التيارات الفكرية المختلفة لا سيما التيار الاسلامي، رغم أن هذا التيار تحديدا هو الأقرب أيديولوجيا للفكر القومي العربي - المفترض انتماء الناصريين إليه - وكلاهما يرفض الشعوبية وتقديس حدود سايكس بيكو، وبدلا من تجسير علاقات الأخوة القائمة فعلا مع القوميات الأخرى في مصر جري التعالي عليهم كما حدث في ملف النوبة إثر تهجيرات السد العالي.
سقطت ادعاءات القوة حينما هزمت الناصرية في كل حرب خاضتها وصرنا في ظلها بدلا من تبني الدعوة لتحرير الجزء المحتل من أراضي فلسطين صرنا بحاجة لتحرير أراضي مصر وسوريا وكل فلسطين.
ولما صارت مصر تابعا للسوفيت سقطت أيضا ادعاءات الاستقلال الوطني، وحينما سيطرت مراكز القوى على البلاد والعباد سقطت معها ادعاءات المساواة والقانون وعادت "الباشاوية" لمن هم أحط خلقا من أصحابها الأصليين، واكتظت السجون بالأبرياء فسقطت ادعاءات العدالة، وسجن الكتاب والصحفيين وأعدم أصحاب الأفكار وحملة الأقلام ليحل محلهم حملة المباخر وزوار الفجر.
ناصرية بلا ناصريين
جمال عبد الناصر قامة كبيرة في تاريخ مصر، شئنا أم أبينا، وشخصية أثرت في التاريخ بشكل كبير سلبا وإيجابا، أخفق في كثير من الأشياء ونجح في كثير من الأشياء، فالكثيرون ما زالوا يذكرون له السد العالي وقوانين الإصلاح الزراعي والضمان الاجتماعي وغيرها، لكن ما شوه صورة عبد الناصر أن الكثير ممن يتمسحون بردائه سيرتهم الذاتية والمهنية لم تكن بيضاء.
ولقد وصلت الأحزاب الناصرية من البؤس أنها صارت ملاذا لمن لا فكر له، ولا وعي عنده، وصار كل ساقط ولاقط ودعي وعديم وعى يتمسح بردائها، رغم أن عبد الناصر نفسه ما زال يحظى بحب ملايين من الناس في بقاع الأرض وفي وطننا العربي، وأن هناك كثيرا من المفكرين من بينهم من ينتمون للتيار الإسلامي نفسه يثنون على كثير من أعماله عملا بحكمة مؤداها "من حاول أن يبني وفشل خير ممن لم يحاول أصلا" خاصة في زمن الخيانة الذي نعيشه الآن والذي يقودنا بسرعة الصاروخ إلى الجحيم.
متى يعرفون أن الناصرية وهم من خيال بعض الوجهاء على كثير من الأدعياء؟

اقرأ المقالا كاملا على الجزيرة نت


الأحد، 15 يوليو 2018

سيد أمين يكتب : عن مسألة "اللافتة" في مصر

السبت 14 يوليو 2018
 انبهر مرافقي حينما شاهد يافطات "لافتات" كتب عليها "النصر لصناعة السيارات" موضوعة على مساحة كبيرة من الأرض "المسوَّرة" بحلوان وتساءل: وهل نحن نصنع السيارات؟
فقلت له: مصر يا صديقي دولة متطورة للغاية، ربما هي نظريا أكثر دول العالم تطورا، فلقد حباها الله بعباقرة يصنعون كل شيء من "الإبرة" إلى "الصاروخ"، في كل مجال لكن لا شيء يخرج عن طور "الفانتازيا" إما بسبب تدخل الأدعياء فيها حيث يدخل الغث على السمين فيفسده، أو بسبب فساد السلطة وعدائها للعلم والنبوغ.
نحن اخترعنا الطائرات ومركبات الفضاء والآليات التي تمشي في الأرض وتغوص في الماء وتطير في الجو، صنعنا الوحش المصري الذي يمشي ويسبح ويطير، واستخرجنا الكهرباء من الجاذبية الأرضية ومن الزبالة والماء والتراب والرمال والليمون وحتى البطاطس ومن داخل جسم الإنسان، صنعنا مادة تقوم بتمهيد الطرق وأخرى ترصفها وثالثة تقوم بتكسيرها، ورابعة تمنع وقوع الحوادث عليها، وصنعنا "كبسولات التحرير" التي تضيء مصر بلا وقود، نحن أيضا دولة متطورة طبيا وعالجنا داء الإيدز الذي أعجز أطباء العالم بأصابع "الكفتة"، وهكذا كل معجزاتنا الصناعية. مسألة اليافطة
المهم لدينا هو"اللافتة"، فإذا أردنا أن نصنع شيئا ننجزه بمجرد الانتهاء من تلك اللافتة، وكلما كبرت "اللافتة" كبرت معها عظمة الاختراع، فنحن لدينا مصنع للسيارات لم ينتج سيارة واحدة، ولدينا مصنع طائرات لم ينتج طائرة واحدة، وأنتجنا في الستينيات صواريخ بالستية عابرة للقارات بالكاد تسقط على بعد بضعة كيلو مترات من موقع إطلاقها، ولدينا مفاعل ذري في أنشاص يوجد فيه الكثير من الناس والأشياء إلا الذرة، وبدلا من المفاعلات الذرية الحقيقية نحن اخترعنا "مفاعلات الشمس"، ولدينا مركز لعلوم الفضاء ليس فيه "تليسكوب" ولا حتى طائرة ورقية، وقمنا بشراء قمر اصطناعي ولما ساهمنا بجزء من خبراتنا العميقة في إطلاقه تاه في الفضاء الفسيح وذهب من دون حتى أمل في الرجعة، وأيضا لدينا مصنع للهاتف المحمول أول ما ترى من إنتاجه حين فتحه عبارة "صنع في الصين"، ولدينا مصنع للتلفزيون والإلكترونيات ظهر فجأة واختفى في ظروف غامضة، وصنعنا روبوتا معجزة عرض في لقاء رسمي مع السيسي يغني على أنغام أغنية "جانجام ستايل " ثم اكتشف الناس أنه لا الروبوت ولا الأغنية من مصر.
مسألة اللافتة لم تتوقف في مصر عند حدود الصناعة والاختراعات، ولكنها امتدت أيضا إلي إنفاق مئات المليارات من الدولارات في مشروعات عادة ما يتم إضفاء صفة القومية عليها، ومنها مثلا مشروع "توشكى" الذي هللت له السلطة ثم انتهي به الحال إلى العدم، وهكذا مشروع الظهير الصحراوي والألف قرية والحزام الأخضر ومزارع النوبارية والصالحية والفرافرة ومشروع تنمية الساحل الشمال الغربي وظهيره الصحراوي والقرى التكنولوجية ومحطات الطاقة الهوائية والشمسية ومنخفض القطارة لتوليد الكهرباء، وإعادة تقسيم المحافظات ومشروع شبكة الطرق والمليون ونصف المليون فدان والمليون وحدة سكنية وتفريعة قناة السويس التي تحولت إعلاميا إلى قناة جديدة ولا جدوى منها سوى رفع الروح المعنوية للشعب، وهناك العاصمة الإدارية الجديدة التي هي في الواقع نفذت بالفعل ولكن كمدينة حصينة لخدمة رجال ومؤسسات الحكم ولتكون بعيدة عن متناول الشعب المصري.
وامتدت المسألة إلى الشعارات فطالما أنت هتفت "تحيا مصر" أو رددت نشيد الصاعقة أو النشيد الوطني فأنت إنسان وطني ولا يهم بعد ذلك مسلكك، يمكنك أن تسرق وأن تختلس وتنصب وتنهب وتقتل، ولا يمكن لأحد أن يدينك.
سلوك شعبي
ولأن الناس على دين ملوكهم امتدت مسألة "اللافتة" حتى الشعوب، حيث صار الكثير من أصحاب المحال التجارية يعددون في اللافتات التي يضعونها في حوانيتهم مهاراتهم أو البضائع والخدمات والحرف التي يقدمونها، ولكن سرعان ما تكتشف أن ثلاثة أرباع ما كتبوه في تلك اللافتات مجرد "تفخيم" ويأتي على سبيل المثل الشعبي "أبو بلاش كتر منه".
ويجب هنا أن نذكر أن أحد محافظي القاهرة فيما قبل ثورة يناير – أعتقد أنه عبد الرحيم شحاتة - اهتم بمكافحة هذه الظاهرة وراح يصدر قرارا بسحب ترخيص أية منشأة أو محل تجاري يكتب في اللافتة المدونة على حانوته خدمة أو بضاعة لا يقدمها.
كما نجد هناك أحيانا الصحفي الذي لم يكتب حرفا، والمهندس الذي لم "يهندس" أبدا، والمحامى الذي لا يعرف القانون ولم يقف في محكمة، بل وجدنا وزيرا راسبا في الإملاء، وقاضيا كانت في الحقيقة راسبا عندما كان في مرحلة الثانوية العامة وهكذا، ومع ذلك كل هؤلاء لا يكتفون بكتابة توصيفاتهم المزورة بل يضيفون إليها المشوقات التي تعزز نبوغهم، كالصحفي الذي هو محلل سياسي وأديب، والمهندس صاحب الشهادات العالمية، والمحامي الدولي وغير ذلك.
وبصورة هزلية، قد تجد أيضا أصحاب عربات الفول والكشري والحمص والترمس والكبدة وغيرها مع تواضع شأنها يكتبون عليها عبارات تضخم منها.
فكما أهملت نظم خير أجناد الأرض كل نبوغ يظهر في بر مصر بل وحاربته وراحت تغتصب العبقرية لنفسها، فصنعت وابتكرت وكشفت أشياء لا حصر لها ولكنها كلها "افتراضية" تغلب عليها صفات "الهزلية"، لا تتخطى حقيقتها حبر اللافتات أو مانشيتات الصحف التي كتبت عنها، مع كثير من الرقص والاحتفالات.
انتقل الداء إلى الشعب المصري فتحولت السياسة والأحزاب والحركات والجماعات والشركات والنقابات والمحال في مصر إلى مجرد لافتات.
لقد تحولت مصر الى لافتة كاذبة.