بقلم سيد أمين
لست أدري ما الذي يبرر تلك الموجة السياسية العارمة السائدة في وطننا العربي في تقديس الشخص لا الوطن، والبحث عن الانتصار للولاء بدلا من الانتصار للحقيقة، والاعتناء بالإجراءات والصورة وليس بالجوهر والنتيجة، مع أن حكمة الزمان تقول إن العِبرة بالنهاية.
ورغم النهايات الواضحة وضوح الشمس، فإن البعض يصر على المراوغة والخداع، والاستمرار في تقديس “تابوهات” أضرت أكثر مما أفادت، وقد يكون هؤلاء النسّاك في محرابها هم أنفسهم من متضرريها، لكنهم فقط لا يحسبون الأمور بمنطق العقل والحقيقة، ولكن بمنطق “المكابرة”، والإصرار على الانتصار للولاءات الزائفة، وكأننا في مباراة شطرنج، وليست أمورا تحدد مصائر أوطان وأرواح بشر.
مشهد واحد
خذ لقطة من هذه في مصر، فمثلا، ليس سرّا أن اتفاقية “السلام” مع إسرائيل وشروطها المجحفة المعلنة -وغير المعلنة التي باتت معروفة للجميع- طوّقت مصر بشدة لعقود، وحرمتها تماما من تنمية سيناء والاستفادة القصوى والمثلى من مواردها.
وليس سرّا أيضا أن مصر أُجبرت على توقيع تلك الاتفاقية لأنه لم يكن باليد حيلة لاسترداد أراضيها، كما سوّق الإعلام المصري لفترة من الزمن.
وقبل ذلك، خاضت مصر حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي استُشهد فيها آلاف الجنود وثكلت بسببها آلاف الأمهات، وأُنهك فيها الاقتصاد المصري بشدة.
وإذا كان الحال كذلك في الانتصار، فما بالك بنكسة يونيو/حزيران 1967 التي هي في الواقعة هزيمة نكراء لم تحدث في تاريخ حروب العالم، حيث أبيد عشرات الآلاف من الجنود المصريين دون حتى أن يتمكنوا من إطلاق الرصاص في الهواء، ولأن تفاصيل ما جرى كثيرة وجميعنا يعرفها فلا داعي لتكرارها، ولكن يكفي أن نقول إنه لولاها ما حدث ما بعدها، وما وقعنا في فخاخ اسرائيل الآن.
فضلا عن أننا في غنى عن الحديث عن تأثيرها السياسي والاقتصادي والنفسي على الوطن وشبابه، وتأثيرها العسكري الذي انعكس بصورة كارثية على ما تبقى من فلسطين والجولان وسيناء، والذي لا يزال سمه ساريا إلى اليوم.
فإذا كانت كل هذه المصائب هي مجرد آثار معلنة لهزيمة عسكرية واحدة حدثت منذ أكثر من نصف قرن، من هزائمه المتعددة في اليمن والكونغو و1956 وغيرها، أليس من الطبيعي أن نعتبر أن جمال عبد الناصر الذي يناسب هذا الشهر ذكرى ميلاده “أبو الهزائم”، بدلا من تقديسه واعتباره النموذج الكامل للوطنية دون دليل واحد؟
ظاهرة صوتية
ولا أرى بطولة إطلاقا في أن يخطب الرجل بأنه سيلقي إسرائيل ومن يقف وراءها في البحر، فهذا قد يكون مشهدا تمثيليا لا يتناسب مع المواقف الجادة، ولكن البطولة أن تفعل ذلك حقا بها، وتحرر الأراضي المحتلة لا أن تضاعفها للقادمين بعدك.
ولعله ليس من الصدفة أبدا أن كل معركة تخوضها تخسرها خسارة فادحة، دون مسوغات موضوعية لذلك، لا سيما أن إسرائيل آنذاك لم تكن إلا في حجم محافظة مصرية دون امتلاكها سلاحا استراتيجيا كما هو الآن، وكان حجم التعاضد العربي والإسلامي والعالمي جبارا، لدرجة أنه بإمكانه مع قليل من الجهد العسكري لدول المواجهة خنق إسرائيل وتحرير فلسطين كاملة في أيام معدودات، لكن الإرادة في ما يبدو كانت مخصصة فقط للقطة.
هذا نموذج لإخفاق واحد من إخفاقات قائد قدسوه لدرجة أن أحدهم وصفه بأنه “آخر الأنبياء”، ولا يزال آخرون يمارسون تلك النسك رغم الانكشاف الكامل للمشهد، وما زالت أنقاض الدمار تملأ المكان.
حب من طرف واحد
ولطالما تساءلت عن السبب الذي يدفع قامات كبيرة إلى السقوط في هذا الفخ المهين، لكني سرعان ما أتدارك أن كبرها هذا ربما جاء فقط بسبب تسليط الإعلام الأضواء عليها.
وفي حالة هؤلاء المتيمين القدامى والمحدثين، نكتشف أنهم يعيشون حبا من طرف واحد، يهرول خلاله المحبون خلف المحبوب ويتفنون في استخراج المآثر له، في حين أن المحبوب لا يبالي، وربما كان يسخر في قرارة نفسه بسفه المحبين وضيق أفقهم.
فما المتعة التي يجدونها في ممارسة هذا النشاط المريب الذي دفعت شعوبنا وبلادنا بسببه ثمنا باهظا، فقرا وظلما واستبدادا وتخلفا، ونزف فيه شبابها الدماء على عتبات اللا شيء، حتى أنهم لم يفعلوا كما فعل أصحاب الجاهلية الأولى الذين لم يتشبثوا بأوثانهم التي عبدوها أبا عن جد، حينما أتتهم دعوة الخلاص؟
قد أكون مخطئا في كل تقديري، ولكن فليأتني أحدهم بما يقنعني عسى أن أعود من الناسكين!!
اقرأ المقال هنا على الجزيرة مباشر
https://2-m7483.azureedge.net/opinions/2023/1/18/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D8%AF?fbclid=IwAR2nevkQWyKlU5Mswnb8PBiVvf6zqM0LfBTK4PBpWiPrVURChDkgFKeh_kw