الأحد، 27 مارس 2016

سيد أمين يكتب: سوق الكلام

يُحْكَى أن امرأً عُرِف عنه الاتزان والثقة في النفس، اتفق بعض أصدقائه المقامرين على أن يُفْقِدُوه ثقته تلك.. فعزموا جميعًا أن يتناثروا على طول الشارع الذي سيسير فيه، وأن يسألوه سؤالًا واحدًا "عن كيفية سيره برأسه المقطوعة".
التقاه الأول فسأله هذا السؤال مبديًا تعجبًا، فاندهش صاحبنا أشد اندهاش واعتبرها مزحةً من صديق مازح ، فما أن سار عدة أمتار حتى وجد آخر يسأله ذات السؤال فلم يُعِرْه انتباهًا بوصفها مزحة بدت مُمِلّة، وطرح عليه السؤال ثالث فبدأ صاحبنا يتململ من تلك التساؤلات السخيفة.. فكرره عليه رابع فنهَره, ثم مرَّ بجوار سيدتين لا يعرفهما فوجدهما يبديان تعجبًا لسيره بدون رأس.. هنا اعتقد صاحبنا أنَّ الأمر فيه شيء من الجِدّ، وهو ما تأكَّد حينما فرّ طفل من جواره خائفًا وهو يتطلع إلى رأسه، هنا اهتزت ثقة صاحبنا وفقد صوابه وراح يبحث عن مرآةٍ ليرى فيها ما جري لوجهه، حدث ذلك رغم أنه كان يسير بنور عينين ويسمع بأذنين ويتحدث بلسان, وكل تلك الأجزاء كانت من مكونات رأسه، وتشملها من كل الجهات تقريبًا.

تكلم حتى أراك..

وفي أثر الكلام قال الله تعالي {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" وقوله للرسول {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وغير ذلك من آيات تؤكِّد مدى تأثير الكلام.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام)).. فيما يعرف جميعنا الظروف التي قيلت فيها رواية "آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه" وقبل ذلك كله قول سقراط الحكيم لتلميذ جديد حل على مجلسه "تكلم حتى أراك".
ويعتبر الشيخ في منبره والصحفي في صحيفته والإعلامي عبر فضائيته هم أبرز روَّاد سوق الكلام.

سوق السحر..

وإذا كان "الزّنّ على الودان آَمَرّ من السحر" كما يقول المثل الشعبي فانَّ "الإعلام" يعتبر هو السوق الأوسع لبضاعة "السحر" لذلك فنُظُم الحكم على تنوعها- على ما يبدو- تعنى دائمًا بالاستحواذ على هذا المجال كل بطريقته، فالنظم الشمولية والعسكرية – طبقًا لما ألفناه منها في مصرنا المقهورة على سبيل المثال- لا تدع أحدًا يتكلم غيرها وإذا سمحت للآخرين بالكلام فلا كلام مسموحا به أن يتردد إلا كلامها، وعلى الجميع أن يتحولوا إلى صدى صوت لها. 
أما النظم الرأسمالية والليبرالية فهي تتحكم بهذا السوق أيضًا ولكن من خلال سيطرة رجال أعمالها على سوق المال لأنه متى توافر ذلك المال سيصبح بإمكانك أن ترفع صوتك أكثر وأن تسمعك آذان أكثر، وهذا النوع من التسلط يبدو ذهبيًا مقارنة بسابقه لأنه لا يحرمك من حقك في الكلام، ولا يحرمك أيضا من حقك في استخدام مهاراتك الخاصة في توصيل صوتك للناس دون خوف أو وجل.

لسان الحقيقة أم النظام؟

ووصل الغبن في التعامل مع الإعلام والاعلاميين في النظم العسكرية التي حكمت مصر في العقود الماضية على سبيل المثال أن جعلت في بعض الأوقات من يترأس منظومة الإعلام قائدًا عسكريًا، ومن يحرر الصحف ويرأس تحريرها قائدًا عسكريًا أيضًا، وجعلت من يراقبها رقابة سابقة رجلاً عسكريًا، فضلا عن طبيعة الحال بأن من يراقبها رقابة لاحقة رجلًا عسكريًا.
وكما تطورت فنون "سوق الكلام" و"الإعلام" نظرًا لكوننا جزءًا من هذا العالم، تطورت أيضا فنون الرقابة عليه في مصر ووطننا العربي، فاختفى الرقيب الذى يرتدى بدلة عسكرية وجاء النقيب الذى يرتدى لباسًا مدنيًا, وكلاهما يتصرفان نفس التصرف ويوجهان بنفس التوجيهات ويرسلان تقاريرهما لذات الجهة الأمنية الواحدة التي عينتهما أو وجهت باختيارهما في منصبيهما.
وبدلاً من أن يتلقى المخبر الصحفي تعليماته من مخبر المباحث راح الأخير بنفسه يرتدى ثوب الصحفي ويحلّ محله, محاولاً أن يتصرف كما يتصرف الصحفي, إلا أنَّ تقمُّصه هذا أبدًا لا ينطلي على النابهين الذين أدركوا للحظة الأولى أنه لا يكتب إلا كما يكتب مخبر المباحث، ولا يرى إلا بعين مخبر المباحث. 
ولأنَّ النظم الديمقراطية دأبت على الاحتفاء بالإعلام والإعلاميين بوصفهم عيون الحقيقة وضمير الشعب وجعلت من حريتهم وحرية الناس في "الكلام والتعبير" بشكل عام, برهانًا على بُعْد المدى الذى وصلت إليه ديمقراطيتها، نجد أن النظم الشمولية القمعية تحتفي أيضا بهم، ولكن الاحتفاء هنا لكونهم هم من يطمسون عيون الشعب ويزيفون وَعْيَه, ويفعلون فيه ما لم تفعله أشد القنابل فتكًا وتطويعًا, ويضمنون لاستبدادهم أن يبقي ويستمر.

خطاب الاستبداد

والخطاب الإعلامي في النظم الاستبدادية هو نص واحد منسوخ من أقصى الكرة الأرضية شرقًا إلى أقصاها غربًا, فإعجازات الزعيم هي محور أي نشرة أخبار, كما أن أي خير يصيب البلاد فهو قطعًا منه وأي شرّ يضربها فهو بلا شك من الشعب، وهو المُوحَى إليه الذى لا يخطئ، هو من يصنع معجزة يومية ليطعم شعبه الكسول الذى يتكاثر ولا يعمل.
فمن يجرؤ أن ينكر أن الزعيم لا ينام الليالي سهرًا على راحة وأمن السيد "المواطن" وأنه صنيع العناية الإلهية ومبعوثها, وهو من بحكمته دائمًا ما يختال علينا وهو "القلب الكبير" كما قالت صدفة هانم في المسرحية الشهيرة. 
لذلك أنا لا أستبعد مطلقًا أن تكون جيوش المستقبل لدى النظم الاستبدادية من أولئك المخبرين الذين تقمصوا أدوار الإعلاميين.

الجمعة، 11 مارس 2016

سيد أمين يكتب: غرائب بوتقة الصهر

آخر تحديث : الجمعة 11 مارس 2016 16:17 مكة المكرمة
من غير المحبب للمرء أن يتحدث عن بلاده المتخلفة فيصفها بحقيقتها وود لو تبدلت بينها وبين أكثر بلدان الدنيا تقدما المواضع ، لكن أنى للرسام أن يعيش في جنان لوحته المخملية ولو حدث لتحولنا جميعا إلى رسامين ، كما أن الوطنية ليس في أن يكذب هو ، ولكن في العمل على أن تتقدم هى.
وإذا كانت قراءة التاريخ هى قراءة للمستقبل، فإننا سرعان ما نكتشف حين المرور على تاريخ مصر أنه سرد مفصل لتاريخ الاستعمار في العالم، وأنه تاريخ منهك بالاحتلالات التى ينتصر بعضها على البعض، ومع كل انتصار يحرزه محتل حديث على أخر قديم يخرج المصريون ليحتفلوا بالانتصار الذى لم يحققوه ولم يكن لهم فيه ناقة ولا جمل، ومع ذلك يخرج معهم أيضا مزيفو التاريخ ليحتفلوا بتلك الانتصارات الوطنية الكبرى.

بوتقة صهر

منذ نشأة التاريخ وبسبب الموقع الجغرافي الفريد ، تحولت مصر إلى بوتقة صهر كبري لكل أجناس الأرض، وجراء عملية الصهر الحميدة تلك تسابق الجميع في إثبات ولائهم لعبقرية المكان، فصار كل من يسكن مصر هو مصري، ولكن عبقرية المكان تلك هى أيضا من تسببت في جعلها مرتعا لكل ضامر سوء أو معتدى.
فقبل الميلاد هناك نحو 1400 سنة ظلت مصر فيها تحت الاحتلال الأجنبي، أما بعد الفتح الاسلامى لمصر فتقريبا تقاطعت الاحتلالات عليها ، ولم يحكمها المصريون – ونقصد بهم سكانها المستقرون- بشكل مباشر إلا بعد حركة الجيش في 1952، وإن كان يعتقد البعض وأنا منهم أن تلك الحركة أيضا جاءت في إطار تطوير غربي لأسلوب الاحتلال وبالتعاون معه، وأن الحديث عن استمرار خضوع مصر للاستعمار الغربي إلى الأن هو حديث جدي.
فالهكسوس احتلوا مصر نحو 246 سنة ، ثم الدولة الكوشية الاثيوبية 50 سنة، والأشورية 16 سنة، والفارسية 80 سنة ثم 11 سنة ، واليونانية احتلت مصر بقيادة الأسكندر الأكبر عامين ، والبطلمية 300 سنة، فالرومان 360 سنة ، ثم البيزنطية310 سنة، ثم الفتح الاسلامى لمصر، ثم الدولة الإخشيدية 35 سنة التى وصف الشاعر الطيب المتنبي أبرز ملوكها كافور الاخشيدى بالعبد الذى لا يقرع إلا بالعصا ، ثم الدولة الفاطمية الشيعية التى أسست المسجد الأزهر 162 سنة ، ثم الدولة الأيوبية الكردية 91 سنة ، ثم دولة المماليك 233 سنة وجميعنا بالقطع يعرف قصتهم، ثم بعد ذلك جاءت الخلافة العثمانية التركية والتى تقاطع معها الاحتلال الفرنسي لمصر لمدة 3 سنوات ثم حكم محمد على الألبانى وتقاطع معه الاحتلال الانجليزى الذى دام 72 سنة.

تجارب لا منطقية

فيما يبدو أن سيل اللامنطقيات التى ابتدعتها سلطة الانقلاب الحالية في مصر, وشملت فبركات ودعايات مرسلة ومسفة ثم صدرت تؤيدها أحكام قضائية قاسية كرسالة واضحة بأنه لا نية لأخذها على محمل التهريج، لم تكن أعمالا عفوية ولكنها كانت أعمالا مدروسة ومضمون تمريرها بسلام في وجدان جزء كبير من المجتمع المصري، نظرا لإدراك "المايسترو" أنه لا داع للتعويل على وعى الشعب وتجارب التاريخ القريب والبعيد تشهد.
وذلك بدءا من ثورة المصريين للتخلص من الوالى العثمانى على وقع المعاناة من الفقر والجوع ثم جلبهم لرجل أجنبي اخر ليحل محله ، مرورا بالكولونيل الفرنسي سيف الذى كان جنديا من جنود نابليون رفض ان يعمل بالفلاحة بعد هزيمة قائده فقرر الذهاب الى بلاد فارس حينما سمع انها تسعى لتأسيس جيش من المرتزقة وأثناء سفره توقفت السفينة التى تقله في الأسكندرية فتعرف على حاكمها فأرسله لمحمد على ليؤسس له الجيش المصري من غير المصريين ، انتهاء باعتبار جزء من المصريين أحمد عرابي خائنا لبلاده بعد تصديه للاحتلال البريطانى 1882، حتى المشاركة بجوار بريطانيا في الحرب العالية الأولى ضد الخلافة الاسلامية ودعما للاحتلال البريطانى لمصر ، وهى الواقعة التى يصر السيسي على الاحتفال بها ، انتهاء بأربع حروب مني فيها جيش خير أجناد الأرض - المزعوم - بالهزيمة الماحقة انتهت بخروج المصريين ليطالبوا بطل الهزيمة بعدم التنحى، والحديث عن اللامنطقيات يطول على ضفاف النيل.

سمات مصر

ولأن الدول بحسب النشاط الاقتصادى تصنف إلى دول زراعية أو بحرية أو صناعية أو نفطية وما إلي ذلك ، يظل تصنيف مصر أمرا محيرا بينهم ، فمصر التى عرفت بالزراعة لكونها هبة النيل ها هو واهبها الحياة يضمحل، فيستعيض السيسي عن جزء من مياهه بتكرير مياة الصرف الصحي ،وحتى قبل أن يوشك هذا المتدفق على النضوب وفي أفضل حالات تمامه، وصلت الزراعة في مصر إلي مرحلة بائسة بسبب فساد الإدارة ، ويمكننا أن نعود للإحصائيات الزراعية لنعرف الحقائق المؤلمة.
ومصر التى عرفت أيضا بكونها دولة بحرية تغطى البحار ما يقرب من الثلاثة الأف كيلو متر من حدودها إلا أنها تستورد معظم احتياجاتها السمكية من بلدان أقل مياها منها.
وعرفت دولة صناعية حيث بدأت الصناعة فيها منذ محمد على قبل قرنين من الزمان لكنها تظل سوقا لكل الصناع في العالم دون أن تصدر أى منتوج صناعى مهم ، ودولة سياحية بها خمس أثار العالم الا أن ما ينشط فيها ليست سياحة المعالم الأثرية ولكن السياحة الجنسية على ما يبدو ، والتى دمرت بعد أن قاطعها السائحون في أعقاب حادث الطائرة الروسية الشهير.
ودولة نفطية بها حقول هى الأضخم في التاريخ، بحسب إعلام النظام الحاكم ، لدرجة أنها صارت تمنح حقولا ضخمة للغاز كهبات لليونان، وتبيع الغاز بربع سعره العالمى لإسرائيل قبل أن تعود لتشتريه منها بضعف سعره الذى باعته لها لسبب غير مفهوم، رغم الوفرة والحقول الضخمة التى تتحدث عنها ، ومع كل هذا النعيم ، فمصر بلد يستورد أغلب حاجياته من الخارج من الإبرة إلى الصاروخ ، ويعانى شحا في كل شئ تقريبا عدا البشر، ويشغل أدنى المراتب في أى تنافسية.
ولذلك يجدر بنا حينما نصنف مصر "اقتصاديا" أن نقول أنها دولة "استبدادية" ، وأن نعتبر أن "الاستبداد" هو نوع من أنواع الإدارة "الاقتصادية" وليست "السياسية" فحسب ، ويتسم بالجهل والأنوية والغفلة والفساد وعدم الموضوعية وعدم الأخذ بالحدود العلمية ، ونتائجه قطعا كارثية.

الأربعاء، 2 مارس 2016

سيد أمين يكتب: دفاتر يناير

من أخطر ما رسخت له الذكرى الخامسة للثورة المصرية عند المحتجين مع نزول الدبابات والمدرعات ومئات الآلاف من الجنود إلى الميادين، هو أن مشاهد التعامل الأمني المفرط ألجمت ألسنة كل من يتحدثون طويلا عن التغيير عبر المظاهرات السلمية.
ويعزز ذلك الخطر أن معظم هؤلاء المحتجين هم من أصحاب "الثارات" ممن فقدوا عائليهم وذويهم في المجازر الميدانية المتعددة المروعة التي ارتكبتها السلطة، والتي صارت الآن تطالهم حتى في بيوتهم وعلى أسرتهم بين أطفالهم، فضلا عن أولئك الذين اختطف زوار الفجر ذويهم، ولُفقت لهم التهم لتصدر ضدهم أحكام مشددة تصل إلى الإعدام، وكذلك آلاف المختفين قسريا والمشردين خارج الوطن وداخله وهم بالملايين، وأيضا المفصولون من أعمالهم وكلياتهم، والمصادرة أقواتهم، والمصابون، والمغتصبات، والمحبوسون داخل مصر بسبب أوامر منع من السفر.
كل هؤلاء لم يعودوا يطالبون فقط بالحريات والديمقراطية وتداول السلطة والرخاء وإنهاء الاستبداد والفساد والمحسوبية، وغيرها من مطالب يمكن أن يعتبرها بعض الناس مجرد كماليات يجوز الاستغناء عنها إن لزم الأمر، بل صارت مطالب ثورتهم هي الدفاع عن الحياة نفسها.
استجلاء الحقائق
وأعتقد أنه لا يمكن أن تنجح ثورة يناير نجاحا جديا، حتى إن سقط الانقلاب بفعل الثوار أو أسقط عمديا لفشله في أداء دوره الوظيفي، إلا إذا قمنا بتفكيك أسرارها وفهمنا تفاصيلها فهما مترابطا لا يحيل كل ما يخالف ما قيل في الرواية الرسمية إلى الصدفة.
ذلك الفهم سيجلي الفوارق المستترة بين العمل الثوري العفوي، والعمل الجهوي المدبر فيها، وسيتعمق فهمنا ذلك بوقوفنا على إجابات أسئلة حاولنا وحاول حسنو النوايا ألا يتوقفوا أمامها باندهاش وفضول، وغالبوا رغبتهم في ذلك حتى لا يستعجلوا الحزن في بيت الفرح، ورضوا أن يخادعوا أنفسهم عسى ألا يظهر لهم "العفريت" الذي يخشونه سريعا وأملوا ألا يظهر لهم أبدا، لكن للأسف "العفريت" لم يفارقهم لحظة واحدة من الأساس.
وبالطبع بات معلوما لدى أي مراقب نزيه أن ثورة مصر تعرضت لمؤامرات عدة، بدءا من أكذوبة الجيش الذي حماها، إلى "التخفي" في صورة "الطرف الثالث" لتشويهها، انتهاء بالإعلان صراحة عن نفسه قائدا للثورة المضادة التي راح يؤكد أنها هي الثورة التي جاء ليحميها.
وقائع مثيرة
وهناك واقعتان محددتان ألقتا ضوءا كثيفا على ما حدث قبيل الثورة، ففي يوم 24 كانون الثاني/ يناير 2011، نشر موقع الأهرام الرسمي في صفحة الحوادث ما مفاده أن عمال الشحن بميناء القاهرة الجو فوجئوا أثناء قيامهم بشحن 39 كرتونة تتبع أحد الركاب المصريين (لم تسمه) على متن الطائرة المتجهة إلى "دبي"؛ بسقوط إحدى تلك "الكراتين"، وتبعثرت منها سبائك ذهبية على الأرض، وهنا جاءت شخصيات أمنية رفيعة وقامت بحصر الكراتين جميعها ومحتوياتها وأعيد الأمر إلى نصابه. وتم التكتم على الخبر، ثم عرفنا بعد ذلك أنها أموال مبارك كان يحملها له "حسين سالم".
والمشهد الثاني خروج حملة يقودها أحد المنتسبين لحزب التجمع اليساري، لدعم جمال مبارك بمجابهة حركة كفاية التي خرجت خصيصا لتقول لمبارك "كفاية"، وما أن خرج مبارك من الحكم حتى ارتمت هذه الشخصية في حضن النظام العسكري الجديد.
أسئلة شائكة
وهناك أسئلة شائكة كثيرة تبحث عن إجابات، بعضها يتعلق بفترة ما قبل الثورة والبعض الآخر بعدها.
ويبقي مقتل اللواء عمر سليمان، وزير المخابرات العتيد طيلة عصر مبارك، واحدا من أهم الأسئلة التي إن وجدنا لها إجابة فهمنا من خلالها ما جرى في تلك الثورة، وخريطة الصراعات التي أفرزتها، خاصة أن الرجل عرف بولائه الشديد لمبارك، لدرجة أن مبارك اشترط أن يتولى هو مهمة منصب نائب الرئيس.
وهناك أيضا أسئلة من عينة: لماذا اقتحمت المخابرات مقار أمن الدولة عقب الثورة ثم راحت تتبرأ من ذلك رسميا؟ وما طبيعة الأوراق التي حصلت عليها منها؟ ولماذا تركت ما تركته ليتسرب للإعلام؟ وغيرها الكثير من الأسئلة الهائمة في دفتر أحداث الثورة.
وإجابات تلك الأسئلة جميعا تصب في قالب واحد، وهي صراعات مراكز القوى. فالمجلس العسكري والمخابرات الحربية من جهة، وجمال مبارك وجهاز أمن الدولة والحزب الوطني من جهة أخرى، اقتتلوا حول مبارك "الابن" الذي أراد أن يخلف والده في سدة الحكم.
وإن هذا الاقتتال أنتج ثورة يناير، بغية أن يتخلص العسكر من جمال مبارك سياسيا، خاصة بعدما نما نفوذه ورغبته في التخلص من دور "الفلتر" أو ناقل صوتهم إلى الشعب، وهو الدور الذي كان يقوم به والده على ما يبدو، ثم يقومون بتنصيب فرد منهم وقع عليه الاختيار مسبقا ليحل محل مبارك في أداء هذا الدور "الفلتر".
وإنهم في سبيل ذلك الخلاص، خلاصهم هم وليس خلاص الشعب، أسسوا عدة حركات بدت كما لو كانت ثورية، وراحوا يصطنعون النخب السياسية والإعلامية الموالية لهم ويمدونها بالزخم الإعلامي على غرار ما فعلوه تمهيدا للثلاثين من يوليو فيما بعد، وهي النخب والحركات التي حازت بحق على أفئدة الناس بسبب معارضتها الجريئة لحكم مبارك الطويل والذي لم يتعود المصريون أن يجدوا من يخرج ضده من قبل. ودلالة ذلك أن تلك النخب أو الحركات الوهمية صارت تؤيد نظام حكم عبد الفتاح السيسي بطبيعة الحال الآن، ما يكشف بجلاء أنهم كانوا مجرد أدوات لعبور المرحلة ليس أكثر.
وعلى ما يبدو فإن تفاعل الشعب مع تلك الثورة كان أكثر مما ينبغي، فلم يكتف برحيل مبارك بل راح يطالب بإسقاط "حكم العسكر"، وهو ما لم يكن في الحسبان. هنا كان من الضرورة القضاء على هذه الثورة الحقيقية بتقسيم الثوار وتخوينهم، وشيطنة فصيل منهم إعلاميا، ليتم القضاء على الثورة من خلال مكافحتهم.