مشاركة مميزة

مصر وفلسطين بين احتلالين ومقاومتين - سيد أمين

 

في خضمّ مظلم من الجهل الذي تمت صناعته بحرفية وتمعّن لتمرير مثل هذه التدليسات، وفي محاولة لوصم المقاومة الفلسطينية بالتهوّر ودفعها للاستكانة والخضوع، ترتفع أصوات نشاز تحاول إقناع الناس بأن خير نضال ضد الاستعمار هو القبول به أو الاستسلام له، ثم ابتلاعه حضاريًا، أو الانتظار عليه حتى يفشل فيجلو بمحض إرادته.
وتنطلق تلك التدليسات تحت غطاء دعاوى فكرية استخدمت في غير محلها، مثل «عدم إلقاء النفس إلى التهلكة»، و«الحاجة للتدبر والتعقل»، و«التعايش السلمي»، و«التسليم بالأمر الواقع»، متجاوزة حقائق التاريخ بادعائها أن التفاوض كان هو الدافع لجلاء الاستعمار الإنجليزي عن مستعمراته كما حدث في الهند وباكستان ومصر وفلسطين نفسها، ولم يجْلُ جراء مقاومة المقاومة، غاضًّا الطرف عن أسباب الجلاء الفرنسي عن الجزائر والمغرب العربي.

فروق جوهرية

الحقيقة أن هناك فروقًا جوهرية بين الاحتلالين الإنجليزي لفلسطين ومصر وغيرهما، والاحتلال الصهيوني لفلسطين؛ فالأخير احتلال إحلالي استيطاني، جاء المستعمِر فيه بشعب استجمعه من كل بقاع العالم ليحلّ محلّ شعب الأرض الأصلي بعد إبادته أو تهجيره، ثم يحاول بعد ذلك السطو على تراثه وحضارته وتاريخه، ويصبغه بصبغته، ويذرف الدموع في دعايته السوداء بأنه لا أرض له غيرها ليذهب إليها.

أما الاحتلال البريطاني فلم يكن الأمر كذلك البتة؛ فلا هناك شعب بريطاني جاء ليحلّ محلّ شعبنا، ولا ادّعى أن بلادنا هي في الأصل بلاده أو امتداد لتاريخه القديم. كما أن احتلاله جاء تحت شعار «الانتداب»، بمعنى أنه لم يأتِ ليبقى دائمًا، أي إنه انتُدب للتواجد عسكريًا من أجل هدف مؤقت ما، باطنه تأمين مصالحه الخارجية وكسب نقاط قوة في صراعاته مع القوى الكبرى ونهب ثروات هذه البلاد، ومحاولة التأثير ثقافيًا عليها بما يخدم مصالحه الدينية والثقافية، وظاهره حماية شعوب هذه المستعمرات وفرض المدنية عليها.

وفي الحالة الأولى نجد أن الاحتلال الصهيوني ينتشر فوق كل الأرض بصورة شعب أو جيش، ما يخلق حتمًا احتكاكًا سلبيًا مع الشعب الأصلي، لذلك تصبح المقاومة لدى الفلسطينيين ضرورة ملحّة آنية ومستمرة، لأن الخصم يحاول إبادتهم أو إزاحتهم بعيدًا. أي إن الكيان يريد إلغاءهم تمامًا وليس التعايش المشترك معهم، بدلائل واضحة منها أنه يصنّف دولته بأنها «دولة يهودية»، دون أي اعتبار للمختلفين، ويقضم الأراضي ويبني المستوطنات التي يحرّم على الشعب الآخر حتى من دخولها، وليس العيش فيها.

أما في الحالة الثانية، فالاحتلال الإنجليزي كان يتمركز فقط في ثكناته العسكرية، التي هي عادة بعيدة عن مناطق العمران والمناطق المدنية، وبالتالي لم يكن هناك ثمة احتكاك مباشر بينه وبين الشعب، فضلًا عن أن إدارة البلاد كانت متروكة لحكامها المحليين، بخلاف المشهد الصهيوني في الداخل المحتل، وإن كان ذلك لا يعني الثناء على عدم مقاومته.

ولذلك فالفرق بين الاحتلالين فرق جوهري عميق يمكن اختصاره بأن الأول يريد إلغاء سكان البلاد، وبالتالي يستحيل القبول به، والثاني ينهب ثرواتهم مع الإبقاء عليهم، فيمكن الصبر عليه لحين توافر إمكانيات مقاومته.

ظروف الجلاء البريطاني

ومن قال إن الشعبين المصري أو الفلسطيني لم يقاوما الاستعمار البريطاني، في حين أن اسم الذراع العسكري لحركة حماس كان تخليدًا لاسم المجاهد الأزهري عز الدين القسّام، وهو مقاوم شامي استُشهد برفقة ثلّة من الفلسطينيين هاجموا قواعد للجيش الإنجليزي عام 1935 في جنين بالضفة الغربية، وذلك بعد جلائه من الساحل السوري بعد أن استولى الفرنسيون عليه، وهُزمت المقاومة بسبب فارق العدة والعتاد.

وكانت مقاومة الاحتلال في مصر أيضًا مشابهة تمامًا للمقاومة في فلسطين وسوريا والعراق والجزائر وباقي بلدان المغرب العربي، حيث قاد أحمد عرابي ورفاقه البارودي والنديم المقاومة، ولكنهم هُزموا لذات الأسباب. واستمرت أعمال المقاومة في كل مناطق الاحتكاك، وإن كان يغلب عليها طابع الأعمال الفردية، كأحمد الشرقاوي، وإبراهيم الورداني، وعزيز المصري، والشاب سيد عسران – 15 عامًا – الذي قتل الميجور ويليامز قائد الاستخبارات البريطانية العسكرية في بورسعيد بقنبلة.

ويبقى أمر مهم ينبغي العروج عليه، وهو أن الاحتلال البريطاني لم يجْلُ من مستعمراته عبر المقاومة السلمية التي يروّجون لها، ولكنه جلا منها لحدوث تغيّر جذري في السياسة الدولية بعد قيام الاتحاد السوفيتي، وخشيته من أن يقوم بتحريض شعوب المستعمرات على المقاومة وتمكينه من أدواتها.

ورغم جلائه الظاهر، فإن الاستعمار في الواقع غيّر طريقة استعماره فقط، حيث اعتمد طريقة عُرفت فيما بعد بطريقة الفرنسي جاك فوكار التي كلّفه بها الرئيس الفرنسي شارل ديغول، وهي الجلاء وتسليم المستعمرات لعملاء فرنسا العسكريين، تمامًا كما نصح مكيافيللي أميره باتّباعها في استعمار الإمارات والممالك المجاورة.

قاوم ولا تُقاوِم

الغريب أن من كانوا قبل الطوفان يعيبون على المقاومة في غزة صمتها على الجرائم الصهيونية ويقولون إن هدفها الجلوس على كراسي السلطة ولم تعد بحاجة للكفاح المسلح، هم أنفسهم من يعيبون عليها أنها قاومت طيلة عامين، وقالوا إنها بالطوفان أعطت إسرائيل الذرائع للعدوان، بل وتعجبوا من قولها إن الكيان ليس بحاجة أصلًا لذرائع ليقتل ويبيد الفلسطينيين.

وحينما تمسّكت المقاومة باتفاق السلام الأخير كيلا تمنح نتنياهو الذرائع للعودة إلى الإبادة، راح هؤلاء أنفسهم يتّهمونها بازدواجية المعايير في مسألة الذرائع تلك، مع أن الأمر هنا مختلف تمامًا عن سابقه، ففي الاتفاق الأخير هناك عالم يراقب كل صغيرة وكبيرة، وهذا لم يكن متاحًا قبل الطوفان. وهناك أيضًا ضامنون دوليون لمراقبة خرق الاتفاق، وهذا لم يكن متاحًا من قبل أيضًا، والأهم أن المقاومة بحاجة إلى الوقت لإدخال المزيد من المساعدات وإغاثة الشعب، كما أن الحرب خدعة في الأساس، وليس كل ما يُعرف يُقال.

…..

جحا لم يُعجبهم راكبًا ولا سائرًا ولا حامل الحمار.

المصدر: الجزيرة مباشر

https://ajm.news/grh97r

تعليقات