الوطنية من حب الوطن إلى تقديس الفرد.. عبد الناصر نموذجا
سيد أمين
18/1/2023
لست أدري ما الذي يبرر تلك الموجة السياسية العارمة السائدة في وطننا العربي في تقديس الشخص لا الوطن، والبحث عن الانتصار للولاء بدلا من الانتصار للحقيقة، والاعتناء بالإجراءات والصورة وليس بالجوهر والنتيجة، مع أن حكمة الزمان تقول إن العِبرة بالنهاية.
ورغم النهايات الواضحة وضوح الشمس، فإن البعض يصر على المراوغة والخداع، والاستمرار في تقديس “تابوهات” أضرت أكثر مما أفادت، وقد يكون هؤلاء النسّاك في محرابها هم أنفسهم من متضرريها، لكنهم فقط لا يحسبون الأمور بمنطق العقل والحقيقة، ولكن بمنطق “المكابرة”، والإصرار على الانتصار للولاءات الزائفة، وكأننا في مباراة شطرنج، وليست أمورا تحدد مصائر أوطان وأرواح بشر.
مشهد واحد
خذ لقطة من هذه في مصر، فمثلا، ليس سرّا أن اتفاقية “السلام” مع إسرائيل وشروطها المجحفة المعلنة -وغير المعلنة التي باتت معروفة للجميع- طوّقت مصر بشدة لعقود، وحرمتها تماما من تنمية سيناء والاستفادة القصوى والمثلى من مواردها.
وليس سرّا أيضا أن مصر أُجبرت على توقيع تلك الاتفاقية لأنه لم يكن باليد حيلة لاسترداد أراضيها، كما سوّق الإعلام المصري لفترة من الزمن.
مع أن ذلك أعدم مصر وحوّل مسارها السياسي من قيادة تيار الممانعة العربية إلى قيادة تيار التطبيع، وكانت نتيجة ذلك إهدار ثروات البلد في الرشاوى والفساد الذي صاحب عملية “الانفتاح الاقتصادي” التي كانت في الواقع تنفيذا لأمر بيع القطاع العام، وحرمان الجيش المصري من أهم روافد تمويله ليتم تعويضه بالمعونة الأمريكية.
وقبل ذلك، خاضت مصر حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي استُشهد فيها آلاف الجنود وثكلت بسببها آلاف الأمهات، وأُنهك فيها الاقتصاد المصري بشدة.
وإذا كان الحال كذلك في الانتصار، فما بالك بنكسة يونيو/حزيران 1967 التي هي في الواقعة هزيمة نكراء لم تحدث في تاريخ حروب العالم، حيث أبيد عشرات الآلاف من الجنود المصريين دون حتى أن يتمكنوا من إطلاق الرصاص في الهواء، ولأن تفاصيل ما جرى كثيرة وجميعنا يعرفها فلا داعي لتكرارها، ولكن يكفي أن نقول إنه لولاها ما حدث ما بعدها، وما وقعنا في فخاخ اسرائيل الآن.
فضلا عن أننا في غنى عن الحديث عن تأثيرها السياسي والاقتصادي والنفسي على الوطن وشبابه، وتأثيرها العسكري الذي انعكس بصورة كارثية على ما تبقى من فلسطين والجولان وسيناء، والذي لا يزال سمه ساريا إلى اليوم.
فإذا كانت كل هذه المصائب هي مجرد آثار معلنة لهزيمة عسكرية واحدة حدثت منذ أكثر من نصف قرن، من هزائمه المتعددة في اليمن والكونغو و1956 وغيرها، أليس من الطبيعي أن نعتبر أن جمال عبد الناصر الذي يناسب هذا الشهر ذكرى ميلاده “أبو الهزائم”، بدلا من تقديسه واعتباره النموذج الكامل للوطنية دون دليل واحد؟
ظاهرة صوتية
ولا أرى بطولة إطلاقا في أن يخطب الرجل بأنه سيلقي إسرائيل ومن يقف وراءها في البحر، فهذا قد يكون مشهدا تمثيليا لا يتناسب مع المواقف الجادة، ولكن البطولة أن تفعل ذلك حقا بها، وتحرر الأراضي المحتلة لا أن تضاعفها للقادمين بعدك.
ولعله ليس من الصدفة أبدا أن كل معركة تخوضها تخسرها خسارة فادحة، دون مسوغات موضوعية لذلك، لا سيما أن إسرائيل آنذاك لم تكن إلا في حجم محافظة مصرية دون امتلاكها سلاحا استراتيجيا كما هو الآن، وكان حجم التعاضد العربي والإسلامي والعالمي جبارا، لدرجة أنه بإمكانه مع قليل من الجهد العسكري لدول المواجهة خنق إسرائيل وتحرير فلسطين كاملة في أيام معدودات، لكن الإرادة في ما يبدو كانت مخصصة فقط للقطة.
هذا نموذج لإخفاق واحد من إخفاقات قائد قدسوه لدرجة أن أحدهم وصفه بأنه “آخر الأنبياء”، ولا يزال آخرون يمارسون تلك النسك رغم الانكشاف الكامل للمشهد، وما زالت أنقاض الدمار تملأ المكان.
حب من طرف واحد
ولطالما تساءلت عن السبب الذي يدفع قامات كبيرة إلى السقوط في هذا الفخ المهين، لكني سرعان ما أتدارك أن كبرها هذا ربما جاء فقط بسبب تسليط الإعلام الأضواء عليها.
وفي حالة هؤلاء المتيمين القدامى والمحدثين، نكتشف أنهم يعيشون حبا من طرف واحد، يهرول خلاله المحبون خلف المحبوب ويتفنون في استخراج المآثر له، في حين أن المحبوب لا يبالي، وربما كان يسخر في قرارة نفسه بسفه المحبين وضيق أفقهم.
فما المتعة التي يجدونها في ممارسة هذا النشاط المريب الذي دفعت شعوبنا وبلادنا بسببه ثمنا باهظا، فقرا وظلما واستبدادا وتخلفا، ونزف فيه شبابها الدماء على عتبات اللا شيء، حتى أنهم لم يفعلوا كما فعل أصحاب الجاهلية الأولى الذين لم يتشبثوا بأوثانهم التي عبدوها أبا عن جد، حينما أتتهم دعوة الخلاص؟
قد أكون مخطئا في كل تقديري، ولكن فليأتني أحدهم بما يقنعني عسى أن أعود من الناسكين!!
......................................................
حينما يعادي المتطرفون أردوغان والإسلام؟
سيد أمين
26/1/2023
لعل الأمر مدعاة إلى التأمل فعلا، فكلما زاد حقد متطرف غربي أو شرقي على الإسلام، سبّ رموز الدين الإسلامي ومقدساته وهاجم تركيا وأردوغان، وكلما أراد الغربي أن يعبر عن قوة الحضارة الغربية في مقابل الحضارة الإسلامية هاجم الإسلام ورموزه ثم الدولة العثمانية والدولة التركية وأردوغان.
هناك حالة ربط دائم بين تركيا والاسلام في العقلية الغربية، وهناك إجماع غير محسوس في العقل الباطن الغربي على أن أردوغان هو من يمثل العالم الإسلامي رغم أنه لا يحكم إلا دولة واحدة فقط من نحو 56 دولة مسلمة في هذا العالم، ولا تمتاز هذه الدولة بينهم مثلا بأنها الأكثر سكانًا، ولا أنها تستحوذ على مقدسات الإسلام، ولا حتى أنها تتكلم بلغة القرآن، بل إنها من دونهم جميعا لها دستور يقول إنها دولة علمانية.
وقد وصل الأمر إلى أنه في عام 2018 أغلقت النمسا سبعة مساجد وطردت عشرات الأئمة عقب عرض قدم في إحدى دور هذه المساجد ارتدى فيه الأطفال ملابس جنود الدولة العثمانية.
كما أن الإرهابي الذي أطلق النار ببندقيته الرشاشة فقتل أكثر من 50 مصليًا في مجزرتين بمسجدين في نيوزيلندا عام 2019 كتب رسائل على الأسلحة تحمل تواريخ تشير إلى أن المذبحة تأتي ردًّا على انتصارات الدولة العثمانية والسلجوقية على الحملات الصليبية.
وفي إطار الحرب المتصاعدة بين تركيا وفرنسا لجأ الرئيس الفرنسي إلى تشجيع إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، باعتبارها حرية تعبير وهي الرسوم التي احتجت عليها أنقرة ضمن عدد كبير من دول العالم الإسلامي عقب نشرها في السويد والدنمارك، وهنا رد عليه أردوغان بدعوة الشعب التركي إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، قائلا إن ماكرون بحاجة إلى الرعاية العقلية.
الإساءة سياسية
كثير من المؤشرات تشير إلى أن الواقعة التي جرت في السويد الأسبوع الماضي هي في الأصل سياسية، وأن سلطات السويد أرادت الرد على الوقوف التركي دون انضمامها إلى الحلف الأطلسي بالموافقة على تظاهرة لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا حركة إرهابية فيها إساءة لصورة أردوغان، وبقيام المتطرف الدنماركي بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في ستوكهولم.
وأكدت هذه الرؤية ما جاء في نص طلب التظاهرة، فبحسب تصريحات المتحدث باسم شرطة ستكهولهم فإن مواطنا دنماركيا سويديا يمينيا متطرفا قدم طلبا لتنظيم تظاهرة أمام السفارة التركية، كتب فيه تنظيم “مظاهرة ضد الإسلام في السويد عبر حرق القرآن ومظاهرة ضد رجب أردوغان الذي يضع عقبات أمام حرية التعبير في السويد”.
لعل تلك الواقعة باختيار وقوعها أمام سفارة تركيا تعزز من صحة الرؤية الخاصة بأنهم يهاجمون الإسلام من أجل الإساءة إلى تركيا وقيادتها، وهي الرؤية التي عارضها مراقبون منهم الإعلامي المصري عمرو أديب فحاولوا التقليل من شأن الواقعة والإساءة إلى أردوغان، وتناسوا أن ذلك يرفع من مكانته ولا يحط منها.
وربما أدركت القيادة التركية الأمر، فراحت تصعد من لهجتها اتجاه الواقعة بإلغاء زيارات كانت مقررة لوزير الدفاع ورئيس البرلمان السويديين لأنقرة، بل قامت تركيا بتكليف محامين سويديين بمقاضاة مرتكب الواقعة.
المعارك الداخلية
العجيب أن معارك أردوغان مع المعارضة التركية في الداخل يدور كثير منها أيضا حول الإسلام، وموقف الدولة منه ومن مظاهره، وخاصة مسألة منع أو إتاحة ارتداء الحجاب التي يشتعل الآن أوارها بسبب اتجاه حزب العدالة والتنمية لتحصين حرية ارتدائه في البلاد دستوريًّا قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار القادم.
وقد أكدت استطلاعات الرأي التي أجرتها عدة جهات استقصاء مستقلة بعضها علماني التوجه، أن ما بين 55% و70% من الأتراك يفضلون التدين وعودة المظاهر الإسلامية إلى تركيا.
لذلك تقوم الأحزاب المعارضة ولا سيما حزب الشعب الجمهوري بمحاولة الظهور بمظهر من يكنون للإسلام التقدير في دعاياتهم الانتخابية، رغم التاريخ الممتد لهذا الحزب في العداء للمظاهر الإسلامية، مما يدل على أنهم أدركوا أن المصدر الرئيسي لشعبية أردوغان وحزبه هو الدفاع عن تلك المظاهر.
ولقد وصل التماهي إلى درجة قول كمال كليشدار أوغلو زعيم هذا الحزب العلماني إن “الأذان بالعربية هو قيمة عالمية لديننا الإسلامي، أينما رُفع الأذان في العالم فهو يعبر عن نداء الإسلام”.
وذلك للتخفيف من وطأة تصريح أطلقه نائبه يلماز أوزتورك الذي دعا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 إلى إعادة الأذان باللغة التركية، كما كان يفرضه هذا الحزب قسرًا على الدولة التركية في عقود مضت، ودفع رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس رأسه ثمنًا لإعادته باللغة العربية.
كل الدلائل تشير إلى أن أعداء أردوغان في الخارج والداخل نصبوه حاميًا للإسلام، سواء كان الأمر حقيقيًّا أم لا.
...................................................................................
قيس سعيد والمسارات الغامضة
سيد أمين
21/2/2023
يتلقى الرئيس التونسي قيس سعيد الصفعة تلو الأخرى من الشعب التونسي من دون أن يتعظ، أو يطور مساراته -التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها غامضة- لتكون مقبولة شعبيا، فيقع دوما في نفس الشرك الذي نصبه للآخرين، بعدما أصمّ أذنيه عن جميع الناصحين الذين لم يألوا جهدا في نصحه بكافة الطرق بضرورة التراجع عن مسار 25 يوليو/ تموز الغامض الذي فرضه على الشعب التونسي، من دون هدف منطقي يستحق اللهاث خلفه.
لكنه أصرّ على الهرولة إلى الأمام، واضعا نصب عينيه تجارب آخرين نجحت مثل الهرولة في إبقائهم في السلطة، متناسيا اختلاف تونس عن غيرها في أن لديها قضاء لا يزال خارج التدجين ولو نسبيا، وجيشا لم ينغمس بعد في الحياة السياسية حتى الثمالة، وأن الشركاء أو الرعاة الغربيين مشغولون الآن بإشعال أو إطفاء عشرات من النيران المشتعلة الأولى كثيرا بالاهتمام.
ولا يدري أحد ما العائد على تونس، أو شعبها الذي يعاني الأمرين اقتصاديا، أو على التجربة الديمقراطية، ولا على قيس سعيد نفسه، من تلك المسارات والحروب “الدون كيوشتية” التي يخوضها، في حين كان الأولى به الاهتمام بتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد بدلا من تنظيم انتخابات وراء انتخابات وراء انتخابات تقاطعها الأغلبية الكاسحة التي لا تجد جدوى لها، والسعي لعسكرة البلاد واعتقال الحقوقيين والنشطاء والصحفيين والبرلمانيين وقادة الأحزاب المعارضة انتهاء بطرد الأمين العام لاتحاد النقابات الأوربية.
ردود سعيد
لم يتعظ بأن نسبة المشاركين في الاستفتاء الدستوري لم تتجاوز11% من الناخبين وهي أقلّ نسبة مشاركة في كل تاريخ تونس، ولم يتعظ بنزول عشرات الآلاف في عدة تظاهرات متتالية يطالبونه بالتوقف الفوري عن كل الإجراءات التي اتخذها منذ أن جاء للسلطة، ولم يتعظ بفشل ما أسماه الاستشارة الإليكترونية وما نالته من سخرية وانتقاد واسع في البلاد، ولم يتعظ بمهزلة الحوار الوطني التي أقصى منها الجميع وراح يتحاور مع أنصاره، فراح يمضي قدما إلى إجراء انتخابات برلمانية كانت نتائجها هي الأخرى مقروءة منذ البداية، وحصلت المشاركة فيها على نفس النسبة التي حصل عليها دستوره.
ولعل المدهش حقا هو تعليق الرئيس على نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية في جولتيها، حيث لم يجد ردا على نتائج الجولة الأولى التي جرت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي والتي شارك فيها التونسيون بنسبة 11%، سوى قوله “إن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدورة الأولى بل بالدورتين” وإن “المشككين يشبهون من يعلنون نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول”.
وحينما أعلنت نتائج دورة الإعادة في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي وكانت بنفس نسبة المشاركة في الدور الأول راح يردد مبررا عجيبا لا نعرف كيف اقتطعه ويحاول جعله منطقيا وهو أن نحو 90% لم يشاركوا في التصويت لأن البرلمان لم يعد يعني شيئًا بالنسبة لهم، وعلى طريقة مات المولود وماتت الأم ولكن نجحت العملية علق قائلا “إن الأهم أننا حافظنا على مواعيد الانتخابات”.
وبالقطع إزاء مثل هذه التبريرات قد يتساءل أحد: بما أن البرلمان القديم فاشل، والبرلمان الجديد فاشل، والدستور القديم فاشل، والدستور الجديد فاشل، والحكومة القديمة فاشلة، والحكومة الجديدة فاشلة، لماذا لا نجرب تغيير قائد السيارة نفسها لعل تونس تصل إلى وجهتها بسلام؟
وحصر سعيد الوطن في ذاته وصار كل من يخالف توجهاته عدوا لهذا الوطن.
النواب الجدد
مشهد الانتخابات التشريعية الأخيرة يشي بالكثير، فبغض النظر عما يردده كثير من المراقبين التونسيين عن أن المرشحين في الانتخابات البرلمانية هم في الغالب شخصيات غير معروفة، وليس لهم سوابق في العمل النيابي حتى لو في المجالس القروية سوى عدد قليل منهم ينتمي لأسر الحظوة لنظام بن على، فإنهم أيضا يتحدثون بنغمة واحدة تشبه خطاب الرئيس عن المؤامرة وقوى الشر والمخربين والإرهابيين ونحو ذلك، وبرامجهم لا تعدو برامج رئيس حي أو شيخ حارة، وليست برامج نواب برلمانيين لهم خطط قومية.
ومن الملفت للنظر أن هناك نوابا في البرلمان فازوا بعدد أصوات يزيد قليلا عن ألف صوت، وهو رقم ضئيل للغاية لا يعبر حتى عن أصوات حارة من الحارات، في حين أن أعلى الأصوات كانت متدنية أيضا وزادات قليلا عن ثمانية آلاف صوت.
كما أصابت الرئيس قيس سعيد أيضا لامة إضافية من تلك النتائج عبر رسوب معظم المرتبطين به من التيارات الناصرية، ولا سيما أحمد شفتر أحد أبرز الداعمين له والمبررين لكل خطواته أمام منافسه مسعود قريرة، رغم كل ما كان يحظى به من دعم إعلامي داخلي وخارجي، إذ حصل على ما يزيد قليلا على ألفي صوت فقط.
ولكي تكتمل دائرة الملهاة في هذه الانتخابات التي قاطعتها جميع الأحزاب الشعبية في تونس بجميع توجهاتها، تبيّن أحد المنافسين في جدول الإعادة لم يحصل على أي صوت، أي أنه لم يحصل حتى على صوته، وفاز مرشحون بالتزكية في بعض الدوائر لعدم وجود منافس.
ورغم تلك النسب المتدنية في المشاركة فإن مراقبين محليين شككوا في حدوث تزوير على نطاق واسع في النتائج، وإن كنت أنا شخصيا أعتقد أن من يستطيعون تزوير الانتخابات هناك كان بإمكانهم أيضا تزوير نسب المشاركة، كما يحدث في كل الانتخابات في البلدان العربية، وتجنيب جبين الرئيس هذه الوصمة، إلا إذا كان في جراب الحاوي ما لم نره بعد.
لو كنت مكان الرئيس قيس سعيد لتركت التونسيين يكتوون بنار قلة وعيهم لتحرقهم الأخطار التي لا أراها إلا أنا، وحرمتهم من جنتي، ورحلت!!
..............................................................................
الزواج الحرام.. العلمانية والقومية العربية
سيد أمين
27/2/2023
لا أعرف كيف تم دس العلمانية في الفكر القومي العربي، خاصة أن هذا النوع من العلمانية يتقوت على أيديولوجية وضع الدين في حالة الاصطدام مع القوم، في حين أن القوم أنفسهم -وهم الواجب على القوميين أن يبرزوا ويُعلوا من شأن خصائصهم الفريدة- لا يقدسون إلا هذا الدين بل ويعدّونه المميز الوحيد لقوميتهم، والأسمى مرتبة منها.
ولِمَ لا؟ وهو الدين الذي ميزهم بأنه اتخذ منهم رسولا يُذكر اسمه في كل صلاة يوميا في أرجاء العالم كافة، واتخذ من لغتهم التي تُنسب إليها قوميتهم لغة وحيدة لأسمى مراجعه المقدسة.
أكاد أجزم بأن ثمة مؤامرة فكرية عشناها على مر العقود الماضية، وضعت العربة أمام الحصان، تعالت فيها فكرة القومية العربية على هذا النحو المريب والمعوج فاتخذت من الإسلام خصما لها، بدلا من أن تجعله عمودها الفقري، مما نجم عنه أن تهالكت العربة وكاد الحصان يفلت من بين يديها ليذهب إلى أقوام آخرين تقدّر قوته.
تجربة الدولة العثمانية
لعل تلك الفكرة تنامت في وطننا العربي بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1923، وهي الدولة التي كانت تقدّر خصائص العربية وتعلي من شأنها ولم تجرؤ أبدا على الاستهانة بها، فكان هذا سببا من أسباب التمدد الهائل لها في رقعة خريطة العالم، مساحة وزمنا، وكان سببا أيضا في أن تقدّر الأمصار كلها تلك الخلافة العظيمة.
خاصة حينما جعلت اللغة العربية جزءا أصيلا من الهوية القومية التركية، وجعلتها لغة العلوم والثقافة والتعليم، رغم أن التركية كانت هي اللغة الرسمية في الداخل التركي في حين كانت العربية والتركية والفارسية هي اللغات الرسمية للخلافة العثمانية، وبذلك حظيت العربية بنصيب هائل من العناية فصارت لغة تفكير حضارية في كل الأصقاع الإسلامية التي تستظل بمظلة الباب العالي.
ولهذا، فحينما يئس الاستعمار الغربي المتربص بالإمبراطورية الجامعة للعالم الإسلامي من إمكانية كسرها عسكريا وسياسيا وثقافيا، لجأ إلى تفتيتها من الداخل عبر الزج بالكثير من المخدوعين والمتأمرين وضحال الآفاق في جميع أمصارها، ليدعوا إلى فصل قومياتهم عن الإسلام، فخُدع الترك بالتتريك، وخُدع العرب بالدولة العربية الكبرى، وخُدع الفرس بإعادة أمجاد الأكاثرة والساسانية، وهكذا في القوميات كلها.
وكانت النتيجة أن سقطت الدولة العثمانية لكن لم تنهض تركيا ثانية لعقود طويلة بخلاف ما أرادها المنكمشون في داخلهم، وسقط العرب والفرس في الاستعمار الحقيقي والمتخفي بدلا من أن يتحرروا، وتفتت رقعة بلادهم أيما تفتيت.
علمانية هنا ودينية هناك
في حين أن دول أوربا ربطت لفترات طويلة في تاريخها بشكل مباشر بين الهوية القومية والدينية، لدرجة يمكن فيها اعتبار أن نزاعاتها التي أدت إلى كل الحروب الداخلية والخارجية المعروفة بينها، كانت في الأصل نتائج للتعصب المذهبي والقومي بينها.
فضلا عن أن العلمانية نفسها هناك أُقرّت للحيلولة دون الفشل الدائم في منع الصدام القومي والمذهبي، وقد ساعد على نمو التجربة ونجاحها هناك افتقار المسيحية إلى “الفقه “و”طقوس الحياة اليومية” التي تتوافر في كثير من الأديان في العالم ومنها الإسلام.
لذلك نجد الفلسفة العلمانية الغربية الظاهرة تقول “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، لكننا نحن -المسلمين- مأمورون في ديننا بأن نُحكّم الدين عندنا في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة، لأن ديننا هو دين ودنيا، وبالتالي فحينما نتحدث عن القومية العربية فلا بد من ربطها بالإسلام.
كما يوجد الكثير من الأحزاب القومية، والدول القومية، والأقاليم القومية، يكون فيها الدين أو المعتقد أو الثقافة هي المحاور الأساسية لتشكل الانتماء القومي، لا سيما في الهند وبورما والكثير من بلدان شرقي آسيا، وجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.
بل إن هناك أناسا من أوطان وأجناس ولغات وألوان متنوعة، تمترسوا حول دين جامع بينهم ليجعلوه هو القومية التي تجمعهم، تماما كما فعلت “إسرائيل”، التي لم تكتف بأنها سرقت الأرض التي تجمعت عليها كل هذه الأجناس غصبا، بل أقرت قوانين تسلب من غير اليهودي مواطنته، وبالطبع تقصد بها صاحب الأرض الأصلي.
ولعل من العجيب حقا أن تجد أحزابا قومية في العالم غير الإسلامي تحتفي عمليا بدين القوم الذين تمثلهم، في حين أن قوميينا العلمانيين يجعلونه مجرد شعارات لزوم “اللقطة” يرفعونها بخجل وعلى استحياء كلما اقتضت المنفعة، وفي كثير من الأحيان يقودون حملات الصدام معه.
والخلاصة أن كثيرا من القوميين العرب ولأسباب مريبة بدّلوا انتماءهم إلى قوميتهم بالانتماء إلى فكرة العلمانية الفضفاضة، وليتهم فهموا جوهرها، فهم استخدموها -فقط- لكسر الإسلام، وما هو بمنكسر حتى تقوم الساعة.
…..
بعد كل ذلك يأتي السؤال: لماذا نحن -العرب- صرنا نغمط الحق ونغبط الباطل، ونجيد تحطيم مصادر قوتنا بأيدينا في المجالات كافة؟
.............................................................
لهذا يصرون على حبس عمران خان
سيد أمين
16/3/2023|آخر تحديث: 19/3/202310:15 AM (بتوقيت مكة المكرمة)
قد لا يصدق أحد في الشرق الأوسط أن هذه الحملة الأمنية الصارمة التي تشهدها باكستان هذه الأيام من أجل تنفيذ حكم قضائي بالقبض على رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان، إنما هي لمحاكمته في قضية اتهامه ببيع 4 ساعات ذهبية تلقاها هدايا في فترة توليه السلطة تقدر قيمتها بنحو 100 ألف دولار فقط.
ولا يصدق أيضا أن عمران خان نفسه هو من بادر بتقديم وثائق لهيئات ضريبية تثبت أنه قام بشرائها من أمواله الخاصة بصفته من أشهر لاعبي الكريكيت في العالم سابقا، ومن حقه بيعها في أي وقت، خاصة أنه في عام 2019 أصدرت مفوضية الانتخابات الباكستانية تقريرا بامتلاكه ثروة قيمتها نحو 700 ألف دولار وقصرا قيمته 4.7 ملايين دولار أمريكي هي حصيلة بيع شقته في لندن.
ومصدر عدم التصديق هنا هو تلك المبالغة التي يحلو للإعلام الغربي والحكومي الباكستاني على حد سواء وصفها بجمل كبيرة من عينة “محاكمته بتهم فساد” أو “قضية الهدايا الثمينة”، وذلك بغرض أن يأخذها من لا يدري على عواهنها فتتخلق لديه صورة ذهنية سيئة عن الرجل، في حين أن المبلغ محل الحديث -إذا صدقت تلك الاتهامات- لا يتعدى مصروفات تكفي ليوم واحد من فسدة بلادنا.
تاريخ من اللامنطق
ولعل هناك من يستغرب عدم قيام عمران خان بتسليم نفسه لحضور جلسة محاكمته خشية اغتياله، لكن من يعرف التاريخ هناك يدرك ببساطة أنه لا مكان أبدا للمنطق فقد اغتيلت رئيسة الوزراء بينظير بوتو وسط حشد من جماهيرها، وأُعدم أبوها ذو الفقار علي بوتو بينما كان رئيسا للوزراء وهو الذي خطط لتملك بلاده القنبلة النووية، أما عبد القدير خان الذي أهدى البلاد هذه القوة الاستراتيجية فتم سجنه وتخوينه ومنعه من السفر حتى مات في ظروف غامضة، خاصة أن الرجل تعرض فعلا لمحاولة اغتيال في نوفمبر 2022 أودت بحياة أحد أنصاره وأصيب هو في قدمه مع آخر.
وليس من العجيب أن عمران خان حينما علم بما يدبر له بسحب الثقة من حكومته في البرلمان، استخدم في 3 أبريل/ نيسان 2022 حقه القانوني في إعلام رئيس باكستان بطلبه حل البرلمان لكن بدلا من أن يستجيب الرئيس للطلب كما هو متعارف عليه، وجدنا البرلمان يعقد في 10 أبريل من نفس الشهر جلسة غامضة وعلى عجلة لم تتح لأعضاء حزب الإنصاف الذي يترأسه خان حضور الجلسة، ويقوم بسحب الثقة من الحكومة.
ولعل هناك دلالات كبيرة في أن حدة الهجمة على عمران خان التي حدثت أثناء فترة حكمه تصاعدت بعد تقربه من روسيا والصين وسعيه للتكامل مع حركة طالبان أفغانستان، وهو ما أعلنه عمران نفسه -قبل أن يطاح به- من أنه تلقى تهديدات أمريكية.
نية مبيتة
المهم أن خان سارع بتقديم تعهد خطي للقوات التي تحاصر قصره في وسط إسلام آباد وتقود اشتباكات عنيفة مع أنصاره بأنه سيمثل أمام المحكمة، لكن فيما يبدو هناك نية لتصويره على أنه يستهزئ بأحكام القضاء وأنه يعتبر نفسه فوق القانون.
ولو كان في الأمر قدر من الحكمة لقبلت قوات الأمن التعهد وانتظرت الساعات الثماني والأربعين الباقية على موعد المحاكمة، فإذا أخل الرجل بتعهده كرت مجددا على قصره وأبطلت مزاعمه، لكنها رفضت قبول التعهد، مما يؤكد أن النية مبيتة للتصعيد وإخفاء الرجل في السجون بأي ثمن كان قبل المحاكمة المزعومة للحيلولة دون تواصله مع أنصاره، وهي إرهاصات تشير إلى نية لإدانته قبيل الانتخابات المقبلة في إقليم البنجاب.
وإذا نجا خان هذه المرة من الإدانة فقد أُعدّ له شرك محكم بسيل من البلاغات ضده بلغ 83 بلاغا، مع قضيتين أخريين تفصل فيهما المحاكم في البلاد، إحداهما حول ازدراء القضاء، والأخرى متهم فيها بالإرهاب!!!
وقد ظهرت النيات السيئة مبكرا حينما عينت لجنة الانتخابات الباكستانية في يناير/ كانون الثاني الماضي مرشح الحكومة المركزية سيد محسن رضا نقوي رئيسا مؤقتا للوزراء في إقليم البنجاب بعد حل عمران برلمان الإقليم الذي يسيطر عليه حزبه، وجاء قرار اللجنة بحجة فشل الحكومة والمعارضة على مدى أسبوع في اختيار شخص يشغل منصب رئيس الحكومة.
شعبية جارفة
لكن الأمر الذي يحسب له الجميع حسابا هو أن عمران يتمتع بشعبية جارفة في عموم باكستان ولا سيما في البنجاب وبين قبائل البشتون التي ينتمي إليها والتي تعتبر واحدة من أكبر قبائل باكستان وأفغانستان.
ومع تدني مستوى عمل حكومة شهباز شريف، وتردي الأوضاع الاقتصادية للبلاد، نظر كثير من الشباب الباكستاني إلى عمران خان على أنه الرجل المخلص للبلاد من الفساد وأنه الأجدر بتولي زمام الأمور.
ولعل هذه الحالة ومخاطر تحديها هي الشيء الوحيد الذي حال دون إخفاء عمران خان في ظروف سريعة وغامضة، وهي في نفس الوقت التي تبقي موقد النار متقدا.
.................................................
هل شاهد العالم جنة أمريكا في العراق؟
سيد أمين
23/3/2023
عشرون عامًا مرت على سقوط عاصمة الرشيد، لم ينهض العراق بعدها إلا بوجع، وما نام إلا على وجع، وبين الوجعين صنوف متعددة من الأوجاع، فذاق من الديمقراطية المزعومة التي روجت لها أمريكا وحلفاؤها الثلاثون كل خراب ودمار.
وبالقطع لسنا بحاجة لسرد فظائع ما جرى، فهو حديث مؤلم على النفس الذكية من جهة، ووقائعه معروفة للناس من جهة أخرى، ويكفي أن نقول إن كل شيء فيها صار مهيئًا للسرقة والبيع، الأرواح والأعراض والخبرات والآثار والتاريخ والأموال.
الخسائر كلها بالملايين إن لم تكن بالمليارات، ملايين الشهداء ومرارات الفقد للأحباء شيبًا وشبابًا وأطفالًا ونساء، ملايين اللاجئين والمشردين في الداخل والخارج، ملايين الفقراء الذين لا يجدون ما يقتاتون عليه بعد أن كانت بغداد أو “البغددة” مرادفة للرفاهية والترف الذي حلمت به الكثير من الشعوب.
بعدها احتل العراق الصدارة في كل ما هو مشين، الأقل في جودة التعليم، الأدنى في الرعاية الصحية، الأكثر انفلاتًا أمنيًا، الأعلى في معدلات الفساد، الأكثر هدرًا للموارد، فأصبح العراقيون الأقل سعادة في العالم، بعد أن كانوا الأفضل.
تقلص حلم العراقي الذي بلغ عنان السماء ذات يوم إلى مجرد توافر موارد الطاقة والكهرباء رغم أن بلده يحتل صدارة منتجي البترول، واضمحل حلمه لأن يهاجر إلى بلاد كان شبابها يذهب للعراق بحثًا عن الرزق.
انكفأ العراق على نفسه عقدين من الزمان يحاول أن يلملم آثار الانشطار الذي خلفه الغزو الأمريكي للبلاد، الذي مزق البلاد شر ممزق، فتشظت اللحمة التاريخية بين مكوناته إلى شيعي وسني، وعربي وكردي وتركماني، ومن بين كل فئة فيهم تفرق الناس بين موالٍ لأمريكا، وموالٍ لإيران، فيما صار المجُّرم بين هذا وذاك أن تكون مواليًا للعراق.
سقوط المزاعم
سقطت المزاعم جميعها التي اتخذتها أمريكا ومن معها سببًا لارتكاب هذا الخراب كله بحق العراق وشعبه، ولكن لم تسقط آثار الجرائم، ولن ينسى أحد أن العراق ما عاد للعراقيين بعد.
سقطت مزاعم النووي التي اتخذوها كحصان طروادة للتنكيل بهذا البلد المقاوم، وأقر القاصي والداني بعدم امتلاك العراق برنامجًا للسلاح النووي تمامًا كما كانت تقول قيادات هذا البلد قبل العدوان، ولكن الغرض مرض والنية مبيتة.
وفي نظري يحق لكل بلد في العالم امتلاك الأسلحة التي يريدها لحماية أمنه، طالما كان هناك من يمتلكون مثلها ويهددون استقراره.
وسقطت أيضًا مزاعم محاربة الاستبداد، فالقاصي والداني يعرف أن الولايات المتحدة هي من ترعي الاستبداد في بلداننا وتدافع عنه، ولولا حمايتها له ما كان حال العرب كما هو عليه الآن.
وسقطت مزاعم تهديد الأمن الإقليمي حيث أن من يتخذونه ذريعة لغزو العراق هم أنفسهم من يسمحون لإسرائيل بأن تقصف أي بلد عربي دون حتى كلمة تنديد واحدة، ويبررون لصواريخها أن تنطلق فتقتل من تقتل في لبنان وسورية والسودان والعراق وإيران، ويتسترون عليها كأبشع وآخر قوة احتلال عسكري في التاريخ.
كما أن قولهم بأن أمريكا تسعى لنشر الديمقراطية في العالم ليعد من قبيل الكذب البواح، فأصابعها واضحة في تخريب ثورات الربيع العربي المطالبة بالديمقراطية والاستقلال الوطني، وهي الثورات التي إن نجحت لأقصت نفوذها المتزايد تمامًا من هذه البقعة من العالم.
الفوضى الخلاقة
أليس هذا المشهد هو المجال التنفيذي للفوضى التي وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بالخلاقة؟ أليست هي “خلاقة” بالفعل، ولكن من المنظور الاستعماري الغربي الهادف لمحو كل مراكز التأثير والاعتراض في عالمنا العربي، وهو ما حدث فعلًا؟
ألم يكن العراق ضمن الدول التي وصفتها القائمة التي حددتها الولايات المتحدة في العقد الأخير من نهاية القرن المنصرم بالدول المارقة، التي تقصد بها تلك الدول الرافضة للانضواء تحت العباءة الأمريكية والغربية؟
وقد بدأت تلك القائمة بخمس دول فقط حتى انتهت بعد الإضافات لتشمل عراق صدام حسين، وليبيا القذافي، ويمن علي عبد الله صالح، وسوريا الأسد، وسودان البشير، وغزة حماس، وإيران الإسلامية.
وشملت القائمة من غير دول الشرق الأوسط كذلك أفغانستان طالبان، بالإضافة إلى كوريا الشمالية والصين وروسيا.
وبنظرة تأمل واحدة على الخريطة العربية ستدرك أنه قد حدث لباقي الدول العربية التي شملتها القائمة الأمريكية ما حدث للعراق بالضبط من تخريب واستدمار.
سقوط الأمة
في الواقع أن سقوط بغداد عام 2003 لم يكن إدانة للعراق ولا لجيشها الذي قاوم حتى الرمق الأخير أعتى إمبراطوريات العالم الحربية دفاعًا عن استقلاله، ولكن كان سقوطًا للنظام الرسمي العربي الذي دشنته بريطانيا في منتصف القرن الماضي، وتأكيدًا للمؤكد بأن الجميع يقبعون داخل الحظيرة ولا مجال للتمرد عليها.
فيما جاء الربيع العربي بعد ذلك محاولة فاشلة -ستَترى بعدها المحاولات الناجحة- لدفن ما سقط.
...............................................
الإبراهيمية.. حوار أم دين جديد؟ "رؤية مغايرة"
سيد أمين
منذ أكثر من عقد من الزمان حذرت الدكتورة زينب عبد العزيز، أستاذة اللغة الفرنسية التي ذاع صيتها، ليس بسبب ما ترأسته من مناصب علمية عديدة في مجال تخصصها، ولكن بسبب نشاطها الدعوي؛ من مخطط ماسوني خطير لتخريب الأديان، ودمجها في دين واحد يسمى الدين الإبراهيمي.
.........................................
أصوات العالم الإسلامي في الانتخابات التركية
سيد أمين
14/4/2023
لم يحدث أن اهتم العالم بانتخابات محلية لأي دولة في العالم من غير الدول العظمى كأمريكا وروسيا، كما يهتم بنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية التركية المزمع إجراؤها في مايو/أيار المقبل، بل أن الملايين حول العالم يهتمون بمعرفة دقيق تفاصيلها بشكل أكبر مما يهتمون بأي انتخابات سواها.
وكما ينقسم الناخب التركي بين دعم هذا أو ذاك، كطبيعة أي انتخابات ديمقراطية، نجد أن المميز هنا أن العالم أيضًا ينقسم معها الانقسام ذاته، فهناك من يدعم أردوغان والتحالف الحزبي الذي يقوده، وهؤلاء هم في الغالب من “الشعوب” الإسلامية وشعوب دول العالم النامي من غير المسلمين، وفي المقابل نجد هناك من يسعى إلى إسقاطه حتى دون أن يدعم شخصًا محددًا من معارضته، وهؤلاء من “النظم” الغربية ومن يتبعها من النظم الإسلامية.
ولهذا يود كثير من مسلمي العالم لو أنهم أدلوا بدلوهم في تلك الانتخابات، ووجدوا الوسيلة لدعم التصويت لصالح الحزب الحاكم ورئيسه أردوغان، وذلك لأنهم يرون الصورة كاملة من خارجها، وجلهم في حالة انبهار بما حققته تركيا طيلة العقدين الماضيين من نهضة غير مسبوقة في الداخل، ومكانة خارجية مرموقة جعلتها في طليعة الدول المدافعة عن الحق الإسلامي، وقبلة لملايين المظلومين والباحثين عن العدالة المفقودة في أوطانهم.
طبعًا لن يستطيع أحد من غير الأتراك أن يصوت في تلك الانتخابات، ولكنه يستطيع أن يبُصّر الناخب التركي الذي قد لا يملك الاطلاع السياسي الخارجي الكافي بالمكانة الكبيرة التي شغلتها تركيا وأردوغان في قلوب مليارات البشر غربًا وشرقًا في هذا العالم، وتأثيرها الثقافي والسياسي والاقتصادي الهائل الذي نقلها إلى مصاف الدول العظمى، وأنه يجب أن لا يهدر كل هذا بسبب مصالح ضيقة أو مشاحنات حزبية.
كما يستطيع أن يشرح له الآثار الاقتصادية والسياسية المباشرة وغير المباشرة العائدة على بلاده من تحقيقها هذا الوضع ما يستلزم المحافظة على استمراره، كي لا تعود تركيا حظيرة خلفية لأوربا وأمريكا مثلما حدث بعد سقوط الدولة العثمانية، وأن الدافع للنصح هو التنفيذ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقول رسوله إن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
وسائل مشروعة
ما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي سهلت الأمر كثيرًا، ونحن هنا لا نتحدث عن لجان إلكترونية وما شابهها من أعمال وضيعة تنتهجها بعض النظم والجهات، ولكن نتحدث عن إمكانية توجه المشاهير الذين يرون الرؤية ذاتها في أرجاء العالم الإسلامي كافة بنشر رسائل مهذبة ومختصرة تحمل رؤيتهم ونصائحهم باللغة التركية على حساباتهم الشخصية أو على الحسابات التركية الشهيرة يعرفون فيها أنفسهم مع تضمينها “هاشتاجات” الدعم لأردوغان.
وتستطيع الأحزاب والحركات والجمعيات والأندية ووسائل الإعلام والجامعات والمعاهد وغيرها وصولًا إلى كتّاب المقالات وأصحاب الرأي وحتى المواطنين العاديين فعل الأمر نفسه أيضًا، مع ضرورة أن يحرص الشخص العادي هنا على أن يقدم ما يقنع مشاهده أو من يقرأ رسالته من كونه شخصًا حقيقيًا وليس لجنة أو “ذبابة إلكترونية”، ويستطيع كل من لديه صديق تركي أن يرسل له بشكل مباشر.
كما تستطيع وسائل الإعلام والأحزاب والمنظمات والجهات الفاعلة في بقاع العالم الإسلامي سلوك المسلك ذاته عبر تشكيل وفود تزور الشركات والهيئات الشعبية التركية في بلدانهم لإبلاغهم بوجهة نظرهم.
ويمكن كتابة عرائض عبر تطبيقات العرائض الجماعية مثل “أفاز” و”عرائض جوجل” وغيرها، وجمع توقيعات عليها، وتوجيهها لمؤسسات الشعب التركي.
وفي المقابل يتوجب أن ينشط حزب أردوغان في العمل على إبراز ردود الأفعال التي تدعمه خارجيًا عبر وسائل الإعلام كافة المتاحة للحزب، والتدليل بها على المكانة التي حققتها تركيا في ظل قيادته.
قد تبدو مثل هذه الإجراءات يسيرة أو ساذجة، ولكنها من الممكن أن تسهم في تغيير توجهات الناخبين، وتحول دون ارتداد هذا البلد الذي يحبه الناس من العودة مجددًا لزمن التبعية والتقزم الذي عاشه طيلة القرن الماضي في ظل حكم أحد أبرز أحزاب المعارضة المناوئة.
لا شك أن تلك الإجراءات من الممكن أن يسلكها الكارهون لأردوغان أيضًا، ما لم يكونوا قد سلكوها فعلًا، لكن الفارق هنا هو أن القارئ التركي سيستطيع أن يميز بسهولة بين قوة حجية الرؤية أو ضعفها، وبين الشخص الحقيقي و”الذبابة”، وسيسهم في ذلك توافر إمكانات التعرف إلى شخصية المرسل من خلال صفحته الخاصة.
كما أن هناك عاملًا مهمًا للغاية يؤكد أن تنفيذ تلك الاقتراحات ما لم يفد فهو أيضًا لن يضر بأردوغان وتحالفه، وهو أن غالبية الكتلة التي تصوّت للرجل هي في الواقع مدركة واقعيًا لصحة ما تضمنته رسائل الدعم والتأييد، وبالتالي فإنها ستزيده حماسة لإقناع آخرين بها، فيما أن الرسائل المضادة لن تفلح أبدًا في إقناعه بأي رؤية مغايرة.
عمومًا هذه مجرد مقترحات شخصية، تخطئ وتصيب، ينفذها البعض أو لا ينفذها، لكنني بها أكون بها قد أدليت بدلوي في الانتخابات التركية، لأنني أنا كما ملايين الناس من غير الأتراك يخشون على تركيا من أن تسقط مجددًا.
والحال يقول إنه لو كان المتربصون كثرًا، فالمخلصون أكثر.
..........................................................
الطرق المعيارية لفهم الحالة السودانية
سيد أمين
16/4/2023
حالة صدمة تعم الأوساط الشعبية العربية جراء الصدام الدامي بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لتكون بؤرة الصراع الجديدة في الوطن العربي الذي ما فتئ يهنأ بانتهاء الحرب في سوريا واليمن، وسط حالة ضبابية شبه كاملة حول أسبابها ومخاطرها ومآلاتها.
هناك عدة قواعد قد تساعدنا على فهم ما يحدث في السودان، لعل منها الاطلاع على أسباب تأسيس قوات الدعم السريع عام 2013 بدعم من أجهزة الأمن السودانية لتعويض العجز الذي أصاب الجيش السوداني جراء الحرب الطويلة مع متمردي جون غارنغ المدعوم أمريكيا في جنوب السودان، التي انتهت بانفصال الاقليم.
وكان الدور الأساسي لقوات الدعم هو التصدي لمليشيات الجنجويد الانفصالية في إقليم دارفور، واستطاعت أن تحقق انتصارا كبيرا عليها مما حال دون انفراط عقد السودان، وقامت الحكومة باعتبار تلك القوات تابعة للجيش السوداني، هنا على الفور اتهمت أمريكا تلك القوات بارتكاب جرائم حرب، وفرضت عقوبات على نظام الرئيس عمر البشير.
ومن المدهش أن الفريقين المتقاتلين الآن توحدا من قبل فقط في توطيد الحكم العسكري، تارة بالإطاحة بنظام البشير في 6 أبريل/نيسان 2019، وتارة بالانقلاب على الحكم المدني عام 2021.
النفوذ الأمريكي
من المهم أيضا أن نأخذ في الحسبان أنه قبل إنشاء البشير لقوات الدعم السريع بنحو عقد من الزمن، صنفت الولايات المتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 على لسان رئيسها جورج دبليو بوش سودان البشير واحدة من “الدول المارقة”، ضمن 11 دولة في العالم تميزت بتمردها على حظيرة التبعية الأمريكية من بينها “العراق وسوريا وليبيا واليمن وحماس وحزب الله وإيران”.
وتعهدت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بعد ذلك في حديث صحفي عام 2005 بنشر “الفوضى الخلاقة” وتشكيل “الشرق الأوسط الجديد” القائم على فكرة دمج إسرائيل في المنطقة وقيادتها لها.
وبناء على ما سبق، يمكننا توقع أن تكون إزاحة البشير من الحكم قد جاءت آخر المهام في خطة عقاب الأنظمة المارقة، التي بدأت بسحق العراق وليبيا واليمن وإعدام قادتها، وتخريب سوريا ولبنان وحصار غزة، وكل ما أخشاه من تفجر النزاع السوداني هو أن يكون ذلك مجرد مؤقت لتفجر “الفوضى الهدامة” التي من شأنها تمزيق السودان إربا إربا.
وعقب الإطاحة بالبشير مباشرة، قفز السودان قفزة كانت متوقعة، بتوجه كل من “البرهان وحميدتي” نحو التطبيع مع إسرائيل في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، تلاه قيام واشنطن في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020 برفع السودان من القائمة السوداء الخاصة بالعقوبات الأمريكية.
النفوذ الروسي
هناك شكوك قديمة عن وجود علاقات بشكل ما بين قوات فاغنر الروسية وقائد قوات الدعم السريع، وتعاونهما معا في التنقيب عن الذهب واليورانيوم وغيرها من المعادن خارج رقابة الدولة، تعززت بزيارة حميدتي إلى موسكو مع بدء تفجر الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ليكرر ما فعله البشير عام 2017 وزيارته موسكو طالبا من بوتين حمايته من التدخلات الأمريكية.
وهناك حديث عن وعود بين حميدتي وروسيا لمنح موسكو قاعدة عسكرية روسية في مدينة “مروي” شمالي السودان، مع قيام قوات فاغنر بتدريب قوات الدعم السريع البالغ عدد أفرادها نحو 100 ألف مقاتل.
يحاول حميدتي إظهار أنه مؤيد للتيار المدني ورافض للحكم العسكري، تارة باعتذاره عن المشاركة في الانقلاب على الحكومة المدنية عام 2021، وأخرى باتهامه بشكل متكرر للبرهان بأنه يحاول عبر جميع قراراته إعادة نظام البشير “ذي القشرة الإسلامية” أو “الكيزان”، ويسعى بهذا الاتهام إلى ذر الرماد في عيون داعمي البرهان الغربيين والتشويش عليهم.
الغريب أنه منذ عام 2013 كانت قوات الدعم السريع تُعَد جزءا من الجيش السوداني، إلا أنه مع توقيع الاتفاق الإطاري المؤسس للمرحلة الانتقالية عقب الإطاحة بالبشير، وجدنا حميدتي يرفض هذا الاتفاق الداعم لدمج “الدعم السريع” في الجيش بقيادة موحدة، ويصفه بأنه سيمزق البلاد!!
وهو ما يكشف عن طموحات حميدتي الكبيرة في السلطة، إذ إن تنفيذ الاتفاق الإطاري سيجعله يفقد سلطته قائدا لهذه القوات التي تتميز بسرعة التنقل، وحرب الشوارع، والخبرة الميدانية الكبيرة التي اكتسبتها من حربها مع مليشيات الجنجويد، مع توافر الانتماءات القبلية التي يتميز بها أفرادها.
الوثائق الصهيونية
في سبتمبر 2008، قال وزير الأمن الداخلي الصهيوني الأسبق آفي ديختر في محاضرة له بمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إنه ينبغي منع السودان بموارده ومساحته الشاسعة من أن يصبح دولة إقليمية قوية وعمقا استراتيجيا إضافيا لمصر كما حدث في عام 1967، وإنه ينبغي التدخل بكل الوسائل المعلنة والخفية لإضعافه وتمزيقه وإشغاله في أزماته الداخلية، مع اعتبار ذلك من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.
وبناء على تلك الرؤية الصهيونية، فإن على السودانيين أن يدركوا أن هناك من يعمل على صب النفط على النار محاولا تغذية الطموحات الشخصية في السلطة لدى جنرالات السودان، بينما يخطط في النهاية لحرق السودان فلا يبقى هناك بلد يحكمه أي منهما.
وعليهم جميعا أن يعلموا أنه إذا امتدت يد الخارج لهذا البلد، فإنها في أغلبها لا تسعى لانتشاله بل لإغراقه.
صراع السودان نتيجة طبيعية لحكم العسكر.
................................................................................
لماذا اعتقلوا عمران خان.. ولماذا أفرجوا عنه؟
سيد أمين
15/5/2023
ليس هناك أي جديد غير متوقع في مسألة اعتقال رئيس الوزراء الأسبق ولاعب الكريكيت الشهير عمران خان من مقر المحكمة العليا في العاصمة إسلام أباد، الثلاثاء الماضي، ثم الإفراج عنه بعد اضطرابات شعبية خطيرة وصفت بأنها غير مسبوقة منذ تأسيس الدولة.
فأمرا الاعتقال والإفراج جاءا كما هو متوقع تمامًا، فالنية مبيّتة لإقصاء الرجل نهائيًا من الحياة السياسية الباكستانية بعد سعيه التوجه بالبلاد نحو الصين وروسيا بديلًا عن التوجهات التقليدية نحو الولايات المتحدة التي يدين بها معظم قادة الجيش والطبقة القضائية والسياسية المهيمنة.
ليست تلك هي منطقة الارتطام الوحيدة بين عمران والقيادات العسكرية التقليدية، ولكن هناك تحديًا آخر اعتزم خان تخطيه من خلال الانفتاح الكامل على حركة طالبان في أفغانستان، ويرى أن نسيج الحركة الأفغانية كما نسيج الشعب الأفغاني كله، هو مكمل طبيعي للشعب الباكستاني، محطمًا التوجهات الأمريكية الخاصة بإحكام حالة الحصار غير المعلن المفروض عليها.
ومن أخطر الخطوط الحمر التي تخطاها عمران خان هو سعيه لتنويع مصادر سلاح الجيش الباكستاني بدلًا من اقتصاره على السلاح الأمريكي والغربي، وبالطبع هذا يعد مؤشرًا خطيرًا في دولة تمتلك رؤوسًا نووية حيث يمكنها أن تمثل تحديًا مباشرًا للغرب يصعب ترويضه مثلها مثل كوريا الشمالية وإيران متى تولى أمرها حاكم له توجهات مستقلة.
أسباب داخلية
وإذا كانت تلك هي الدوافع الخارجية للتخلص منه -حتى لو فشلوا هذه المرة فقد يكررونها مستقبلًا- فإن الدوافع الداخلية هي الأكثر أهمية، وهي أنه جاء لمحاربة الفساد وتمكين الشباب والطبقات الفقيرة من السلطة بعيدًا عن العائلات الأرستوقراطية التي اعتادت على توارثها تقليديًا، يساعده في ذلك انتماؤه إلى قبائل الباشتون وهي القبائل الأكثر عددًا في البلاد.
كما أن الفساد يتفشى في باكستان على نطاق واسع، ويمتد ليشمل القطاعات كافة من الحكومة إلى القضاء والشرطة والخدمات الصحية والتعليم، لدرجة أنها تذيلت مؤشرات الشفافية في العالم كافة جعلت بعض مؤسسات المراقبة الدولية تعتقد أنه في المدة من 2008 إلى 2013 أهدر الفساد ما تصل قيمته إلى 100 مليار دولار وهو الرقم الأعلى في تاريخ البلاد.
ولقد تسببت تلك التوجهات في التفاف قطاعات واسعة من الشعب الباكستاني لاسيما الشباب حول الرجل، فعدّوه المخلص من تلك الرواسب كلها التي جعلتهم وبلادهم في حالة اقتصادية مزرية رغم امتلاكهم مكونات النجاح كافة من ثروات متنوعة، وقدرات علمية وعسكرية، وثروة بشرية، وموقع جغرافي ممتاز، وغير ذلك، ولعل تلك الشعبية هي ما زادت من الإصرار على ضرورة التخلص من عمران خان نهائيًا.
النية مبيّتة
هذه هي الأسباب الحقيقية وراء اعتقال الرجل، وليس تلك الأسباب الهزلية التي تتحدث عن قضايا فساد وبيعه ساعات تلقاها هدايا إبان فترة رئاسته للوزراء بقيمة 600 ألف دولار، وهي الواقعة التي حتى في حال صحتها -وهي غير صحيحة في الأغلب- مبلغ ضئيل لا يمثل حصيلة فساد رئيس مجلس مدينة في باكستان نفسها أو في أي دولة من دول العالم الثالث وليس رئيس وزراء.
تسلسل الأحداث يؤكد سوء النية منذ أن انعقد البرلمان بشكل غير اعتيادي في أبريل/نيسان 2022 ليصوّت على سحب الثقة من حكومته أثناء غياب نواب حزبه الإنصاف “حزب الأغلبية”، وبعد أسبوع واحد من قيام البرلمان ذاته برفض حجب الثقة عنه، بل وتجاهل رئيس البرلمان آنذاك قرار خان بحل البرلمان قبل الانعقاد بساعات.
تلاه حكم مفوضية الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2022 باستبعاده من العمل السياسي لمدة 5 سنوات، ثم محاولة اغتياله في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، ومحاولة اعتقاله في مارس/آذار الماضي، ومهاجمة الشرطة لمنزله بالأسلحة النارية لولا تصدي أنصاره لهم.
ثم أخيرًا اعتقاله على يد قوات شبه عسكرية من أمام محكمة ذهب إليها في إحدى تلك القضايا العديدة التي رفعت ضده بقصد استخدامها لتغييبه عن المشهد السياسي.
انتخابات البنجاب
ومن مشاهد التعنت ما أصرت عليه الحكومة برفض إجراء انتخابات للبرلمان المحلي لإقليم البنجاب قبل شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو البرلمان الذي كان يسيطر عليه حزب الإنصاف بزعامة خان، وتم حله في إطار الصدام مع الحكومة المركزية في إسلام أباد في يناير/كانون الثاني الماضي.
حجة الحكومة في التأجيل هي عدم وجود موارد مالية كافية لتنظيم تلك الانتخابات المحلية، وإن كان هدفها الأساس هو تجريد عمران خان من مصادر قوته التشريعية في محل نفوذه الأصلي، مخالفة بذلك قرار المحكمة العليا الذي قضى بتنظيم تلك الانتخابات في المدة من 15 أبريل/نيسان الماضي حتى 15 مايو/أيار الجاري.
ولربما قررت الحكومة الانصياع لقرار المحكمة وإجراء الانتخابات في الإقليم، ولكنها رأت أنه من أجل تنفيذ مخططات إقصاء عناصر حزب خان فلا بد لها أن تعتقل الرجل ما يمكنها من أن تجبره على المساومة وإجراء عملية محاصصة بعدها ستجرى الانتخابات ويفرج عنه، أو أن يرفض الإملاءات فيدفع الشارع لمزيد من التصعيد فيتعذر إجراؤها في الإقليم بسبب الأحداث الأمنية، وفي الحالتين فائدة لخصوم خان حتى لو على حساب الوطن.
يبدو أنهم وجدوا الطريقة المناسبة في مسألة انتخابات برلمان البنجاب، ولذلك تم الإفراج عنه منعًا لمزيد من الاضطرابات خاصة بعد انكشاف مخططاتهم شعبيًا.
المهم أن اعتقال خان لم يكن ليدوم طويلًا، لأن دوامه يعني سقوط باكستان في دوامة فوضى تاريخية، وفي الوقت نفسه مخططات إقصائه لم تتوقف أيضًا ولكنهم فقط يبحثون عن الطريقة الآمنة.
هذه عظة بالغة، فعمران خان احتمى بالشعب، والشعب يتدخل كل مرة لحمايته.
...........................................................................
ليتها معركة حول هوية كليوباترا فقط
سيد أمين
29/5/2023
ما إن أعلنت منصة نتفليكس الرقمية اعتزامها عرض سلسلة أفلام وثائقية عن كليوباترا في 10 مايو/ أيار الجاري، وظهرت بطلة العمل بدور سيدة سمراء حتى هاج وماج البعض ووجدوها فرصة مواتية لخوض غمار معركة ضارية حول حقيقة لون بشرة كليوباترا.
وتصاعدت الأحداث فوجدنا قنوات إعلامية تتحدث بالساعات عن المؤامرة التي تهدف لتشويه تاريخ مصر، حتى وصل الأمر إلى بيانات من المجلس الأعلى للآثار ومجلس الوزراء الذي ترك كل انشغالاته والهموم التي يرزح تحت نيرها البلاد والعباد ليصدر بيانا يخلص فيه إلى أن كليوباترا كانت شقراء، ووصل الأمر إلى مدى بعيد في حد اللامعقول فصارت بشرتها مثار حديث فيما يسمى “الحوار الوطني”!!
ولاستكمال مشاهد العبث الوطني فوجئنا بأنباء رسمية عن نية “مصر” متمثلة في القناة الوثائقية المملوكة للشركة المتحدة، إنتاج فيلم وثائقي ردا على فيلم نتفليكس!!
كما ردد الكثيرون من مرتادي الخوض في عباب الوطنية الزائفة -دون اكتراث بوقوعهم في عار العنصرية- أن ظهور هذه الملكة العظيمة ببشرة سمراء لهو انتقاص منها ومن مصر.
وخانت هؤلاء القوم حصيلتهم الثقافية في معرفتهم أن كليوباترا لم تكن مصرية ولا تعبر عن مصر، إن لم تكن هي بأصلها البطلمي مجرد محطة من محطات الانكسار في تاريخ هذا البلد الذي تم استعماره من عدة قوى خارجية في معظم تاريخه المعروف.
وتجاهلوا أنها من هؤلاء الغزاة الذين تعالوا على المصريين وساموهم سوء العذاب دون أن يقدموا لهم المساواة والعدالة ولا أي طرح فكري سوى الاستعباد التام، وأن نهايتها لم تكن على يد مصري ولكن كانت على يد غاز روماني آخر أجبرها على الانتحار في إطار الصراع بين المستعمرين.
وخانهم وعيهم “الجيوبولتيكي” في أن غالبية سكان مصر هم من ذوي البشرة السمراء إما لأنهم أفارقة وإما لأنهم عرب، وأن “سمرة الوجه” لا تنتقص من قيمتهم ولا من سموهم، فهم أصلا ينتمون لقارتهم السمراء.
وجاهة المعركة
يحاول البعض إكساب المعركة “الوهمية “بعدا ثقافيا ونضاليا فيقولون إنهم يتصدون لمؤامرة كبيرة يتعرض لها تاريخنا من قبل حركة تسمى “المركزية الأفريقية” أو “الأفروسنتريك”، وأنها تسعى لسرقة تاريخنا.
مع أن كل ما قرأته عن تلك الحركة وما هو متوافر عنها أنها تسعى للتصدي لتهميش دور أفريقيا الحضاري في العالم، ونفي الاعتقاد الاستعماري السائد في العالم بكونها تمثل عبئا على الحضارة الإنسانية.
ومع اعتقادي أنها كيان هلامي، أو أنها كيان هش قائم فعليا تحرك بعض مؤسسيه أهداف إنسانية وثقافية، وأنها لو ادعت أن بشرتها سمراء أو بيضاء أو حتى خضراء فإن ذلك لا يمثل أبدا مؤامرة على تاريخنا المصري إطلاقا؛ وذلك لأن مصر هي فعلا دولة أفريقية، ومواطنوها أفارقة.
ومن يعش في هذه القارة طويلا أيما كانت بشرته قبل القدوم إليها فسيتحول لونه إلى السمرة بسبب طبيعة المناخ.
صراع هوية
كل ما أخشاه أن يكون فتح موضوع “لون بشرة كليوباترا” وما كسبه من زخم إعلامي هائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليس مقصودا بذاته ولا بقصد الدفاع عن مصر ولا حتى كليوباترا، ولكنه حلقة من سلسة محاولات خبيثة لإثارة جدال خطير في المجتمع حول هوية مصر المستقرة عربيا منذ الفتح العربي، يليه الانتقال إلى حلقة الصراع حول فرعونية وعروبة مصر، وهل جاء العرب إلى مصر فاتحين أم غزاة؟
للأسف ذلك هو الاحتمال الأكثر ترجيحًا في نظري، فالحرب على الهوية العربية والإسلامية في أوجها، وها هي اللغة العربية تنحسر بشكل واضح في يافطات الشوارع وإعلانات التلفاز، والنوادي والبنوك وحتى في ألسنة الناس، وبينما تنقص أعداد المدارس والجامعات العربية بشكل ملحوظ، ويتم تقزيم الأزهر وتحجيمه وتصعيب مناهجه، تتضاعف في البلاد مدارس اللغات بكل أنواعها، ويدرس الطلاب المصريون وحتى تلاميذ رياض الأطفال المناهج بالإنجليزية، وينحصر تدريس اللغة العربية في مادتها فقط، في حين وُضعت مناهجها بشكل ينفر الطلاب من تعلمها.
ورغم أنني لست ضد تدريس “الهيروغليفية” كنشاط ثقافي فإن اقرارها لتلاميذ التعليم الأساسي في هذه الأجواء التي تعاني منها اللغة العربية بشدة، يلقي ظلالا من الريبة على القرار، خصوصا أن منصة عالمية شهيرة كويكبيديا قامت باعتماد ما سمّته “اللغة المصرية” لغة تدوين عليها، وهي تتضمن مصطلحات وألفاظًا باللهجة الدارجة المصرية، مما يمكن أخذه قرينة على أن هناك ما يتم التخطيط له خارجيا حول هوية هذا البلد.
واقعتان
والواقع يقول إن ضجة كليوباترا تتشابه إلى حد بعيد بالضوضاء التي واجهوا بها مسلسل السلطان “سليم الأول” الذي تستعد تركيا لإنتاجه، وذلك بإنتاجهم فيلم “ممالك النار” الذي يشيطن السلطان العثماني ويضفي الاحترام على نظيره المملوكي طومان باي، وسوقوا الصراع بينهما على أنه معركة استقلال، مع أن السلطانين المتقاتلين المملوكي والعثماني هما في الأصل تركيان.
كما أن محاولات نفي عروبة مصر أو “فرعنتها” ليست بجديدة، فهي مستمرة منذ قرون، وكانت آخر محطاتها الحديثة عندما قفز الرئيس السادات إليها لتبرير تجاهله للرفض العربي لاتفاقات كامب ديفد المخزية.
لكن الفكرة انهارت لأن السادات لم يستطع الترويج لها بشكل جيد، إذ كان للنخب السياسية آنذاك شيء من القدرة والوعي لتمزيق ذلك المشروع الخطير.
وأظن أن هناك من ينبش لأن يتم نزع توصيف “العربية” من المسمى الرسمي لـ” جمهورية مصر العربية”
الألاعيب التي تمارس لنفي عروبة مصر كثيرة ولا تتوقف، وإذا أغمضنا أعيننا فلا يُستبعَد أن نكون أمام أندلس جديدة.
............................................................
الميتافيرس.. هل أدركه العرب؟
سيد أمين
25/6/2023
الميتافيرس، والتي تعني “العالم الخيالي أو العالم ما وراء التقليدي “كلمة قد لا تكون متداولة أو معروفة في العديد من بقاع العالم لا سيما في مجتمعاتنا العربية، إلا أن المجتمعات العلمية الغربية تكثف جل اهتمامها للبحث في هذا النوع من العلوم المتقدمة الخارقة للطبيعة، والتي تشير كل التقديرات العلمية أنها ستكون حقيقة يعيشها الناس خلال العقود القليلة القادمة، مخلفة وراءها كل تقنيات عالمنا الأن في مجال التواصل والاتصالات مكدسة في سلال المهملات.
ولعلنا لا نعرف من “الميتا” سوى أنها جزء من “ميتا فلات فورمز” وهي الاسم الجديد للشركة المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة “فيس بوك” و”واتس آب” و”إنستغرام”، مع أنه في حال نجاح التجارب على هذا العلم فستكون تلك الشركة واحدة من أكبر ضحاياها، لأن نجاح هذا العلم سيعني إلغاء كافة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المعروفة حاليا، وبالطبع تغيير آليات عمل كافة وسائل الاتصال، وإحداث طفرة علمية فيها لا تختلف كثيرا عن أطروحات أفلام الخيال العلمي.
توقعات العلماء تشير إلى أن الإنسان العادي في العقود القادمة قد يبدأ يومه بارتداء النظارات الافتراضية التي لن تمكث طويلا لتتحول لمجرد عدسات وسماعات قد لا يمكن مشاهدتها دون تركيز فيها، يتواصل بها مع الآخرين بمجرد تحريك عينيه أو أصابعه، ويصدر أوامره لتشغيل الآلات ويقود بها عملية الإنتاج والزراعة والصناعة عبر نسق متكامل من الإعجاز العلمي.
وبالطبع سيتبع ذلك تغيرا جذريا في أنماط معيشة الناس واهتماماتهم وسلوكياتهم، ومنها بالتأكيد إدارة استراتيجيات الحرب والسلام، والسيطرة على الجموع، والتحكم في وعي الناس واعتقاداتهم ومعتقداتهم، وهو الأمر الذي يزيد من عوامل التحفيز الواجبة علينا كعرب أو كمسلمين لخوض غمار هذا العلم مبكرا.
والشيء المعيب حقا أننا هنا لا نجد كتبا تتحدث عن هذا العلم باللغة العربية، وإن وجدناها فإن القارئ سيبذل الكثير من الجهد لفهم المصطلحات والترجمات الخاصة بهذا العلم، ما يتوجب معه سرعة قيام مجامع اللغة العربية باستحداث الألفاظ وتعريب تلك المصطلحات، مع قيام وكالات الترجمة بالتركيز قليلا على هذا العلم، حتى لا ننهض ذات عام من غفوتنا ونجد أنفسنا خارج حسابات الكوكب علميا.
الاستشعار المبكر
في أزمة كورونا التي هاجمت العالم السنوات الماضية وما زالت، بنى الكثيرون اعتقاهم بأنها نتاج مؤامرة بيولوجية سرية تشنها بعض القوى العظمى في العالم في إطار تنفيذ خطة “المليار الذهبي” أو تخفيض عدد سكان العالم لأقل من الربع، ودللوا على ذلك بالعديد من الأفلام السينمائية الغربية القديمة التي كانت تحدث عن تصنيع هذا الوباء لدرجة أن بعضها ذكره بالاسم.
وبنفس الحالة، وجدنا العديد من الأعمال السينمائية الغربية القديمة تتنبأ بالاستخدامات المرعبة المحتملة للميتافيرس، ثم وجدنا بعد ذلك علماء الميتافيرس يتحدثون عن تقنيات مشابهة لما ورد في تلك الأعمال الفنية، ولعل من المثير أن نجد اسم شركة “ميتا” يتكرر في الحدثين، بعد أن سبق أن نسبت إلى مالكها تصريحات قديمة تحدثت عن تصنيع الكورونا، ثم عاد ليتبرأ من نسبة التصريحات إليه ويقول إنها “مفبركة”.
من تلك الأفلام مثلا فيلم ” Ready Player one لاعب جاهز واحد” ويتحدث عن هيمنة إحدى الشركات الاقتصادية على العالم باستخدام هذه التقنية عام 2045، وفيلم” Minority Report تقرير الأقلية” وتدور أحداثه في عام 2054 ويتحدث عن استخدام الميتافيرس في قتل المجرمين والإرهابيين- وبالطبع معروف من المقصود بالإرهابيين.
وفيلم “Avatar أفاتار” يتحدث عن استخدامه لتغيير معتقدات الناس وسلوكياتهم، وفي “Iron man الرجل الحديدي” يتحدث عن قيام رجل باستخدام سلاح فتاك لا يمكن مضاهاته لقتل الملايين، وفي “Wreck it Ralph حطمه رالف” يتحدث عن عملية التدمير الجماعي ودفع الناس لاتباع السلوكيات المنحرفة، أما فيلم “الرعب horror” فنجده يتحدث عن استخدام الميتافيرس للتأثير في عواطف البنات الجنسية.
وهناك أفلام كثيرة تسير في نفس المنوال مثل ” Herهير ” و” Smart house المنزل الذكي” و Tron و ” The Matrix المصفوفة (ماتريكس) ” و” Strange days أيام غريبة ” وعشرات غيرها تتحدث فيما يشبه اللامعقول، لكن عودتنا التجارب السابقة أن كل ما اعتقدنا أنه غير معقول؛ حدث!
هل فات الوقت؟
لم يفت بعد، فمن سار على الدرب وصل، لكن ينبغي على الأنظمة العربية أن تبقى على يقين بأن الاستثمار الحقيقي ليس بإنشاء المدن والأبراج والكباري والأنفاق دون حاجة إليها، ولكن فقط بالإنفاق على العلم والعلماء بكافة فروعه.
وليعرفوا أن العلماء هم أصحاب الفضل على البشرية، فمنهم من غيّر حياتنا باختراع الكهرباء وعديد استخداماتها، ومنهم من عالج الأوبئة المستعصية، ومنهم من صعد للقمر، أو هبط لجوف الأرض، ومنهم أيضا من صنع القنبلة الذرية فاستطاع أن يفعل بها ما تعجز أن تفعله جيوش بها ملايين الجنود، وملايين الأطنان من المتفجرات وقت الحرب، وأن يوفر بها لدولته الأمان العسكري اللازم وقت السلم.
تحيا الأمم مستقلة فقط حينما يُحترم العلماء وتتوفر الإرادة.
.........................................................................
الإسلام والهولوكوست ..ازدراء وتقديس!
سيد أمين
30/6/2023|آخر تحديث: 30/6/202303:30 PM (بتوقيت مكة المكرمة)
بينما كان نحو رُبع عدد سكان الكوكب من المسلمين يحتفلون بأعظم أعيادهم؛ عيد الأضحى المبارك، كان هناك متطرفون في السويد قد حصلوا على التراخيص اللازمة لإحراق الكتاب المقدَّس لأتباع هذا الدين الذي يحتل عدد أنصاره المركز الثاني بعد الديانة المسيحية في العالم بفارق ضئيل، قطعا حدثت وستحدث إدانات واستنكارات هنا أو هناك، لكنها خجولة تأتي ذرّا للرماد، دون إجراء حقيقي يحول دون تكرار هذا الجُرم الذي أصبح ارتكابه روتينيا فعلا في دول بعينها، وذلك لأن من أمن العقاب أساء الأدب.
الإساءة إلى الإسلام لا تنقطع أبدا، فمنذ أيام قليلة دهم مستوطنون إسرائيليون بلدات فلسطينية محتلة، ودنسوا المساجد ومزقوا المصاحف وداسوا بقاياها بالأقدام، وخرجوا في أمان بعد أن قتلوا الأبرياء وعاثوا فيها فسادا، ولِمَ لا؟! وقد اعتادت قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية نفسها اقتحام أهم ثالث مسجد مقدَّس للمسلمين وتدنيسه بأحذيتهم وإلقاء قنابل الغاز على المصلين فيه، وكثيرا ما حرقت خلالها المصاحف، ولم يحدث أي شيء على الإطلاق سوى دعوات غربية تساوي في مجملها بين الضحية والجلاد، وتدعو إلى عدم التصعيد ووقف “الاشتباكات”.
وفي الهند، تنقل لنا الكاميرات بوتيرة شبه يومية أعمالا بربرية يتعرض لها المسلمون هناك، فتاة يجبرها المتطرفون الهندوس على خلع حجابها، وأخرى تتلقى ضربات قاتلة وسط حشد من الناس، وشاب يُجبَر على السجود لبقرة، وأخر يُجبَر على ترديد شعارات تُمجد الهندوسية وتحط من شأن الإسلام، وبالتأكيد هي ليست سلوكيات فردية، فقيادي كبير من الحزب الحاكم في الهند سخر من الإسلام ومن رسوله الكريم (ﷺ)، ولم يحدث شيء سوى إقالته من منصبه بعض ضغط هائل من العالم الإسلامي.
ولدينا قناعة تامة بأن الموظف الكبير المارق ذلك سيعود إلى منصبه، إن لم يكن قد عاد بالفعل، وربما إلى منصب أعلى، وذلك لأن ازدراء الإسلام هو فعل ممنهج في دولة تهدم المساجد حتى لو كانت مساجد تاريخية كمسجد “شاهي” في مدينة الله آباد، الذي سبقه قبل 33 عاما، وتحديدا في 6 ديسمبر/كانون الأول 1992، قيام آلاف الهندوس من أتباع حزب بهاراتيا جاناتا (الحاكم حاليًّا) بمهاجمة مسجد بابري التاريخي وهدمه دون عقاب، واكتملت المؤامرة بإصدار محكمة هندية عام 2019 حكما بتسليمه إلى الهندوس لبناء معبد عليه.
وتتكرر المأساة في الصين التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي صور عن أعمال هدم لمساجد فيها، والمدهش أن المسلمين في الهند والصين هم أقليات كبيرة تُقدَّر أعدادها بعشرات الملايين.
المعايير المعوجة
ونذكر أنه حينما دمرت حركة طالبان عام 2001 تمثالين لبوذا في “باميان” بأفغانستان قامت الدنيا ولم تقعد، وخرجت حكومات الشرق والغرب والمنظمات الدولية المهتمة ومجلس الأمن والأمم المتحدة، تندد بما تسمّيه الإرهاب الذي ألصقته زورا بالإسلام، رغم أن معظم المنظمات والحكومات في العالم الإسلامي شاركت دول العالم في التنديد بهذه الجريمة، وانتهى الأمر بتدمير أفغانستان عبر تحالف عسكري أمريكي غربي مريع، ومع أن ما فعلته طالبان حينئذ يُعَد أمرا شائنا، ولا يعبّر عن دين يؤمن تماما بحق الآخرين في الاعتقاد، فإننا لم نسمع أي أدانات شديدة اللهجة وواحد من أعظم مقدساتنا يُدنَّس في القدس الشريف، ومساجدنا التاريخية تُهدم في آسيا وإفريقيا.
تلك الاستهانة بالمقدسات الإسلامية والمسلمين فتح شهية العديد من دول العالم لمواصلة التمييز الديني ضد الإسلام، فقامت إثيوبيا التي يُمثل المسلمون فيها -وفقا لتقديرات رسمية قديمة- نحو 35% من تعداد سكانها، وفي تقديرات أخرى يتجاوزون نحو 65%، بهدم العديد من المساجد، حسب ما ذكره ناشطون إثيوبيون، وكذلك فعلت جمهورية إفريقيا الوسطى.
ولِمَ لا تنفتح شهية القمع وهم يرون أن رئيس فرنسا يدافع بدون حياء عن الرسوم المسيئة إلى الرسول ﷺ، وأن هناك أيادي مسلمة تمتد إليه بالدعم، وأن المقاطعة الشعبية للبضائع الفرنسية لم تُجدِ نفعا بتواطؤ الأنظمة الحاكمة مع من يدعم ازدراء دينهم ومقدساتهم؟!
واضح تماما أن حكومات العالم الإسلامي اعتادت الوقوف عاجزة لا تحرك ساكنا مهما أصدرت من بيانات احتجاج أو اعتراض، وذلك لأنها افتقدت أسلحة الردع الواجب عليها اقتناؤها، وانحسر دورها في تلجيم غضب شعوبها، بل إن الهوان وصل بها إلى درجة أن معظمها لا تستطيع أن تطبّق قوانينها العقابية إلا على غالبيتها المسلمة، فتجور على المقدَّس المسلم لتجنب المساس بأي مقدَّس ديني لأي أقلية دينية أخرى داخلها.
قانون رادع
وجب على المجتمع الدولي والغربي تحديدا، إن كان صادقا في احترامه حرية الاعتقاد، أن يصدر قوانين رادعة تختص بتجريم الإساءة إلى الإسلام ومقدساته، وعليهم أن يعرفوا أنهم إذا كانوا يعاقبون الناس بسبب إنكارهم “الهولوكوست” وما هو بدين ولا عقيدة ولا مُسلَّمة من مُسلَّمات الطبيعة، في حين أنه مجرد حدث يقبل الصحة والتشكيك، فالأَولى أن يطبّقوا العقوبات على “وسائل الإعلام والحكومات والناس العاديين” الذين يزدرون الأديان.
أمّا إن كان صادقا في احترامه حرية التعبير، فيجب عليه حينئذ التوقف الفوري عن دعم الأنظمة الاستبدادية التي تصادر آراء الناس وتمنعهم حقهم في التعبير والتفكير والمشاركة السياسية، ويجب عليه أيضا تأمين جميع وسائل وأنماط حرية التعبير والاحتجاج وعدم إخضاعها لسيطرة تلك الأنظمة، وألا يقف متفرجا بينما يتم اعتقال الناس أو قتلهم لمجرد إبداء رأيهم السياسي، وبالطبع يلزمه حينئذ إسقاط عقوبة إنكار “الهولوكوست”، وهذا بالطبع لن يحدث أبدا.
وأخيرا، فإذا كانت الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي صادقة في دفاعها عن الإسلام، فيجب عليها أن تُعِد لحمايته ما استطاعت من قوة العلم، وقوة الاستقلال، وقوة الردع.
...........................................................................
ألغام جديدة في طريق المصالحة الليبية
سيد أمين
10/7/2023
هناك في ليبيا من يصرّ على أن تبقى العربة دائما قبل الحصان، وتحقيق الاستفادة الشخصية القصوى من الانقسام غير المبرر بين غرب البلاد وشرقها، وبين أبناء الشعب الواحد.
فبينما كان الليبيون يحتفلون بعيد الأضحى المبارك، ويقضون إجازتهم الرسمية ككافة بلاد المسلمين في العالم، كان هناك مجلس نواب من المفترض أن ولايته انتهت منذ نحو سبع سنوات ينعقد بأقل من نصف عدد نوابه ليقرّ تشكيل محكمة جديدة في البلاد هي المحكمة الدستورية، بدلًا من إقرار القوانين المتفق عليها من قبل المجلس السياسي المعروف باسم “أنسميل” لإتمام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الموحدة في البلاد.
يجري ذلك وسط مخاوف كبيرة من أن هذا الإجراء غير المبرر قد يهدم في حال الإصرار عليه المنجزات القليلة التي تحققت بجلوس الأطراف المتصارعة على مائدة الحوار، فيعيد إلى الجميع الكرة من البداية، فضلا عن أنه قد يمسّ الدائرة القضائية بنار الانقسام الذي ضرب أطناب جميع مؤسسات الدولة الليبية، بعد أن ظل القضاء هو الأكثر توحدا واستقلالا بينها؛ وذلك بسبب إصدار المحكمة العليا للبلاد حكما سابقا بإجماع الآراء في مارس/ آذار الماضي بعدم دستورية إنشاء المحكمة الدستورية التي أقر مجلس النواب إنشاءها في مارس/ آذار العام قبل الماضي.
تسلسل الأحداث
ولملء الفراغ كانت المحكمة العليا قد أعادت في أغسطس/ آب العام الماضي تفعيل الدائرة الدستورية، وهي التي تم إغلاقها مع تفجر الصراع عام 2015 من أجل حفظ ثياب القضاء البيضاء من ملوثات الصراع السياسي، وقد نص قرار إعادتها على أن يرفع جميع أعضائها مصلحة البلاد فوق أي اعتبار مناطقي أو قبلي أو سياسي، وأن تكون المرجعية للدستور فقط.
ووجب التذكير بأن مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح يمارس عمله طبقا لسياسة الأمر الواقع بعد تعذر إجراء انتخابات برلمانية جديدة بسبب الصراع الدائر بين مليشيا الجنرال خليفة حفتر التي تسيطر على شرق البلاد وتتخذ من بنغازي عاصمة لها، وقوات الحكومة الشرعية برئاسة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليًّا في طرابلس والمجلس الأعلى الليبي برئاسة خالد المشري الذي اعتبر أن هذا الإجراء باطل وبعث برسائل إلى رئيس مجلس النواب مطالبًا إياه بإقرار القوانين الانتخابية المتفق عليها من قبل المجلس السياسي.
وكان لجنة 6+6 المشكلة من قبل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، التي تجتمع في المملكة المغربية لوضع مشاريع قوانين الانتخابات بإشراف أممي، قد أعلنت في بدايات يونيو/ حزيران الماضي عن مفاجأة طال انتظار الليبيين لها بعد طول مماطلة وانقطاعات، وهي التوافق على قوانين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ولم يبق إلا الإعلان الرسمي عن موعد الانتخابات وتصديق رئاسة مجلسي الدولة والنواب عليها.
الخلافات المستقبلية
هناك تكهنات بأن الإجراء الذي اتخذه مجلس النواب الليبي بتسمية أعضاء المحكمة الدستورية يأتي أساسا في إطار تعميق محطات الخلاف مع الحكومة الشرعية في طرابلس، وذلك من أجل المساومة بهذا الإجراء والتنازل عنه على مائدة المفاوضات من أجل تمرير نقاط الخلاف الأهم والأكثر إلحاحا وعلى رأسها الموقف من ترشح العسكريين والمزدوجي الجنسية للمناصب العليا، وكذلك ما يأتي في مرتبة أدنى منها مثل الطريقة التي سيجري خلالها توحيد المؤسسات العسكرية والموقف من المقاتلين الأجانب، وتعيينات وزارة النفط والمالية، والقصاص، ومكافحة الفساد.
وليس خافيا على أحد أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر وهو المرشح الأول لرئاسة البلاد من قبل البرلمان والكتلة الشرقية هو عسكري سابق، شارك الناتو في الحرب ضد نظام معمر القذافي، وأنه يحمل الجنسية الأمريكية وهي الدولة التي عاش فيها قرابة 20 عاما قبل عودته مع تفجر أعمال 17 من فبراير/ شباط 2011، وبالتالي فإنه المتضرر الأكبر من مسألة إقصاء العسكريين والمزدوجي الجنسية.
وكثيرا ما اتهم “الجيش الوطني الليبي” قوات حفتر بأنها مدعومة من قبل مليشيا “فاغنر” الروسية، مما أحدث ارتباكا في فهم الولاءات التي يدين بها الرجل، فالدور الأمريكي في تنصيبه وتمكينه واستمراره واضح تماما في تراخي واشنطن اتجاهه، ومخاطبتها له بطريقة فيها ندية مع الحكومة المعترف بها دوليا، وعدم التنديد بمحاصرته للعاصمة طرابلس، وغير ذلك. ثم تأتي الدهشة حينما نجده يستعين بمليشيا قيل إنها مدعومة من قبل الحكومة الروسية التي هي في حالة عداء مباشر مع واشنطن!
بعد هذا التخبط في فهم المشهد جاء تمرد قوات “فاغنر” على الجيش الروسي في “أوكرانيا” مؤخرا ليضع لنا النقاط على الحروف ويبسط الخطوط المعوجة، ويقدم لنا احتمالا بأن قائد هذه المليشيا المدعو “بريغوجين” قد يكون عميلا لقوى غربية، وربما لواشنطن نفسها.
تكنهات
ولا يمكننا إغفال بيانات متكررة أصدرتها جهات تنسب نفسها لقبيلة القذاذافة التي ينتمي لها الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي تصف فيها حفتر بأنه عميل وخائن وأنه يستهدفهم في سرت ويحاصرهم تحقيقًا لأهداف ثأرية شخصية بسبب موقف القذافي منه، كما لا يمكننا إغفال ما نشرته فضائيات ليبية عن علمها بمخطط سري للتلاعب بتوصيات المجلس السياسي، والعبث بالإحصاءات السكانية ثم بالانتخابات المرتقبة، وأنه سوف يتم استغلال ذلك لإيصال حفتر إلى رئاسة البلاد.
لا نعرف مدى دقة هذه التحذيرات ولا مدى صحة إصدار قبيلة القذاذفة لها، وإن كانت في الواقع احتمالات متوقعة وواردة جدا، خاصة أن ما عهدناه في كل أحداث الربيع العربي كشف أن أسوأ الظنون التي ترددت على ألسنة المرجفين والمتشككين من الناس هي التي تحققت.
عموما الأيام القادمة ستكشف لنا إلى أين يتجه اللاعبون الدوليون بليبيا، إما إلى الاستقرار والنماء والعودة إلى الأيام الخوالي، وإما إلى مزيد من الانهيار والضياع، والأمر متوقف كله على نوعية التوافقات الدولية.
حفظ الله ليبيا وشعبها الطيب.
.....................................................................
التحرر من أوهام ثورة يوليو
سيد أمين
23/7/2023
كنت حتى وقت قريب من دراويشها، وناسكًا في محرابها، حتى حلت عليها اللعنة، أو انجلى عني سحرها، فتعرت في ناظري، وتحول لاعبوها إلى مجرد بهلونات في سيركها الذي يديره مخادع ماكر عتيد، تشعر بيده تعبث في كل شيء، وتحرك جميع الخيوط، ولكنك تحتاج إلى بصيرة من حديد حتى تراه، وإلى تجرد من الأوهام المسبقة حتى تؤمن بما سيطرحه عليك عقلك، ولما تسنى لي ذلك؛ وقتها عرفت حجم سذاجة اعتقادي القديم.
نحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الأسانيد التي تشكك في “ثورة” يوليو 1952 وهي كثيرة ومتنوعة، لأن قليلا من المنطق وحده كفيل بأن يهدم صرحها العالي المبني على سراب اللامنطق، بدءا من كونها ثورة، وانتهاء بأنها كانت حركة وطنية صرفة، مرورا بالإنجازات وحروب التحرر “الوهمية”.
الثورة والانقلاب
ودعونا نتفق أن الثورة هي عمل موجه ضد السلطة، والسلطة كما هو معلوم يعبر عنها بأدوات القوة كـ”الجيش والشرطة” أو أدوات العدالة كـ”القضاء والمجالس النيابية”، وتفصيلا نقول إنه حينما تطغي أدوات القوة على أدوات العدالة تصبح هناك سلطة استبدادية، ولكن إن خضعت أدوات القوة لأدوات العدالة حين إذن تكون هناك سلطة ديمقراطية، والأهم في كلتا الحالتين أن يكون وصول هؤلاء أو هؤلاء لمناصبهم جاء بناء على قواعد ديمقراطية وليست جبرية.
ولكن حينما نجد أن أدوات القوة في السلطة هي من تقوم بعمل عسكري مباشر- وهذا تماما ما حدث في تلك الثورة المزعومة- أو غير مباشر عبر تحريضها الناس على العصيان- كما حدث في غيرها- هنا يصبح ذلك “انقلابا”، وذلك لأن السلطة هي من تحدث ضدها الثورات وليست هي من تقوم بها أو تدعو لها، وإن فعلت، لكان ذلك انقلابا صريحا، وذلك لأن سلطة رأس الحكم المعني بالإطاحة بها لا قيمة لها ما لم تخضع لها أدوات انفاذها.
حركة وطنية ومهلبية
الحركات الوطنية الحقة التي تجئ معبرة عن إرادة الشعب لابد لها أن تمتاز بالتجرد والعدالة، وأبسط معاني هذا التجرد هو تسليمها السلطة للشعب بعد اقامتها حياة ديمقراطية سليمة، لكن ما حدث في هذه الحركة الوطنية المزعومة هو النقيض تماما، فقد ألغيت الأحزاب والمنظمات، وأممت الصحف وكافة وسائل التعبير، وصودرت الحريات، وتم الاستهانة بأرواح الناس وأعراضهم وأملاكهم، وكذلك أُهدر القضاء ليس عبر تطويعه كما يحدث في الديكتاتوريات التقليدية، بل إنهم وصلوا لمرحلة اعتلى فيها الضباط أنفسهم منصات القضاة، فصاروا الخصم والحكم!
ليست حركة وطنية أبدا تلك التي تزج بسفهاء القوم إلى لشوارع للهتاف ضد الديمقراطية بوصفها كفر، ثم تعتمد نظاما يُورث فيه الضباط الحكم بعضهم البعض دون أن يكون للشعب أي دور غير الجلوس في مقاعد المتفرجين، يستعملونه تارة كخزانة اقتصادية مكتظة يتم الجباية منها، وأحيانا يستخدمونه بوصفه خزانًا بشريًا هائلًا يمكن خداعه بسهوله ثم استدعاؤه في أي لحظة من أجل الانتقام من بعضهم البعض.
ليست حركة وطنية أبدا تلك التي يتفاخر قائموها بأنهم تخلصوا من حكم مستبد توارث الحكم أبًا عن جد؛ في حين أنهم ورّثوها من بعده لأنفسهم ولأسرهم، ومنحوا أنفسهم ما يشبه الحق الإلهي في التحكم في مصائر البلاد والعباد، فما كانت المحصلة إلا استبدال الإقطاع بالإقطاع، وتكاثر المستبد الواحد إلى عشرات الأمثال.
وللأمانة، ديمقراطية الملك هي من منحت هؤلاء الضباط إمكانية الالتحاق بالجيش رغم انتماء أسرهم للمستويات الدنيا من الناس، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل عن اتساع هامش التوظيف في المناصب السيادية لعامة الشعب، وهو الهامش الذي ضيقه وقصره الضباط الأحرار على أسرهم ومحاسيبهم حينما تمكنوا من الحكم، ما ألقي بمصر في جب التوريث الأسري السحيق.
تساؤلات قاتلة
ما هو المبرر المقبول لسماح بريطانيا لهذا الانقلاب أن ينجح في حين كانت مصر إحدى أهم مستعمراتها التي يعنيها استقرار الحكم فيها بأي ثمن، وكانت بريطانيا هي التي أخمدت عشرات الثورات والانقلابات في كافة مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس؟
وكيف لها أن تتخلى عن حليفها بتلك البساطة لهؤلاء النفر من صغار العسكر وهم من كان يكفي لاعتقالهم جميعا عربة ترحيلات واحدة؟
ولماذا لم تكرر ما فعلته في واقعة 4 فبراير 1942، وهي الواقعة التي حاصرت خلالها قصر الملك بالدبابات وأجبرته على حل حكومة الأغلبية بعدما تصورت تعاطفها مع القائد الألماني رومل في العلمين، وأجبرته على تشكيل النحاس باشا رئيس حزب الوفد حكومة الأقلية ليؤمن ظهرها في الحرب؟
وكيف سمحت وهي من تسيطر على المجري الملاحي لقناة السويس بعبور قوات الملك شرقا للمشاركة في حرب فلسطين 1948 لولا أنها على ثقة أن بينهم من سيفشلون تلك الحرب ويصنعون النكبة العربية؟
كيف حدث ذلك ما لم يكن الأمر يعبر عنها وعن إرادتها، وذلك نكاية في هذا الملك الذي تستر على تواصل حكومته مع عدو بريطانيا، بخلاف عصيانه الأمر البريطاني بدعم إنشاء دولة إسرائيل وإرساله قوات للحيلولة دون ذلك عام 1948؟
لما الحيرة والمثل يقول العبرة بالنتائج، وكل ما استتبع هذه الثورة على مدار 70 سنة من أحداث رئيسية كالنكسة ثم الحرب منزوعة المكاسب في 1973 ثم كامب ديفيد وما تلاها، هو أن تحولت مصر من عدو إلى ما يشبه الحليف لهذا الكيان؟
وهل جاء تحرر مصر رسميا من الاستعمار البريطاني عام 1956 بسبب مقاومة شعبية أو عسكرية، أم أنها رحلت طواعية عن مستعمراتها القديمة في كافة بقاع الأرض تمهيدا لبدء مرحلة الاستعمار بالوكالة طبقا للقاعدة الثالثة من قواعد ميكافيللي في السيطرة على المستعمرات، وخشية من ثورة تلك المستعمرات الكبرى التي كان سيدعمها الاتحاد السوفيتي والصين؟
الحروف وُضعت على النقاط وبمقدور الناس قراءة الأحداث بشكلها الصحيح وليس كما أُريد لها أن تُقرأ.
...................................................................
التكامل التركي الإفريقي.. الخاسر والرابح!
سيد أمين
3/8/2023|آخر تحديث: 4/8/202312:48 PM (بتوقيت مكة المكرمة)
ليس خافيا على أحد أن النفوذ التركي المتزايد في قارة إفريقيا صار رافدا دافقا لصب المزيد من الزيت على نار الغضب الغربي المتقدة أصلا نحو تركيا، وذلك لأسباب مباشرة وهي أنها تحل تدريجيا محل الوجود الفرنسي والغربي في هذه القارة السمراء، ولأسباب غير مباشرة تتمثل في وجود العديد من نقاط تضارب المصالح بين الطرفين.
ومن أهم تلك النقاط ما يتمثل في سلوكها مسار عدم الانحياز إزاء الحرب الروسية الأوكرانية رغم أن الغرب توقع منها انحيازا كاملا إلى أوربا نظرا إلى عضويتها البارزة في حلف الناتو.
ومنها كذلك اتباعها ذات السياسة في كافة المسائل الدولية التي بنت عليه سعيها للتوجه شرقًا نحو الصين، وجنوبًا نحو المنطقة العربية، وشمالًا من أجل مد وتدعيم أواصر التعاون والانتماء مع مجموعة الدول التركية، مع وضعها علاقاتها الأوربية والروسية في سلة واحدة من الاهتمام، لكن أخطر ذلك سعيها للحفاظ على علاقات طبيعية مع إيران.
ولعل التقدم الكبير الذي أحرزته إسطنبول في الصناعات عامة، والصناعات العسكرية والدفاعية خاصة، قد عزّز بشكل كبير مكانتها الدولية وصعّد في نفس الوقت المخاوف الغربية خاصة مع وجود ملفات تقليدية أخرى لا تزال عالقة في قبرص واليونان والحدود البحرية، والأهم من هذا وذاك هو سعي تركيا لاستعادة ثقافتها وإرثها الحضاري الفريد والاعتزاز بهويتها العثمانية.
هذا البعث الجديد دفع مجلة دي أس إي (DSI) الفرنسية المتخصصة في الأمن والدفاع إلى مطالبة حكومة بلادها والدول الأوربية وأمريكا بالعمل بأقصى سرعة لتوقيف التغلغل التركي في إفريقيا ولا سيما في دول إقليم الساحل والصحراء الكبرى، معتبرة أنه تغلغل يهدد أوربا كلها وأمريكا والحلف الأطلسي وليس فرنسا فقط التي انهار نفوذها الإمبراطوري في تلك القارة بشكل دراماتيكي في السنوات العشر الأخيرة.
وهو ما أكده أيضا تقرير نشره موقع مجموعة الأزمات الدولية (ICG) العام الماضي، ذكر أن النفوذ التركي في منطقة الساحل والصحراء يتجاوز العلاقات الاقتصادية، وأنه يحل محل النفوذ الفرنسي تدريجيا، كما برهن المراقبون على صحة هذا الطرح بأن مولود جاووش أوغلو كان هو أول وزير خارجية يلتقيه قادة مالي الجدد بعد طرد القوات الفرنسية من أراضيهم.
مميزات الإحلال التركي
ومنذ بدء الألفية الجديدة بدا واضحا جدا التوجه التركي الجاد نحو تلك القارة حيث وصل عدد السفارات والقنصليات التركية فيها إلى قرابة 42، فضلًا عن ورود معلومات عن التخطيط لاستئناف العمل لعقد قمة تركية إفريقية بحضور ما يزيد على 50 دولة، تأجل عقدها العام قبل الماضي بسبب جائحة كورونا.
المهم أن الغرب يتجاهل حقيقة مؤكدة وهي أن النفوذ التركي في إفريقيا لم يأت جراء ميراث تمدد استعماري كما هو الحال الذي ورثته فرنسا أو بريطانيا وغيرها من الدول الأوربية في مستعمراتها القديمة، ولم يأت في إطار علاقات التبعية التي تفرضها الولايات المتحدة عادة على الأطراف الأخرى، ولكن جاء في إطار علاقات إنسانية واقتصادية متبادلة تسعى من خلالها لإحداث نهضة اقتصادية وعلمية وحضارية تعود مردوداتها على الجميع.
كما أن النشاط التركي في هذه البلدان لا يسعى أبدا لحرمانها من امتلاك أدوات الاستقلال بل إن تركيا تزوّدها بالأسلحة المتطورة، فضلا عن أنها لا تعمل على نهب مواردها الخام كما دأبت على فعله الدول الاستعمارية الأوربية منذ قرون، وهي كذلك ليست مهتمّة بالتأثير الثقافي التركي في القارّة خلافًا للدول الغربية.
هذا فضلًا عن أن شعوب تلك البلدان وهي في أغلبها بلدان ذات أغلبية مسلمة تنظر بقلب حنين إلى الدولة العثمانية باعتبار أنها كانت خلافة إسلامية بذلت أقصى جهدها لحماية أسلافهم من الوقوع في براثن الاستعباد الذي اتبعه الاستعمار الغربي حتى لو لم تنجح في ذلك بسبب تمددها على بقعة جغرافية كبيرة في العالم.
حجم التجارة
الأرقام توضح الصورة، فقد نفذت تركيا ما يزيد على 2500 مشروع عملاق في هذه القارة بتكلفة إجمالية تزيد على 70 مليار دولار خلال السنوات العشر الأخيرة في مجالات تنموية ودفاعية متعددة مثل محطات الكهرباء ومصانع الأدوية والأغذية والصناعات التحويلية والعسكرية وغيرها.
أما حجم التجارة الثنائية بينهما فقد وصل العام الماضي إلى 30 مليار دولار، ومن المتوقع وصوله إلى نحو 50 مليار دولار العام القادم، وتضاعفت الاستثمارات في العقدين الأخيرين لتصل إلى 1.6 مليار دولار بعد أن كانت 390 مليون دولارا فقط عام 2001م، وتجاوزت الصادرات التركية إلى القارة 21 مليار دولار في نفس العام مقابل 10 مليارات دولار من الواردات الإفريقية إلى تركيا، وهي البيانات التي تؤكد أن العلاقات التركية الإفريقية قائمة على تبادل المنافع.
بالطبع حجم التبادل التجاري هنا ليس بكثير إذا ما قورن بنظيره الفرنسي صاحب الجذور التي تمتد أكثر من قرنين من الزمان، لكن بلا شك هو لافت بشدة خاصة أنه يأتي بعد أقل من عقدين من التوجه التركي نحو إفريقيا، ونجح خلال هذه المدة في سحب البساط من تحت أقدام دول النفوذ الاستعماري القديم.
من الواضح أن فرنسا من أول المتضررين من الحلفاء الجدد لإفريقيا، ويكفي أن نضرب مثالا بسيطا لذلك بأن في باريس نحو 58 مفاعلا نوويا تزوّد البلاد بغالبية احتياجاتها من الطاقة ومعظم اليورانيوم المطلوب لهذه المفاعلات يُستخرَج من دول إفريقية ولا سيما النيجر التي كانت توفر لفرنسا 20% من احتياجاتها قبل قرار قادة النيجر الجدد بمنع ذلك.
وينبغي أن لا ننسى أن الأفارقة حينما وجهوا ضربات متتالية إلى النفوذ الفرنسي في العقد الأخير لم يكن بسبب التدخل التركي ولا الروسي ولا الصيني، ولكن بسبب إصرار باريس على التعامل مع هذه الدول على أنها مستعمرات لا أقران، وعدم تصديقها أن نظام الحكم بـ”الريموت كنترول” أصبح مكشوفا للجميع.
.......................................................................
بعد اعتقال خان.. الأزمة في باكستان تتفاقم
سيد أمين
26/8/2023|آخر تحديث: 26/8/202304:29 PM (بتوقيت مكة المكرمة)
ليس هناك أمر غير متوقع في سجن رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان مدة ثلاث سنوات، فسواء جاء الحكم بحجة ضلوعه في قضية تلقيه ساعات رولكس وخاتم وزوج من أساور اليد هدايا من ضيوف أجانب أثناء فترة رئاسته للحكومة التي صدر الحكم بحبسه بسببها، أو قضية جامعة القادر المتهم بضم أراض إليها، أو تحريضه أنصاره على التصدي لقوات الأمن، أو تسريب معلومات سرية إلى الخارج، أو بأي تهمة أخرى، فكل ذلك مجرد شكليات تفضي إلى تحقيق الغاية الرئيسة وهي القضاء عليه سياسيًّا، وربما جسديًّا، مع تفجير حركة إنصاف من الداخل وربما حظرها قبيل إجراء الانتخابات المحلية لإقليم البنجاب التي من المؤكد اكتساح الحركة لها.
والدليل على أن الرجل مستهدف لشخصه وللحركة التي يتزعمها، أنه ما إن زُجّ به في السجن حتى بدأت تلوح في الأفق قضية تسريب معلومات للخارج، وهي قضية غامضة وغير مفهومة إلا أن عقوبتها قد تصل إلى الإعدام، كما أن قيمة المبلغ الذي تدور حوله قضية الهدايا لا تتجاوز 635 ألف دولار، وهو مبلغ ضئيل خاصة إذا مسّ شخصا حصل على ملايين الدولارات من خلال ممارساته للعبة الكريكيت التي صُنّف ضمن أشهر لاعبيها.
واللافت أنه ما إن اصطدم خان بقائد الجيش السابق حتى انهمرت عليه مئات القضايا في محاولة لردم شخصيته بوابل من القاذورات.
تفجير الإنصاف
وقد أتت عملية تفجير حركة الإنصاف من الداخل أكلها في الأشهر الثلاثة الأخيرة، فالضغوط التي مارستها السلطات المدعومة من الجيش على أعضاء الحركة بعد أحداث التاسع من مايو الماضي، اتخذت اشكالا عدة منها اعتقال عدد كبير من نشطائها وصولا إلى قياداتها الذين هم أيضا وزراء سابقون مثل وزراء المالية والإعلام والخارجية وشؤون المرأة والمعلومات وآخرين، واضطر بعضهم إلى الاستقالة من الحركة حتى يتم الإفراج عنهم.
ترافق ذلك مع حملة استقالات غير مبررة كان أهمها تلك المجموعة التي تشكلت لتؤسس حزب “الديمقراطيون” والتي تزعمها وزيران من وزارة خان ضمن 50 شخصية أخرى. وقد نظرت القاعدة الشعبية الكاسحة من الحركة إلى هؤلاء المنشقين بوصفهم مندسين من قبل أجهزة الأمن، في حين كان هناك من هم حِسان النيات فعزوا الانشقاق إلى مفاوضات أمنية لفتح مجال العمل الحزبي والسياسي للحزب الجديد.
ومن الوقائع التي يتردد صداها في الشارع الباكستاني أن قاضي المحكمة العليا في إسلام آباد أوعز إلى رئيس البرلمان السابق القيادي في الحزب بالاستقالة من الحركة مقابل الإفراج عنه حينما قال له علنا “اعقد مؤتمرا صحفيا وانه الأمر”.
أما حول إمكانية حظر حركة الإنصاف أو عدمها فالإجابة أن كل الشواهد تمنع حدوث ذلك؛ وذلك لأنها معبرة عن كتلة كبيرة من الشعب الباكستاني ولا سيما في إقليم البنجاب، وثانيا لعدم وجود ما يؤيد ذلك فكل الاحتشادات المليونية التي حدثت هي في الأصل كانت دفاعا عن الحركة واختياراتها السياسية مثلها مثل أي حزب سياسي، ولم تكن موجهة ضد أي جهة بما فيها الجيش، فضلا عن أن حظر الحركة لا يمكن حدوثه إلا بالرجوع إلى المحكمة العليا وليس بقرار من الحكومة حسبما هدد به المتحدث باسمها، ومع ذلك فليس من المستبعد تكسير الحكومة لجميع الحواجز وحظرها بقرار إداري رغم تداعياته الخطيرة.
ولسرعة جني مكاسب الشروخ في الحركة بعد غياب زعيمها؛ سارع رئيس البلاد إلى حل البرلمان والحكومة وعين أخرى مؤقتة لحين إجراء الانتخابات، وهي ذات المطالب التي كان يطالب بها خان مرارا من قبل ولكنهم نفذوها وهو وحركته غائبان عن المشهد.
حرب الكتلة
والجدير بالذكر أن أحداث التاسع من مايو الماضي التي رفض فيها خان تنفيذ أمر ضبط وإحضار أصدرته إحدى المحاكم، وتحصن بأنصاره الذين منعوا قوات الأمن من اقتحام منزله حتى اضطرت المحكمة إلى إصدار قرار بتأجيل تنفيذ قرار اعتقاله بعد مثوله طواعية أمامها، ركزت الأنظار في الداخل والخارج على الحصانة الشعبية التي تمتع بها، وأنه صار هو وحركته قوة كبيرة تشكل خطرا جسيما على باكستان التقليدية الموالية للغرب، وكان لا بد من تفتيتها.
ومن نوافل القول أيضا أن القوى الاستعمارية الخارجية تتفق عادة مع القوى الانتهازية الاستبدادية الداخلية في كل بلدان العالم العربي والإسلامي وربما العالم أجمع في العداء الصريح للكتلة، فهم لا يحبون الناس إلا فرادى ليسهل كسرهم واستعبادهم، ويرون أن وجود أنصار حقيقيين لأي شخص -وليس ذبابا إليكترونيا- لهو أمر مشين ومؤشر سوء يجب القضاء عليه بأي ثمن.
وفي السياسة هناك أسباب مباشرة وهذه عادة يتم تسويقها للعامة، وأسباب غير مباشرة وهي الأسباب الحقيقية التي يبني من هم خلف الكواليس سياساتهم عليها، والأسباب غير المباشرة للحرب على خان كانت بسبب رفضه إقامة قواعد أمريكية في بلاده وسعيه لتنويع مصادر التسليح لتشمل روسيا والصين وتركيا، ودعمه التقارب مع المحور الروسي الصيني بديلا عن الانضواء تحت عباءة واشنطن، ورفضه التطبيع مع إسرائيل، وانفتاحه على طالبان أفغانستان، وتبنيه برنامجا كبيرا لمكافحة الفساد في البلاد.
ولعل واحدة فقط من هذه السياسات كفيلة وحدها بتمترس الغرب وأتباعه في باكستان ضد الرجل وإزاحته عن السلطة، بل وضمان عدم وصول خلفاء له يتبنون نفس سياساته إلى السلطة مجددا، ولا مانع من العمل بكل الوسائل لتدمير أي حاضنة شعبية لمثل هذا النوع من الرجال، خاصة أن الغرب يعطي باكستان أهمية كبرى في علاقاته مع العالم الإسلامي نظرا إلى كونها صاحبة القنبلة النووية “الإسلامية”، التي إذا خرجت من التبعية الغربية فسيعني ذلك أن الغرب أمام إيران وكوريا شمالية أخرى.
المشهد في باكستان مرشح لمزيد من التدهور..
...........................................................................
أخرجوا الشعوب العربية من هذا الجحيم
سيد أمين
4/9/2023
يا له من جحيم ذلك الذي تعيشه الشعوب العربية، فهم وحدهم القابعون تحت الظلم والقهر والاستبداد، وهم على الأرجح الفارون واللاجئون إلى شتات الأرض، هم القاتل والمقتول، هم الشاكون من الفقر والعوز، هم الغارقون في بحار الأرض طلبا للنجاة، وهن ثكالى الأزواج والآباء والأبناء، هن الزائرات المحتشدات حول السجون والمستشفيات أو داخلها، وهن المغتصبات دون أن يغضب لهن أحد.
كل شيء في العالم يتغير إلا أخبار فواجع العرب، فهي المقرر الثابت في نشرات أخبار العالم رغم أنهم الشعوب التي امتلكت كل مقومات الرفاهية والسعادة، فالأرض تنضح بالثروات والمعادن، والجغرافية تتوسط العالم وتطل على كل منافذه، والتراث عريق يدين له ربع العالم بالعرفان والجميل، والدين يأمر بالعدل والإحسان والشورى، ويعتبر أن قتل النفس البشرية دون ذنب أشدّ حرمة من هدم الكعبة التي هي أعظم مقدساته حجرا حجرا.
طبعا العالم لا يخلو من الحروب والنزاعات بين الدول، أو بين أبناء البلد الواحد انطلاقا من اختلافات دينية أو قومية أو ثقافية أو اقتصادية، لكن من المعجز أن تجد في بلداننا العربية سببا جوهريا يجتمع عليه الناس للتسبب في كل هذه الصراعات الناشبة داخل أقطاره، أو حتى بين كل قطر وآخر، خاصة أنه اجتمعت فيهم جميعا كل عوامل الوحدة المعروفة التي نادرا ما تجتمع في شعوب غيرهم مثل وحدة الجنس واللغة والثقافة والتاريخ والدين والمصير المشترك، والسؤال لماذا إذن كل هذا التشرذم؟
مرض عضال
الإجابة واضحة يدركها أغلب الناس لكنهم للأسف ينقسمون حولها إلى ثلاثة فرق؛ فمنهم من يجهر بها فيتحمل أعاصير الغضب التي ستهب عليه ليصبح إما قتيلا أو سجينا أو لاجئا أو شبه إنسان يعيش في شبه وطن، ومنهم من “يتحوط” خشية قولها فيصبح كشيطان أخرس، ومنهم من يتاجر بها بحثا عن الرضا السامي ومعه قليل من متاع زائل، وهي أن بلادنا ابتُليت عمدا بداء الاستبداد الذي من طول التعايش معه اعتقد الكثيرون من هؤلاء “المتحوطين” أنه من طبائع الأشياء.
انظر حولك في غالبية أقطار العرب الحزينة، فستجد أنه لا دواعي منطقية لتلك الدماء التي تراق والدموع التي تسكب، والسجون التي تحل محل الجنائن والحدائق، يكفي فقط أن يذهب شخص واحد أو بضعة أشخاص ليعيش بعدهم الملايين في سكينة وسلام، لكن للأسف ما يحدث في بلادنا العكس تماما، يرحل الملايين أو يموتون أو يقبعون في دهاليز البؤس والتعاسة والسجون من أجل أن يبقى الشخص الواحد وجوقته.
الأمر بسيط للغاية، في السودان مثلا يكفي أن يتم تنحية قادة الصراع جانبا، وهم بضعة أشخاص، ثم يجلس السودانيون جميعا ليقرروا شكل الحكم بناء على قواعد الديمقراطية فتحل أزمة السودان في يوم واحد، وفي ليبيا ما إن يرحل قادة الانقسام حتى نجد بعدها الليبيين يعودون إلى لحمتهم الطبيعية، والأمر يسري في العراق واليمن والصومال وتونس ومصر وغيرها من بلاد العرب المنكوبة بنظام حكم “الريموت كونترول”.
حكم الأقلية
بثقة تستطيع كتابة عنوان عريض لنظم الحكم في أغلب بلداننا هو حكم الأقلية، وأنها في الغالب هي نتاج تحكمات خارجية، تجعلها تعيش معظم الوقت صداما محتدما مع أغلبيتها في الداخل نظرا للتنافر الكبير بين مصالحهما، فهذا يسدد فاتورة من جاؤوا به إلى السلطة ومن يمكنهم الإطاحة به متى شاؤوا، والآخر يسعى خلف حقه الأدبي المشروع في حكم الأغلبية.
ومن المدهش أن ظاهرة استبداد الأقلية لدينا انتقلت من الاستحواذ على السلطة إلى الاستحواذ على ثقافة المجتمع برمته وحياته الثقافية، حيث تجد أن الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في مصر مثلا منحاز دائما للأقلية الفكرية الرافضة للحجاب، وتلك التي تنفر من عروبة البلاد، والكارهة للغة العربية، والناقدة للإسلام، والمهاجمة لطقوس الأغلبية خاصة تلك التي تعزز انتماءها الديني أو الثقافي أو القومي.
والعجيب أنه بدلا من العمل على إقناع الأقلية بحق الاختلاف وحق الأغلبية في تقرير المصير، وأنه ليس اضطهادا أبدا للأقلية أن يؤمن غيرهم بغير ما يؤمنون به من ثقافة وسلوك، وحقهم أن يعتزوا بتراثهم الحضاري والفكري والديني؛ نجد دائما هناك من يدعو الأغلبية إلى أن تغير كل ذلك، وينكر عليها حقها في قيادة المجتمع الذي تعيش فيه وتمثل نواته الصلبة.
في الواقع أن مجتمعاتنا مأزومة ولا سبيل صادقا للخروج مما هي فيه من جحيم إلا عبر قواعد الديمقراطية، تماما كما فعلت الشعوب الغربية؛ فخرجت من عصور الظلام إلى عصور النهضة.
فهل نفعلها ذات يوم؟
.......................................................................................................
التمصير والتعريب وجهان لوطن واحد
سيد أمين
25/9/2023
من أخطر الطعنات التي يمكن أن تطعن بها أي أمة هي تلك التي تستهدف هويتها أو التي تغذي الصراعات العراقية والمذهبية داخلها، وأخشى أن تطال هذه الطعنات الغادرة مصرنا الحبيبة، نظرا إلى وجود كثير من الشواهد لتحركات يد عابثة في هوية هذا البلد العربي المستقرة منذ أكثر من ألف عام، تتمثل في إهدار اللغة العربية في مدارسها، وتحول الغالبية القصوى منها إلى مدارس تدرس كل المناهج بلغات غير اللغة العربية، وامتد الأمر ليشمل يافطات المحال والشركات، وإرشادات الطرق والمرور، وأسماء المنتجعات والأبراج والأحياء الجديدة وغيرها.
يحدث هذا بشكل تدريجي ومتسارع منذ عدة سنوات وزاد عليه مؤخرا الإهمال الواضح للآثار الإسلامية والعربية، وهدم المقابر والقصور التاريخية في منطقة وسط القاهرة والعديد من بقاع مصر بما تحمله من تراث عربي وإسلامي نادر يشي بالكثير من حقب هذا البلد التي تشكلت فيها هويته الحالية، وبدا الأمر متناسقا حتى وصلنا إلى مرحلة نشاط ذباب إلكتروني على وسائل التواصل الاجتماعي يروج بشكل متناغم لفرعونية مصر مقابل إنكار عروبتها.
يستغل هذا الذباب الإلكتروني حالة الانهيار المعرفي والثقافي التي يعيشها كثير من الشباب لنشر دعوته الواهية، وهي تلك الحالة التي تم تصنيعها على مدى عقود بشكل متعمد لاستخدامها في أوقات الانكسار، من أجل تحقيق ما عجز الكارهون لمصر عن تحقيقه عبر مئات السنين.
سترات الشباب
“أنا مصري. مش عربي” شعار مطبوع على السترات التي يرتديها الشباب، وخطورته في أنه صنع تضاربا بين أن يكون المرء مصريا وأن يكون عربيا في نفس الوقت، وهو تضارب تدحضه ثوابت التاريخ ومعلومات السكان والجغرافيا السياسية.
ورغم أن التيار السائد هو كتابة كل شيء بالإنجليزية -وكأننا إنجليز- في دولة لفظ “العربية” ضمن اسمها الرسمي، نجد أن هذا الشعار المريب مكتوب باللغة العربية بأشكال مبهجة واحترافية بما يعني أنه يستهدف هؤلاء الذين لم يتح لهم تعلم شيء غير العربية، مما يؤكد سوء النية والمقصد.
وما إن تصدر الهاشتاج الخاص بهذا الشعار موقع تويتر بعدد يقل عن ألفي تغريدة فقط حتى راحت وسائل الإعلام العالمية تلقي الضوء عليه بوصفه مطلبا يعبر عن رغبة كثير من المصريين، رغم أن كافة التغريدات التي كتبت تحته كانت تسخر منه أو تهاجمه.
بوتقة صهر
هوية مصر أمر تم حسمه اجتماعيا وثقافيا على مدار عدة قرون، والحديث فيه مجددا مع الأمل في تغييره لهو ضرب من الخيال لا يمكن أن يحدث متى أدرك الناس المؤامرة؛ لأنه يمس معتقداتهم وتراثهم.
مر الكثيرون من هنا الفراعنة والرومان والفرس والإغريق واليونانيون والهكسوس والأحباش والصوماليون والسودانيون، والمماليك والأوزبك والأذريون والأتراك والأكراد والنوبة، واليهود وعبدة الأوثان، واستقر الأمر على مدار سنوات طويلة بأن دانت أغلبية هذا الشعب بالإسلام وتعربت بثقافته.
والحقيقة أن مَثَل مصر كَمَثَل بوتقة صهر؛ لأنها تذيب في قدرها القوميات والأعراق والأجناس، لتخلق لنا هذا المزيج الثقافي والفكري المتدثر برداء العروبة والإسلام، وهو الرداء الذي لا يمنع في ذات الوقت تنوع الاعتقاد والثقافات.
لم يكن هناك إجبار للأقليات على التعرّب بدليل أنه في ظل الحملة الفرنسية والاحتلال الإنجليزي لمصر؛ وجدنا المسيحي يتحدث العربية ويؤدي طقوسه الكنسية بالعربية ويمارس ثقافته الاجتماعية العربية دون أن يجبره أحد على ذلك، وفي المقابل وجدنا مستشرقين غربيين يحاربون الدين السائد لدى شعوبنا في صورة دعوات إلى الشعوبية في حين وجدنا الغرب على تعدد أعراق ولغات كل دولة فيه يؤمن بالدولة الواحدة واللغة السائدة.
الخطر الإقليمي
وتتشابه تلك الحملة التي تحاول إيهام سفهاء القوم بوطنيتها وسعيها لتمصير مصر، مع حملة أخرى قديمة كانت أوسع نطاقا وتأثيرا على امتداد رقعة الوطن العربي، صدقها للأسف قسم كبير من الناس حينئذ، وشكلوا على أساسها أحزابا وحكومات وحركات ومنظمات، ثم نفر منها كثيرون بعد اكتشافهم عدم استيفائها واجبات “الحجية والمنطق”، إنها تلك الحملة التي فصلت بين العروبة والإسلام وحاولت جعلهما خصمين رغم أنهما وجهان لعملة واحدة.
أما خطورة تلك الدعوات الخبيثة الرامية إلى التخلص من عروبة مصر فهي في أنها قد تفتح أبواب الجحيم والخراب والتمزق بين أنسجة المجتمع الواحد ليس في مصر وحدها بل في دول المغرب العربي وشمال إفريقيا وسوريا والعراق ولبنان، فظهر من يقول “أنا آشوري مو عربي” و”أنا سورياني مو عربي” و”أنا كردي مو عربي”، مع أن العربية لم تمح لغاتهم ولكنهم هم طواعية انصرفوا عنها وحدثوا العالم بالعربية بعدما صارت لغة عالمية بسبب انتشار الإسلام وريادته.
وهو ما يؤكد وجود المؤامرة الهادفة إلى انفراط عِقد هذه الدول في صدامات قد تدوم قرونًا، ولن تنتهي إلا بالعودة إلى اللحمة الثقافية السائدة حاليا، التي لا تمنع التعدد الثقافي، وتعتبر أن الثقافة الإسلامية التي تجمع شعوب هذه المنطقة هي هويتها الحضارية، وهي بالقطع ثقافة عربية في مجمل تفاصيلها.
وقديما اتفق السابقون منذ أيام العرب المستعربة على أن العروبة ليست جنسا بل هي لغة، فمن يتحدثها فهو عربي ندّ للعرب العاربة، حتى لو كانت بجوار لغته الأم، وقبول القوميات الأخرى في وطننا العربي قديما لهذا المبدأ يعد برهانا للحكمة والعدالة، ويؤكد أن ما حدث فتح لا استعمار.
أتمنى أن نكون على خطأ في مخاوفنا تلك على ضياع هوية بلادنا العربية، ولكننا في ذات الوقت نحتاج إلى ما يدعم اطمئناننا مع سرعة تصويب الانحراف.
...........................................................
بعدما فضح الطوفان وسائل التواصل.. ما العمل؟
سيد أمين
19/10/2023
وقعت وسائل التواصل الاجتماعي في اختبار مصداقية حقيقي في تعاملها مع انتصارات طوفان الأقصى وما تلاها من ردود عسكرية ودعائية إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
وكانت النتيجة المخيبة لآمال الشعوب أن تلك الوسائل سقطت سقوطا مدويا بعدما انكشف زيف اعتقادات تعايشنا معها طوال سنوات منذ ما يعرف بالربيع العربي بأنها داعمة لحرية التعبير وتؤمن بالمساواة دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق.
ففي الوقت الذي سمحت فيه هذه المنصات للدعاية الإسرائيلية العنصرية بالنفاذ على ما فيها من وحشية وأكاذيب، وفتحت لها خوارزمياتها لتحقق أعلى انتشار ممكن، رأيناها في المقابل تقوم باستخدام ذات الخوارزميات لتقييد وصول منشورات الضحايا إلى الناس، مع نشاط مكثف عانى منه الآلاف في تقييد النشر وحظره وحظر الحسابات وإغلاقها.
رأينا وسائل التواصل تمارس دكتاتورية معاييرها الفضفاضة دون أن تتيح للعميل حق الرد والتصويب، فإذا نشرت صورا أو فيديو لضحايا قصفتهم طائرات إسرائيلية مثلا فإن معظم تلك الوسائل ستقوم بفرض عقوبات قد تصل إلى إغلاق حسابك، في حين أنها تسمح للطرف القاتل بأن ينشر أكاذيبه وتضمن له الانتشار بل وتمنعك حتى من الرد الموضوعي عليه وفضح خداعه ولو بتعليق على حسابه.
عقد إذعان
مسألة إغلاق الحسابات التي زادت بشكل كبير مع تفجر هذه الأزمة تتضمن انتهاكا كبيرا لحقوق الملكية الفكرية، فضلا عن الانتهاك الأساسي لحرية الرأي والتعبير التي تزعم الدول الغربية التي تسيطر على إدارة هذه المواقع بأنها تحميها، فاكتشفنا الحقيقة بأننا نتعامل مع هذه الوسائل بموجب عقد إذعان تام كتب طبقا لمصالح منشئي هذه المواقع وما يتخفى خلفهم من أجهزة استخبارات.
فكثيرون اعتقدوا أن حساباتهم على “الفيس بوك” أو “يوتيوب” أو “لنكد إن” أو “بلوجر” وغيرها آمنة ومستقرة وراح يودع فيها رصيده الفكري والثقافي والاجتماعي، ثم على حين غرة سقط كل هذا الجهد في جب النسيان والضياع، ووجد نفسه عاجزا عن التواصل مع شبكته الاجتماعية التي نسجها وتعايش معها سنوات طوالا باعتبارها مجتمعه الحقيقي.
دور استخباري
حينما نتحدث عن دور استخباري لمواقع التواصل فهذا أمر ثابت وما القضية الشهيرة التي اتهم فيها فيسبوك بجمع معلومات عن 88 مليون مستخدم لصالح حملة ترامب الرئاسية إلا دليل واضح على ذلك، حيث اتهم بأن الحملة رصدت من خلاله مواقف المستخدمين وتوجهاتهم ومناطق كثافتهم وغير ذلك من معلومات، وعملت بناء عليها دعائيا وتقنيا وهو ما مكن ترامب من الفوز، وقد أدين فعلا وغرمته مفوضية التجارة الاتحادية بمبلغ 5 مليارات دولار.
ولأن أمريكا تدرك تماما العوائد الاستخبارية التي يمكن جنيها جراء الحصول على بيانات استخدام موقع تواصل ذائع الصيت يضم مليارات البشر في العالم يشبه فيسبوك؛ راحت تحظر استخدام موقع “تيك توك” في مواقعها الحكومية بزعم تجسسه على مستخدميه.
القرار ليس لسبب سوى أنه تطبيق صيني المنشأ بخلاف كافة مواقع التواصل الاجتماعي العالمية الأخرى التي تنطلق من أراضيها، القرار اتخذته أمريكا وكالعادة المتبعة في المواقف السياسية سارت على دربها بريطانيا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي، في حين حظرته الهند كليًّا بسبب خلافها الحدودي المشتعل مع الصين.
ما العمل؟
إذن، فقدت وسائل التواصل الغربية مميزاتها، فلا هي تدافع عن حرية التعبير، ولا هي آمنة، ولا هي تحترم خصوصياتنا ومعلوماتنا الشخصية، ولا تريد خيرا لمجتمعاتنا، ولا تعاملنا بطريقة تملك قدرا من المساواة مع من نختلف معهم، بعد كل ذلك؛ لماذا نتمسك بها؟
الإجابة لأن هناك الكثير من الخلافات السياسية البينية بين حكومات الأقطار العربية والإسلامية وحتى حكومات العالم الثالث، وبالتالي فإن تلك الخلافات ستنعكس بشكل واضح على استخدامات تلك التطبيقات وعلى مستخدميها.
هذا إضافة إلى أننا أصلا نفتقد البدائل؛ حيث نعدم وسيلة التواصل المناسبة التي تتيح لنا حق الاختلاف مع حكوماتنا ومجتمعاتنا وإدارة صراعاتنا الداخلية، ولأننا لو أنشأنا مواقع تواصل محلية على ذات الغرار فإن السلطات السياسية التي انطلق من أرضها هذا الموقع لن تريدها سياسيا واقتصاديا وفكريا إلا مجرد مسبحة تسبح بحمدها وحمد من ترضى عنهم، وإلا فإن عقوبة إغلاق الحساب في المواقع الغربية ستتحول لدينا إلى تشريد وسجن وربما قتل، فلما المخاطرة؟
لعل تطبيقا أو تطبيقات توخى منشئوها فيها أن تكون أكثر أمنا من كافة المخاطر التي أوردناها تستحق أن تنهض من أجل تدشينها الحكومات الإسلامية وحكومات العالم الثالث عبر هيئة تمثل ممثلين تقنيين وحقوقيين وقانونيين وشعبيين من كافة الدول ويستحق هذا الأمر أن تتجاوز الحكومات خلافاتها البينية وطموحاتها السياسية الذاتية وتلبي نداء وحدة الشعوب وتسمح بحق الانتقاد والاعتراض والتعبير، كما يمكنها نشر تطبيق من هذا النوع والتشجيع على الانضمام إليه عبر الوسائل التي تجيدها في عملها السياسي.
قد يعد ذلك أمرا مثيرا للسخرية أو هينا، وهو في الواقع ليس كذلك فهو أمر جاد جدا وملح للغاية وشاق، ولو حدث أن حقق نجاحا مثل ما حققته وسائل التواصل الغربية بيننا لكان أهم بكثير لشعوبنا من كافة منظماتنا السياسية الدولية كالجامعة العربية ومنظمة العالم الإسلامي والاتحاد الإفريقي والأفروآسيوي وغيرها، لأنه سينقل السلطة والرأي من الحكومات المتنافرة إلى الشعوب المتلاحمة، ومثل هذا الأمر لم يكن يحدث من قبل.
طوفان الأقصى فضح وسائل التواصل الغربية ضمن فضح سترهم، وفي أي صدام حضاري قادم سنجد من تلك الوسائل ما هو أكثر فجاجة وقبحا.
المطلوب فقط صدق النيات.
...........................................................
دروس عملية للمطبعين
...........................................................
مكاسب المقاومة العربية من الطوفان والعدوان
...........................................................
لماذا لا يغادر العرب منظومة الغبن الدولي؟
سيد أمين
27/11/2023
لسنا بحاجة نحن العرب إلى اكتشاف أن النظام الدولي الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية يحمل في طياته وصفة متكاملة للاستبداد؛ لأننا اكتشفناه منذ السنوات الأولى لانطلاقه والفضل يعود في ذلك إلى القضية الفلسطينية، حيث عرفناه نظاما لا يحتكم لإجماع برلمان العالم المتمثل في الأمم المتحدة، ولكنه خاضع كليا لسلطة أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمي العضوية التي تحتكر بمفردها صكوك المشروعية، تمنحها من تشاء وتمنعها عمن تشاء، حسبما تقتضي مصالحها هي لا مصلحة شعوب هذا الكوكب.
وعرفناه محتكمًا دومًا لمعيار القوة لا المشروعية، ولعله لا توجد هناك بلاغة تصف غرابة الحدث سوى القول بأنه نظام تأسس بعد أقل من 60 يوما من ارتكاب أمريكا مجزرتيها النوويتين المروعتين في جزيرتي هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين في السادس والتاسع من أغسطس 1945 مودية بحياة مئات الآلاف من المدنيين في ساعات، وأن كلتا المجزرتين وقعتا رغم وجود مفاوضات سلام أمريكية يابانية لإنهاء الحرب.
والأنكى من ذلك أنه بدلا من عقاب الدولة الباغية المتدثرة بثياب الحضرية والمدنية وجدناها هي نفسها التي تقود هذا النظام وعلى أراضيها تقبع جميع مؤسساته ومفاتيحه.
ورغم أنها هي صاحبة ما يعرف بوعد “ويلسون” الذي أصدره رئيسها عام 1923 بمناصرة حقوق الشعوب الراغبة في التحرر وجدناها هي الدولة الأولى في العالم التي تعترف بدولة إسرائيل وحتى قبل إعلان العصابات التي جلبتها بريطانيا لفلسطين بإنشائها عام 1948، حيث أعلن عن قيامها في 15 مايو في حين أن أمريكا اعترفت بها يوم 14 مايو.
ووجدنا في كافة مراحل الصراع العربي الإسرائيلي أمريكا ووريثتها بريطانيا وعدة نظم يعدون على أصابع اليد الواحدة يجهضون كافة المطالبات الدولية بإنصاف الشعب الفلسطيني، واحترام حقه في الدفاع عن نفسه وأرضه وحريته، وينصبون أنفسهم حكاما للكون.
بالطبع لسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بمواقف التسلط الذي تمارسه أمريكا عبر نظامها الدولي علينا، فقد ذقناه في العراق والصومال وليبيا وسوريا ومصر والسودان أشكالا وألوانا وصار من مسلمات الأمور لدرجة جعلتنا نبرر عجزنا في كل مسألة دولية تخصنا بأنه لا يمكننا مواجهة أمريكا، كما قال السادات.
الغبن الدولي
تجذر بشدة الشعور بالغبن من الانحياز الدائم للمنظومة الدولية إلى أي طرف يعادي توجهاتنا العربية في وجدان الإنسان العربي والمسلم على جميع المستويات حكاما ومحكومين، وطرح ذلك سؤالا جوهريا حول السبب الذي يدفعنا إلى البقاء ضمن حلقة النار تلك رغم أنه يمكننا أصلا الخروج منها تماما، ولعل هذا الخروج سيشجع دولا إسلامية أخرى لأن تحذو نفس الحذو.
وما الغرابة؟ فقد توافرت المبررات المتمثلة في عدم وجود أي دولة إسلامية ضمن الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن، ورغم أن المسلمين يشكلون ربع عدد سكان العالم، فإن هذه التشكيلة تحرمهم بشكل سافر من نيل حقوقهم بسبب نظام “الفيتو” الذي تحتكره، ولعل الرئيس التركي أردوغان كان من أعلى الأصوات التي تحدثت عن أن العالم أكبر من خمسة.
ولا ندري ما السبب وراء اختيار هذه الدول لتكون متحكمة في مصير العالم، فإذا كان لكونها امتلكت فعليا قوة نووية، فهذا تأكيد صريح لاحتكام هذا النظام لقوانين الغاب، إلا أنه مع ذلك يوجد ظلم آخر في داخل هذا الظلم، فهناك دول أخرى تمتلك تلك القوة ومع ذلك ليست من ضمنهم، وواحدة منها يصنفها الغرب دولة مارقة كما هو الحال في كوريا الشمالية نظرا لامتلاكها السلاح الذي يمتلكونه هم.
ومن العجب أنهم يعاقبون إيران بزعم رغبتها في امتلاك سلاح نووي، وقتلوا مليوني عراقي ونهبوا ثروات العراق تحت فرية ثبت كذبها حول سعيه لامتلاك هذا السلاح، ومع ذلك لم يدينوا بحرف واحد الكيان الصهيوني الذي اعترف مهندس برنامجه النووي “مردخاي فعنونو” علنا بكافة تفاصيله، بل وراح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو يطالب علنا أيضا بضرب غزة بالقنابل النووية، وهو التصريح الذي يمثل اعترافا جديدا بكون إسرائيل دولة نووية، ومع ذلك لم ينبس أحد ببنت شفة بمن فيهم وكالة الطاقة الذرية.
عربيًّا كان العقيد الليبي معمر القذافي هو أول من تحدث علنا بمثل هذا الطرح عام 2001م، بعدما عانت ليبيا جراء الحصار الدولي بسبب قضية لوكيربي، وبعد أن استفحل تأثير الحصار الغربي الخانق في العراق جراء الاتهامات الأمريكية الباطلة بالسعي لامتلاكه أسلحة نووية، ولكن دعوته قوبلت بفتور وتندر واستخفاف من أغلب النظم العربية آنذاك.
وكانت إندونيسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي أعلنت رسميا انسحابها من المنظومة الدولية عام 1965م جراء خلاف هلامي مع جارتها المسلمة ماليزيا، لكنها عادت إلى هذه المنظومة في نفس العام إثر انقلاب عسكري أطاح بنظام الحكم.
ومما لا شك فيه أن المصدر الأول لازدواجية المعايير التي تنفر من هذا النظام الدولي يقبع أساسا في عنصرين رئيسيين؛ أحداهما عدم إلزامية قرارات الأمم المتحدة، في حين هناك إلزامية في قرارات مجلس الأمن الذي لا يمثل إلا مواقف 15 دولة من دول العالم البالغ عددها نحو 206 دول.
أزمة غزة
كشفت الاعتراضات العالمية على حرب الإبادة الوحشية الصهيونية على غزة أن الاستياء من هذا النظام الدولي تنامى ليتخطى حدود الدول الإسلامية الـ57 لتنضم إليها كثير من دول العالم في القارات الست؛ وذلك لكون كافة التظاهرات التي خرجت توجهت بالأساس للكيان الصهيوني ومن يسانده في مجلس الأمن.
أعلم أن أمر الانسحاب من المؤسسات الدولية قد يكون صعب التحقق، ولكن أعلم أيضا أن مجرد التلويح به قد يكون أبلغ رسالة بالاعتراض عليه وتبيان الرغبة في إصلاحه، وقد أفلح وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف حينما ألمح إلى تنامي العجز في المنظومة الدولية من هذا الخلل الدولي بقوله إن 87 قرارا أمميا لم يتم تنفيذها في حق القضية الفلسطينية؛ وذلك لأن قوة الاحتلال رفضت تنفيذها، إذن فلا فائدة في قرارات جديدة في هذا الصدد إذا كانت ستبقى حبيسة الأدراج كسابقاتها.
...........................................................
نحو تخليد هولوكوست غزة
...........................................................
أقلُّها الطوفان.. أسباب العدوان على غزة
سيد أمين
9/12/2023
يخطئ من يعتقد أن حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد غزة جاءت رد فعل غاضبًا على عملية طوفان الأقصى، أو حتى يندهش من تداعي الحكومات الغربية الهائل لتبريرها، بل ويخطئ أكثر من يتصور أن إسرائيل بمفردها تخوضها، بينما نرى الأموال والأسلحة والأساطيل الأمريكية، ونرى في سماء غزة طائرات بريطانية، وينغمس جنود الدولتين جنبًا إلى جنب مع جيش الاحتلال في الحرب غير المتكافئة على الأرض، وقد فضحت الأخبار والوسائط المصورة المتداولة هذا الوجود تارة كقتلى وتارة كمدربين ومشاركين ومحرضين على الإبادة.
الحقيقة أن أمريكا خططت لهذا العدوان على غزة منذ زمن بعيد، حينما ضمّت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى قائمة الأنظمة المارقة التي ابتدعها مطلع القرن الجاري، والتي هي في الأصل مارقة على الانضواء ضمن الحظيرة الأمريكية، ولعلها كانت تنتظر الوقت المناسب لتشن هذه الحرب من أجل تنفيذ “صفقة القرن” التي نعلم جميعًا أنه كان يجري الإعداد لها من قِبل أطرافها منذ نحو عشر سنوات، وهو ما كشفت عنه وثائق قيل إن حماس حصلت عليها في معسكرات غلاف غزة أثناء الطوفان.
أمريكا انتهزت الفرصة ورأت أن الأكاذيب التي يمكن لهم إلصاقها بطوفان الأقصى، كقتل الأطفال والمدنيين واغتصاب إسرائيليات، قد تعطيها المسوغ الشعبي الغربي للتعجيل بتنفيذ هذا المخطط.
لماذا الآن؟
ولعل السبب الوجيه الذي جعل الولايات المتحدة تؤجل عقاب حماس على مروقها عن حظيرتها كل هذا الوقت هو أنها ظنتها ضعيفة عسكريًّا، ومحاصرة، وكانت تتوقع سقوط حكمها في غزة تحت وطأة التذمر الشعبي جراء هذا الحصار المحكم الخانق طيلة أكثر من 17 عامًا، ولكن بما أنها صمدت ولم تنقلب عليها حاضنتها الشعبية، وجب على الولايات المتحدة حينئذ أن تعجل بوضع خطة لإقصائها عسكريًّا، تنفذها في أقرب فرصة وتنفذ معها “صفقة القرن”.
ثم جاء طوفان الأقصى، وظهرت معه قدرات حماس العسكرية الحقيقية التي أخفتها في جولات نزال سابقة مع إسرائيل، فصدمت أمريكا بهذا التطور العسكري والاستخباري الخطير، وكان لا بد من التعجيل بتنفيذ المخطط مهما كانت الأثمان.
في البداية سارعت بأساطيلها وأساطيل حلفائها الأوروبيين، وراحت تصرّح بأنها تسعى لبناء تحالف عالمي للقضاء على حماس، تمامًا كما فعلت في العراق وليبيا، لكن يبدو أنها رأت أن هذه الأمر العلني سيبقى وصمة عار في جبينها وجبين من يتبعها، نظرًا للاختلال الكبير في موازين القوى كقوى عالمية عظمى تحتشد ضد فصيل مكون من بضعة آلاف مقاتل مسلح بأسلحة بسيطة نسبيًّا، لذلك ارتأت أن تجري المهمة القذرة كليًّا تحت الستارة الاسرائيلية، مع أنها وحلفاءها جميعًا حاضرون في حلبة النزال.
محظورات حماس
تجمع حماس بين العديد من المحظورات الأمريكية فيمن يجب أن يترك ليحكم في نظم المنطقة العربية، فهي حركة إسلامية، تعادي إسرائيل صراحة، مارقة عن الحظيرة الأمريكية، وليس خافيًا على أي مراقب منصف أن يرصد أن هناك اعتراضًا باتًّا وحاسمًا على “وصول” أي تيار إسلامي حقيقي إلى السلطة مهما كانت قوة حاضنته الشعبية واتساعها، وهناك حظر أقل صرامة على “بقاء” أي تيار قومي حقيقي في السلطة طالما سعى لدعم استقلال بلاده وتسليحها، ومن غير المحبب أن “يُترَك” الاشتراكيون المؤدلجون ليستقروا في الحكم.
على أي حال، المقاومة تُبلي بلاءً عظيمًا في غزة، وتؤلم العدو كما تتألم، ولكنها مع ذلك لن تُهزم أبدًا، وذلك ببساطة لأن جميع سكان قطاع غزة هم حماسيون دون أن يكونوا أعضاء في الحركة، بل وكل أحرار الوطن العربي صاروا أكثر اقتناعًا بوطنية حماس ونضالها.
ولعل الولايات المتحدة ستدرك في وقت ما أن هناك منافسين كبارًا كُثرًا على النفوذ في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وأنها بحاجة ماسّة إلى تحديث سياساتها السابقة التي تتبعها في المنطقة بحيث تكون أكثر تعبيرًا عن حاجات الشعوب العربية وتوجهاتها الفكرية.
فقد تسببت ازدواجيتها تلك في انهيار ما حاولت أن تبنيه من ثقة لدى المواطن العربي بها بعد دعمها المطلق لإسرائيل، وأدرك حتى أكبر المدافعين عنها أنها هي من تفجر الحرائق في المنطقة، وتدعي إطفاءها، وأنها غير مهتمة بأي حال بقضايا حقوق الإنسان العربي إلا إذا كانت ستستخدمها في إطار براغماتي لهدم أنظمة غير راضية عنها.
الأنظمة المارقة
وقصة الأنظمة المارقة بدأت بعد زوال الاتحاد السوفيتي في أواخر العقد الماضي، إذ كادت أمريكا تفرض وصايتها المطلقة على العالم، لكنها سرعان ما وجدت تمردًا من بعض الأنظمة العربية و”العالمية”، إما بسبب النزعة القومية لقادتها الجدد كما في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان، وعالميًّا كإيران وكوريا الشمالية والصين وروسيا، وإما لأن هذه الأنظمة لم تولد أصلًا داخل الحظيرة الأمريكية كما في حماس وحزب الله وطالبان الأفغانية.
هنا كان يجب على أمريكا إظهار العين الحمراء للمتمردين على النظام الذي أسسته، فعربيًّا بدأت بمعاقبة نظام الرئيس الراحل صدام حسين بوصفه الأقوى عسكريًّا والأكثر إخلاصًا لفكرة التحرر الوطني، قاصدة ترويع من تسول له نفسه السير في ركابه، ثم استغلت ما يسمى “الربيع العربي” لتفجير بقية الأنظمة العربية المارقة من الداخل، وتحويل ثوراتها ضد الاستبداد إلى اقتتال داخلي عنيف لا يُبقي ولا يذر، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن والسودان، وما حدث لحزب الله عام 2014 وفشلت فيه، وما يحدث الآن في غزة وستفشل أيضًا.
والغريب أن الخطط الأمريكية نجحت مثاليًّا في الدول العربية، وتحققت سيناريوهات “الفوضى الخلاقة” التي بشرت بها وزيرة خارجيتها عام 2005، لكنها فشلت مثاليًّا أيضًا في الدول غير العربية كإيران التي ازدادت نفوذًا في العراق وسوريا واليمن، وطالبان التي أجبرت الولايات المتحدة على الاعتراف بسلطتها والانسحاب من أفغانستان، في حين تعززت مواقع ومواقف الصين وروسيا وكوريا الشمالية في العالم.
البراغماتية الأمريكية ستكون معول الهدم الأول لنفوذها الخارجي.
..........................................................
الطرق الشعبية للدفاع عن اللغة العربية
سيد أمين
29/12/2023
في صمت عدا من أخبار خجولة في موقع هنا أو هناك، مر على أمة الضاد في 18 ديسمبر الماضي اليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي لولا أن أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973 ضمن ست لغات فقط من بين آلاف اللغات في العالم كرمتهم المنظمة الدولية باحتفالات خاصة، واحتفلت بها مكاتبها في كل عام، ما تذكره حكام العرب ولا سعوا إليه، بل إنه لو خُيروا بين الاحتفال به والاحتفال بأي شيء آخر لاختاروا هذا الآخر مهما كان، وذلك لأنهم ببساطة هم من يعملون خلف الكواليس ضد هذه اللغة!
والمدهش أننا نجد أن من لا يتحدثون العربية هم من يدركون تماما أهميتها، ويدركون أنها ملكت ما لم تتملكه أي لغة في العالم، إذ يستخدمها -عدة مرات يوميا- ربع سكان الأرض حتى لو كان ذلك في أداء عبادات الإسلام.
نحن هنا لسنا بصدد تأكيد المؤكد عن عظمة هذا اللغة والمحفوظة إلى يوم القيامة بوعد رباني لكونها لغة القران الكريم، ولكننا فقط نحاول رصد عدد من الأساليب التي يمكننا فعلها كشعوب عربية تدافع عن إرثها الحضاري دعما لهذه اللغة ضد محاولات التذويب والتشويه والبعثرة.
ابدأ بنفسك
أولى تلك الأشياء أن نبدأ بأنفسنا ثم ندعو غيرنا لتغيير أسمائنا في جميع وسائل التواصل الاجتماعي إلى العربية، والهدف أن تكون هي لغة أسمائنا الرئيسية، ومنعا للتحجج بعدم قدرة غير العرب على قراءة حروفها، يمكننا كتابة الاسم الثانوي بأي لغة أخرى نريدها، كما يمكن أيضا كتابته في الصور الخلفية للصفحة.
ونستطيع أن نعبر عن هويتنا بكتابة يافطات محال أعمالنا بها، وأن نتفنن في خطوطها ومصطلحاتها لتبدو جذابة، فتمثل دعاية جيدة لهذه اللغة، وكذلك الأمر في ملصقات سياراتنا ومركباتنا، وفي كروت التعريف الشخصي، وأوراق الدعاية ويافطات الشوارع وغيرها الكثير من المعاملات الحياتية.
وفي المقابل يجب أن تُكافئ المحال والأعمال التي تفعل ذلك بالشراء منها والتعامل معها ما يشجع الآخرين من رواد الأعمال على العودة لدعم الهوية.
ولو كنت محاضرا أو شخصية يقتدي بها الآخرون فاحرص على ألا تتحدث إلا بها، وأن تحث الناس على الاعتناء بها وإظهار مدى أهميتها. وفند الشائعات التي تتحدث عن أنها لا تصلح للعلوم، وقل لهم إن معظم العلوم الغربية الحديثة بُنيت في الأصل على علوم باللغة االعربية، وأخبرهم أن كلا من سوريا والعراق (في عهد صدام حسين) قررا العربية، لغة للعلوم فتصدرت العراق بين دول العالم في الطب والعلوم والتعليم وغيرها.
يجب الحرص على ألا تكثر من استخدام مفردات أو مصطلحات من أي لغة أخرى في كل ما تنشره على صفحاتك عبر وسائل التواصل طالما كنت تعرف الكلمات العربية لها، واعلم أنك بذلك تقدم درسا تعليميا غير مباشر لغيرك ممن لم ينل قسطا معرفيا عن العربية، فربما تكون بذلك سببا في أن يقلدك شخص له عدد كبير من المتابعين فتعم الفائدة.
كن مهتما بتعليم ابنائك العربية حتى لو أجبرتك الحاجة إلى إلحاقهم بالمدارس التجريبية أو اللغات أوالدولية وغيرها، بسبب السوء المتعمد الذي أصبحت عليه مدارس اللغة العربية تعليميا وسلوكيا وأمنيا، حينئذ يصلح تعليم أبنائك العربية السليمة ولو في المنزل.
ويكفي أن تعلم أنه بتجاهلك للغتك العربية إنما أنت في الواقع تطعن الإسلام والقرآن، وأنت في الغالب لا تقصد، ولكن الأعداء المتربصين يقصدون، ويكفي أن تقف متأملا أمام رؤية المستشرق الإنجليزي ادوارد دينسن روس التي قال فيها: “اللغة العربية والحروف العربية، والإسلام والقرآن، كلها قواعد بناء واحدة، إن هدمت واحدة تداعى البناء كله”.
واعلم أنه يجب على الإنسان العربي المعتز بأصله وفصله، والمسلم المعتز بدينه أن يعتز بل ويبالغ في الاعتزاز بلغة القرآن الكريم، وأن يتساءل عما إذا كان قد وجد من قبل أي شخص من مشاهير الغرب أو الشرق أو حتى بسطائهم يكتب اسمه بغير لغته القومية؟ وهل وجد إنجليزيا أو صينيا مثلا يتحدث أو يكتب لمواطن آخر من بني جنسه بلغة غريبة عنه كلغتك مثلا؟
افخر بعربيتك التي اختارها الله لتكون لغة أقدس كتبه، وانقل فخرك لمتابعيك ومحبيك، فيقلدونك وينقلونه هم أيضا لمتابعيهم، ونمسح بذلك تلك الصورة النمطية التي روج لها الإعلام طوال عقود عن الأزهري التافه، والخواجة المثقف المتحضر.
يجب تشجيع العودة للفن الجميل الذي ما زال صداه يعتمل في الأفئدة حينما كانت أغاني الفصحى لأم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وغيرهم تلهب أفئدة المستمعين وجوارحهم، وتألق المتألقون في الشعر الفصيح كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي، وكان يُقاس قدر الناس بمدى إجادتهم للعربية.
تجربة العبرية
أدركت الصهيونية أهمية اللغة في تكوين الشخصية، فراحت تعيد لغتها المنقرضة من ركام التاريخ وسعت إلى إحيائها في كيانها المزعوم، فتناسى اليهودي القادم من روسيا لغته الروسية، والألماني ألمانيته، والإثيوبي إثيوبيته، واليوناني يونانيته، وراحوا جميعا -ومعهم آخرون- يتمترسون حول العبرية، حتى دبت فيها الحياة مجددا، وربحوا هم هذه الجولة.
ولم نجد منهم من يقول إنها ليست لغة العلوم ولا داعي حضاري للاهتمام بها، أو يقول إنها صعبة الفهم والقواعد ولن يستطيع تعلمها، ولا من يقول إن العالم لن يستطيع قراءة حروفها، ولا من يقول إنها ليست لغة وطنه الأصلي، مع أنها ليست مقدسة في توراتهم كما هي مقدسة في قرأننا.
هذا كان في اللغة العبرية التي تتشابه لحد كبير مع اللغة العربية في الحروف والقواعد النحوية وحتى في اتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار، ماتت وشبعت موتا ثم بُعثت فيها الروح، فكيف تقبل أنت أيها العربي وأيها المسلم إهانة لغتك وتشارك في إماتتها وهي محفوظة من الله بحفظ الذكر؟
اعتز بلغتك، تعتز الدنيا بك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق