في ليلة الثالث والعشرين من أغسطس/آب الماضي، وعشية إجراء انتخابات في 7 مراكز اقتراع تم تأجيلها لهذا اليوم بسبب قيام مخربين بحرقها في الجولة الأولى، أعلنت المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا عن نتائج متعثرة للمجموعة الثانية من الانتخابات البلدية، التي جرت في يوم 18 من ذات الشهر.
الملاحظ أنه قبل إعلان النتائج بأيام، بل وقبل بدء الانتخابات نفسها، راحت فضائيات ومواقع إخبارية عربية بعينها تغرق شبكة الإنترنت بأخبار تهلّل لما أسموه سقوط الإخوان وأنصار سيف الإسلام القذافي، فتستضيف
من وصفتهم بالمحللين والخبراء في الشأن الليبي ليجمعوا على أن الشعب الليبي لفظ حكم الميليشيات في طرابلس، وهو الأمر الذي يكشف عن تنامي حالة التربص وما يُعدّون له في حال فوز قوائم ليست على هواهم.ورغم أن هذه “الرجمة” الإعلامية كانت سابقة لأوانها وغير دقيقة الأحكام، فإنها حاولت تصوير الأمر بوصفه انتصارًا لـ”الرجمة”، وهي القاعدة العسكرية التي يسيطر عليها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي، ويتداول الليبيون ذكرها بوصفها تشير إليه، وذلك على خلاف الحقيقة، حيث إن غالبية القوائم الفائزة هي قوائم مستقلة، قطعًا هي لا تعبّر عن حفتر ومن معه، ولكن ليس من المستبعد أبدًا تعبيرها عن التيار الإسلامي وأنصار الزعيم الليبي السابق معمر القذافي رغم التناقض بينهما.
المثير للدهشة أن المجموعة الأولى من انتخابات البلدية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2024 سيطر على مجملها الإسلاميون، وبالتالي فهم موجودون أصلًا في المجالس البلدية، ولذلك لا يمكننا اعتبار نتائج المجموعة الثانية هزيمة لهم، ولكنها في الواقع هزيمة لقوائم حكومة حماد غير المعترف بها دوليًّا.
دلالات أخرى
والحقيقة أنه مع التعثر السياسي والتدهور الأمني الذي امتد منذ 2011 حتى الآن، ومع انسداد الأفق في تحقيق الاستقرار والديمقراطية، لجأ الليبيون إلى الهروب من انتماءاتهم السياسية والعشائرية من أجل تحقيق غرض أسمى وأهم، وهو إفشال مخططات تعميق الانقسام المصطنع بين غرب البلاد وشرقها، ومنع نشوء حكم عائلي متخفٍّ برداء الجمهورية، خاصة بعد قيام اللواء حفتر بتعيين ابنيه في قمة الهرم العسكري: صدام نائبًا له في قيادة ما يسمى “الجيش الوطني الليبي”، وخالد رئيسًا لأركانه، مع تكريس السلطات في باقي أفراد عائلته.
ومما يؤكد حرص الناخب الليبي السياسي والوطني على وأد الانقسام أن جميع القوائم الفائزة هي قوائم مستقلة، مثل: “السارية” في طرابلس المركز، و”البصمة” في زليتن تليها “الرسالة” الإخوانية، و”وفاق عين زارة” في عين زارة، و”إعمار” في “أبو سليم”، و”البناء والإعمار” في المنشية، في حين حققت قوائم تُنسب لسيف الإسلام القذافي نجاحًا في 15 منطقة من ضمنها طرابلس المركز والعزيزية، حيث كان مقر حكم والده.
هذا التصويت –إن لم يتم الطعن فيه– قد لا يُحسب لصالح قوائم الإسلاميين بلا شك، ولكنه يُحسب لهم في المقاعد الفردية. وعلى كل، فهذا التوجه يعني الهروب من عسكرة الدولة كما يريدها حكام الشرق، لا سيما بعد تلطيخهم ليبيا بعار التطبيع مع إسرائيل، وهو الإجراء الذي أقدم عليه حفتر عام 2021 وأرسل ابنه صدام للقاء مسؤولين صهاينة طالبًا منهم دعمه في السيطرة على ليبيا مقابل التطبيع الكامل معهم، فضلًا عن فساد اقتصادي متمثل في تورطهم في سلوكيات مشينة عدة بدءًا من الاتجار بالكبتاغون وصولًا إلى البشر.
والدلالة الأصدق للانتخابات في الغرب الليبي أنها جرت بشكل شفاف وديمقراطي، سمحت فيه السلطات –التي يحلو لخطاب حكومة الشرق اتهامها بالتطرف– للشعب بأن يُعبّر عن نبذه لعناصرها في الصناديق، وذلك يؤكد ثقتها في نفسها وناخبيها متى جد الجد في انتخابات أكثر أهمية.
ولو طرحنا أرضًا كل تجارب التعنت والمراوغة واصطناع العراقيل طوال 14 عامًا بعد الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي، وليّ عنق الشعب عبر الاستيلاء المسلح على مقدراته من آبار نفط ومعادن وثروة، وصدقنا أن الشعب الليبي قد نبذ الإسلاميين والقذافيين معًا، فدلالة ذلك –إن صحت أمانيكم– أن الشعب تغيّر مزاجه، وبالتالي توافرت لكم كحكومة ظل فرصة عليكم اقتناصها كي تأتوا أنتم بالصناديق!
خطة تيتيه
إذن فما يمنعكم من استغلال الفرصة والتكتل خلف خطة المنسقة الأممية من أجل الوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية يمكن من خلالها استكمال عملية تحرير طرابلس والغرب الليبي من دون حرب؟
الفرصة مواتية، فها هي المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتيه، تعرض خريطة طريق جديدة تمتد بين 12 و18 شهرًا، تفتح المجال أمام انتخابات رئاسية وتشريعية صارت حلمًا بعيد المنال لدى الليبيين في الغرب والشرق على حد سواء. إلا أن عقيلة صالح، رئيس البرلمان –وهو برلمان سقطت ولايته منذ بضع سنوات– يؤيد هذه الخطة، ولكنه في نفس الوقت يطعنها في مقتل بقوله إن حكومة أسامة حماد التي عيّنها في الشرق الليبي هي حكومة البلاد الشرعية.
وذلك في حين ترى حكومة الدبيبة الشرعية في الغرب الليبي أن الخطة ممتازة وسيدعمونها بكل قوة، ولكن الأمر يحتاج إلى ضوابط صارمة تمنع صياغة قوانين انتخابية تُفصّل على مقاس شخص بعينه.
التكهنات تزداد بأن أعمال إفشال خطة تيتيه بدأت قبل طرحها عبر إثارة الفوضى في الغرب الليبي، تارة عبر استهداف بعثة الأمم المتحدة بالصواريخ، وتارة عبر حرق لجان انتخابية، وتارة عبر اغتيال العسكريين مثل محاولة اغتيال معمر الضاوي آمر كتيبة “55 مشاة” في المعمورة بالغرب الليبي، وقد قُتل 12 من المهاجمين وأُسر آخرون، واتضح أنهم مرتزقة من جنسيات إفريقية.
الليبيون فرحوا بالانتخابات وخطة تيتيه، وازدادت الآمال في لمّ شمل البلاد، والأيام القادمة ستكون على ليبيا إما استقرارًا وإما مزيدًا من التدهور.
https://ajm.news/12qsm2
تعليقات
إرسال تعليق