مشاركة مميزة

رفضوا «أوبلاست» واغتصبوا فلسطين - سيد أمين

 في نهايات عشرينيات القرن الماضي، قرّر الديكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين إنشاء منطقة حكم ذاتي لليهود على قطعة أرض تتميز بوفرة المياه، مساحتها 36,271 كيلومترًا مربعًا في إقليم «خاباروفسك» جنوب شرقي روسيا قرب الحدود الصينية، بما يقترب من مساحة سويسرا. ولما تم إنجازها عام 1934 سُمّيت باللغة الروسية باسم «المقاطعة اليهودية» أو «أوبلاست»، وعاصمتها «بيروبيجان».

وكانت اللغة «اليديشية» التي يتميز باستخدامها اليهود الغربيون لغتها الرسمية، واتّخذت من النمر شعارًا لها، وعلمها من ألوان الطيف السبعة التي تشبه ألوان علم «الرينبو» القديم ذي السبعة ألوان قبل أن يصبح ستة ألوان فقط فيما بعد. ولقد توافد إليها آنذاك نحو 50 ألف يهودي من كافة أراضي الإمبراطورية السوفيتية، ولا يزال الآلاف منهم يقيمون فيها حتى الآن.

المدهش أن «أوبلاست» أنشأها السوفيت بمحض إرادتهم في أراضيهم بعد «وعد بلفور» المشؤوم بنحو 11 عامًا، وقبيل إقامة الكيان الإسرائيلي بنحو 20 عامًا، وذلك في إطار تقسيم عرقي سعى له السوفيت شمل العديد من العرقيات لأسباب تتعلق بالتفاهم والسلام الاجتماعي وزيادة الإنتاج والأمن وغيرها. وحينما تفكك الاتحاد عام 1991 استقلت كل مكوناته العرقية عدا هذا المكون!

ونذكر للسوفيت هنا موقفين متناقضين تمامًا: الأول، كان مع المبادئ الشيوعية المعروفة التي يتبنونها والتي تلغي التمييز على أساس ديني، بل وتلغي الدين أساسًا، والثاني، هو أن السوفيت كانوا يهدفون من إنشائها حصر النشاطات الخاصة بالأفكار الرأسمالية والاستحواذية الصهيونية داخل هذا المكان فقط دون وصولها لباقي مقاطعات الاتحاد، لما تتضمنه من تعارض مع الفكر الشيوعي الذي يتبنونه. إلا أنهم في نفس الوقت كانوا أول المُعترفين بإسرائيل عام 1948، وهي دولة ذات فكر رأسمالي استعماري ينتمي للقوى الغربية المناهضة لهم!!

نفهم ذلك الشغف الغربي بإسرائيل، ولكن لا نفهم سر الشغف الروسي بها؛ فقد نص الدستور الحالي لروسيا، وهي الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، بأن هذه المنطقة – أي «أوبلاست» – هي الوحيدة التي تتمتع بحكم ذاتي في روسيا، وإنها إحدى منطقتين خالصتين لليهود في العالم بالإضافة إلى إسرائيل!

أطروحات رينوف

أُقيمت دولة إسرائيل واستطاع الغرب تجنيد العالم في خدمتها بوصفها الوطن الوحيد لليهود، لكن الناشطة البريطانية من أصل أسترالي وراقصة الباليه السابقة «ميشيل سوزان رينوف» لم تتوقف عن تذكير العالم بها، وأسست منظمة «جمهورية اليهود» التي حملت على عاتقها مهمة التعريف بتلك الحقيقة بوصفها الحل الآمن والسلمي والجاهز للقضية الفلسطينية، بما ينهي جملةً وتفصيلًا كل توترات الشرق الأوسط، مطالبةً الجمعية العمومية للأمم المتحدة برعاية هذا الطرح، وأن من يجب عليهم الرحيل من فلسطين المحتلة هم اليهود؛ وليس الفلسطينيين.


وأكدت في مقابلات صحفية بأن «أوبلاست» نالت رضا الكثير من يهود العالم من غير الروس آنذاك وسعوا للإقامة فيها عند تأسيسها، وتلقت تأييدًا من يهود أمريكا، بمن فيهم أينشتاين نفسه، الذي أسس مع آخرين وقتها هيئة لتنظيم هذا الدعم، وتوافد عليها آلاف اليهود من أوروبا وأمريكا، واستقروا بها حتى أنهم أسسوا حياة نيابية وحزبية تقوم على مبدأ «يهودية الدولة» كهذا الحزب الذي أسسه جوزيف ليفين.

وكانت رينوف من الجرأة لدرجة قيامها في ذكرى المحرقة اليهودية بنشر إعلان في صحيفة «التايمز» يدعو البريطانيين لتذكر معاناة 3.5 مليون لاجئ فلسطيني، فيما شنّت وسائل إعلام غربية حملة تشكيك واسعة ضدها متهمةً إياها بأنها من أسرة متواضعة رغم حصولها على لقب «ليدي» الذي لا يُمنح إلا للسلالات الملكية، وأنها تقوم بأعمال نصب وتدليس وابتزاز، وذلك عقب تأييدها حق الناس في التشكيك في حقيقة «الهولوكوست»، وتواصلها مع عدد من منكريه الغربيين، وتقديمها محاضرات في ذلك، ولمواقفها المعارضة للصهيونية ومناصريها، وفضحت الساسة الغربيين بقولها: ليس شرطًا أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا متطرفًا.

مميزات الكيان الأصلي

ولكي نفهم مميزات الكيان الأصلي لمنطقة الحكم الذاتي لليهود مقارنة بالكيان المغتصب، سنجد أن مساحتها تزيد عن مساحة إسرائيل الحالية بنحو الثلث؛ 36,271 كم² مقابل 22,145 كم².

وصلت نسبة الكثافة إلى شخصين فقط لكل كم² بما يعني أنها فارغة تمامًا، في حين بلغت هذه النسبة في إسرائيل نحو 440 نسمة/كم²، فيما يعيش الفلسطينيون أصحاب الأرض في ظل كثافة 468 نسمة/كم² في الضفة و 5,867 نسمة/كم² في غزة وهي الأعلى في العالم.

تمتاز المنطقة القديمة بتعدد مواردها الطبيعية، أهمها خصوبة التربة، حيث يشقها نهران وتهطل عليها الأمطار بشكل كثيف مما تسبب في خصوبة التربة ووفرة المحاصيل وكثرة الغابات، فضلًا عن احتياطيات ضخمة من القصدير والمعادن الثمينة.

والأهم من هذا وذاك، أن اليهود في «أوبلاست» ما كانوا سيبقون في هذا الصراع مع أي جنسيات أخرى، وما كان سيطولهم هذا السواد الذي لطختهم به الصهيونية، وكانت دولتهم ستنال استقلالها تمامًا، كما حدث مع قوميات سوفيتية أخرى استقلت بعد انهيار الاتحاد، لكنهم فقط يتعيشون على هذا الصراع.

التعيش على الصراع هو الذي جعلهم يطلبون من السوفيت استبدال هذه المنطقة بمنطقة أخرى يختارونها في أوكرانيا أو في القوقاز، لكنه رُفض نظرًا لحساسية تلك المنطقة واتصالها بأوروبا الغربية. فما أن نشأت إسرائيل حتى فرّوا لمنطقة صراع جديد، أكثر سخونة وأكثر ظلمًا للآخرين.

ارتضوا أن يكونوا أدوات لمخططات غربية، دفعتهم إلى الانتحار الحضاري في نهاية المطاف.

اقرأ المقال على الجزيرة مباشر

https://ajm.news/6qxt7u


تعليقات