مرّ عامان على الطوفان المبارك الذي تفجّر من أجل تحرير الأرض المسلوبة، تتالت فيهما المذابح الإسرائيلية اليومية ضد شعب غزة المحاصر منذ عقود، وشاهدنا فيهما نسخةً مكثفة ومعمقة من أعمال الإبادة التي كانت تجري ببطء وفي صمت طيلة ثمانية عقود مضت، ولولا استبسال المقاومة الفلسطينية ما وصلنا إلى نسخة هذا السلام الهش.
عامان قدّمت فيهما الحكومات الغربية صورةً واضحة أيضًا لانحيازها الأعمى واللاإنساني ضد شعب هذه البقعة الحرة، فيما قدّم العرب صورة أخرى مشوّهة مليئة بالخذلان والعمالة.
والسؤال يأتي وقد انتهت المعركة، فيما أن الحرب لم تنته بعد: كيف «صمد» هؤلاء؟ وما عذر «صمت» أولئك؟
للحقيقة، إن الأمر يعود لاعتقاد غربي عنصري، سايرته بعض النظم العربية، يرى أن السمت الإسلامي لأي شخص يدينه، وقتله حينئذ لا يحتاج لتبرير أو تحرٍّ للعدالة، فيما أن ينبوع صمود هذه الشخصية هو وازعها الديني وتربيتها الروحية.
وغني عن البيان أيضًا أن هناك «اعتراضًا» غربيًا ثابتًا منذ الاستقلال الوهمي في منتصف القرن الفائت على وصول التيارات الراديكالية للحكم في بلداننا العربية، ولكن هذا الحظر يأتي بدرجات متفاوتة، فيكون مشددًا وباتًّا وخشنًا لو كان يخص تيارًا إسلاميًا فيُمنَع من ممارسة السلطة إجمالًا، وتقل شدته قليلًا لو كان قوميًّا بحيث يمكن السماح له بالتمكُّن من السلطة لكن يُمنَع من النهوض والارتقاء، ثم الدرجة الثالثة وهي أن يكون اشتراكيًا وطنيًا، وهنا يتم وضع العراقيل أمامه حتى يفشل ويُنبَذ جماهيريًا. ونحن هنا سنخص حديثنا عن الحظر الإسلامي.
يزرع ولا يحصد
إذا كانت القاعدة المنطقية تقول إن من زرع حصد، وإن من قاد النضال من أجل استقلال بلاده يحظى بعد استقلالها بالحفاوة والتقدير والتكريم الواجب، وينبغي أن يُكافأ ويُترك له – أو للتيار السياسي المنتمي له – دفة القيادة ليسهم بقدر كبير في التشريع للعهد الجديد، وذلك كمكافأة واجبة له نظير ما بذله دون سواه من ضريبة في النفس والمال والثكل والأمن والطمأنينة وراحة البال، إلا أن الأمر في بلداننا الإسلامية والعربية يقع على النقيض تمامًا؛ حيث ينال أمثال هؤلاء الفدائيين الثائرين، والتيار الفكري الذي ينتمون له، كثيرًا من التجاهل والإقصاء، والتنكيل والتخوين والتشكيك في النوايا، وربما القتل.
لا أقصد بالقطع أفرادًا، فأغلب قادة الاستقلال في بلادنا العربية قضوا قبل أن تطرق الحرية أبواب بلادهم، فيما ظلت هي بعدهم تنتظر طويلًا عند تلك الأبواب منذ عقود، ولم يجنِ أحفادهم أي ثمار كتلك التي جناها من نافقوا المستعمر القديم وأشكاله الجديدة، ولكنني أقصد الحواضن الحزبية والفكرية التي أنجبت هؤلاء الأبطال، والتي غالبًا ما يتم إقصاؤها أيضًا.
الأزهر الشريف
وكما أن المدارس الإسلامية في الهند وأفغانستان وباكستان وكل دول العالم الإسلامي هي من ينتسب لها معظم المقاومين في هذه البلدان، فإن الأزهر الشريف كان تاريخيًا واحدًا من تلك الحواضن الكبرى لهم في جميع ربوع الوطن العربي أيضًا، ما يفسر السر وراء استهدافه ومنتسبيه بصورة عنيفة في كل الحملات التي استهدفت أمتنا قديمًا وحديثًا.
ويحكي التاريخ أنه رغم ضعف أدواتهم القتالية وهزالتها، كان مشايخ الأزهر الشريف هم من يقودون النضال ضد الحملة الفرنسية، وكانوا هم وأسرهم أكثر من عانوا التنكيل من قبل المستعمر، فيما طال التنكيل مسجد الأزهر نفسه الذي قُصف بـ«القنابر» ودنسته خيول الغزاة، وقتل بين أروقته الأبرياء المحتمون به.
وكان سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر طالبًا أزهريًا، وتربى في أكنافه التاجر مصطفى البشتيلي مفجر ثورة القاهرة الأولى إبان الحملة الفرنسية الذي ضحى بجاهه وثروته.
وكان إبراهيم الورداني الصيدلي الذي قتل الخائن بطرس غالي باشا 1910 من أتباع الحزب الوطني ذا التوجهات الإسلامية آنذاك، ومنتميًا لجمعية «التضامن الأخوي» السرية التي اغتالت السير لي ستاك سردار الجيش المصري في السودان، وحاولت قتل المعتمد البريطاني اللورد كيتشنر.
المقاومون الأوائل
كما كان ممن تلقوا التعاليم الدينية وحفظوا القرآن الكريم القاضي وابن القاضي محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث قاد المقاومة المغربية ضد الاحتلالين الفرنسي والإسباني طيلة عقود، وعانى السجن والنفي حتى مات في مصر. وبالجوار قاد الأمير بكار ولد أاسويد الجهاد ضد الفرنسيين في موريتانيا، وقد عرف عنه حفظه للقرآن ودعوته الإسلامية.
وفي الجزائر، كان العشرة الكبار المهندسون للثورة هناك ينتمون في أغلبهم للتيار الإسلامي؛ فكان العقيد محمد شعباني الذي تشبع بروح جمعية العلماء المسلمين «وكان نصيبه الإعدام بعد الاستقلال»، وكان أحمد زبانة والعربي بن مهيدي وحسيبة بن بوعلي أعضاء في حركة الكشافة الإسلامية الجزائرية، وأيضًا دغين بن علي المعروف بالعقيد لطفي خريج مدرسة إسلامية، وكان «امحمد بوقرة» وجبارة بشير من حفظة القرآن، وهكذا.
ويكفي أن نقول إن أول أعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي بتونس انطلقت في 15 يونيو 1881 من مسجد عقبة بمدينة القيروان، وفي 1908 أسس «علي باشا حامبة» حركة وحزب «تونس الفتاة» ذا التوجهات الإسلامية. وقد أزعجت هذه الحركة فرنسا بشدة فحلّت الحزب سنة 1911م وشتّتت شمل القائمين به.
وبالقطع نعرف عظمة مقاومة عمر المختار ورفاقه، والحركة السنوسية في ليبيا ضد الاحتلال الإيطالي، ونعرف طبيعة توجهاتهم الفكرية والدينية، وكذا الثورة المهدية في السودان وتوجهاتها الإسلامية، وقوات الدراويش الصوفية التي قاومت الاحتلال البريطاني للصومال بقيادة محمد نور المعروف بـ«الملا المجنون».
وما سرى في المغرب سرى أيضًا في المشرق، حيث شهد جامع الحيدر خانة ببغداد بداية ثورة العشرين في العراق، بعد أن تحالفت طبقة الأفندية التي كانت عماد فئة موظفي الدولة العثمانية مع طبقة الملالي وشيوخ القبائل لطرد المستعمر البريطاني ونجحوا نجاحًا مبهرًا، لولا الخيانات.
تعليقات
إرسال تعليق