جاء تصويت حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالإجماع على إغلاق مكتب شبكة الجزيرة في الكيان بمثابة شهادة كفاءة مهنية جديدة قدمتها إليها ضمن شهادات البراءة الكثيرة التي واظبت إسرائيل على تقديمها للشبكة منذ عقود؛ والتي كان أبرز محطاتها اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة، مرورا بحزمة الاستهدافات بالقتل لمراسليها وأسرهم بعد طوفان الأقصى، وأبرزها استهداف مصورها سامر أبو دقة في غزة أثناء تأديته عمله، واستهداف كافة أفراد أسرة مدير مكتبها هناك وائل الدحدوح، مع إصابات عديدة لكثير من طواقمها الفنية.
قيمة -شهادة التقدير- التي تلقتها الجزيرة أنها جاءت من دولة صارت بجرائمها المروعة مجرد سبة في جبين البشرية جمعاء، وأجمع القاصي والداني والأعجمي قبل العربي على أنها تنفذ إبادة جماعية في غزة والضفة الغربية، وأنها لا تضع للقوانين الدولية ولا حتى قوانين الفطرة الإنسانية أي اعتبار، وقد تسببت بأفعالها في دق أول مسمار في نعش المنظومة الدولية القائمة.
وعزز هذا الاعتقاد أن الشهادة الإسرائيلية الجديدة جاءت بعد أيام قليلة من منح اليونسكو جائزتها الصحفية السنوية لصحفيي غزة الذين يبرز بينهم بلا شك مراسلو الشبكة بشكل واضح.
وكان لهم مع قلة غيرهم من أبطال مهنة البحث عن الحقيقة الفضل في كشف حقيقة الوحشية الصهيونية للعالم رغم الظروف المميتة التي يفرضها الاحتلال ليس عليهم فقط بل على أسرهم أيضا، وصارت شبكتهم كما كانت في كل الأحداث الكبرى في عالمنا العربي هي محط أنظار العالم ومصدر معلوماته الموثقة.
فلم يروّع مراسلي الجزيرة الذين تريد إسرائيل إخراس أصواتهم قتلها نحو 141 صحفيا في غزة وحدها -في أعلى نسبة اغتيال لصحفيين في مكان واحد من العالم- بينهم طواقم فنية واعلامية للشبكة، بل أصروا على استكمال رسالتهم في تحدّ له ثمن باهظ سيخلده التاريخ لفرسان هذه المهنة كلها.
ضربة انتقامية
القرار البائس جاء أيضا بعد عدة ضربات إعلامية تلقتها تل أبيب من الشبكة عبر كشفها العديد من مشاهد الإبادة الحصرية في غزة والضفة الغربية، وهي المشاهد التي وضعت الاحتلال وداعميه الغربيين في حرج شديد ومثلت أدلة كافية لاتهامه بارتكاب هذه الجرائم في غزة سواء من قبل محكمة العدل الدولية أو من المحكمة الجنائية الدولية التي تتسرب معلومات شبه مؤكدة عن عزمها إصدار أوامر اعتقال لقادة إسرائيليين كبار منهم رئيس الوزراء ووزير دفاعه ورئيس أركانه، وعدد آخر من الوزراء وقادة الجيش، هذا إن لم تكن قد صدرت هذه القرارات بالفعل.
وخطورة هذه الإدانات أنها تجرد إسرائيل من استمرارها في بث الوهم الذي سقته لشعوب أوروبا بأنها الحمل الوديع الذي يتعرض للبربرية من قبل جيرانه العرب، وأنها تتعرض للإبادة والاضطهاد في الشرق العربي تماما كما تعرض له اليهود على يد النازية، وهو الوهم الذي يمثل شريان وجودها الحيوي.
ولعل إسرائيل تصرفت هذا التصرف اليائس في محاولة ممجوجة للضغط على قطر الوسيط في المفاوضات لكي تضغط على المقاومة من أجل قبول اشتراطاتها في إطلاق سراح الأسرى ووقف إطلاق نار يعطيها ما عجزت عن نيله بالحرب.
ومما لا شك فيه أن تل أبيب ترددت كثيرا في اتخاذ هذا الإجراء ضد شبكة عالمية بحجم شبكة الجزيرة كانت تتقبلها على مضض حتى لا يقال إنها تقيد حرية الإعلام، ثم اضطرت إلى أن تضحي بتلك الاعتبارات نظرا لأنها لا تملك أوراقا للضغط على الوسيط القطري سوى ذلك، ولن يضيرها صداه عالميا لكون سمعتها صارت في الحضيض بالفعل، ولن تسقط أكثر من هذا السقوط المدوي الذي تسبب فيه في المقام الثاني بعد استبسال المقاومة استبسال وسائل الإعلام العاملة في ميدان الأحداث وفي القلب منها قناة الجزيرة.
مردودات القرار
في اعتقادي الشخصي أن مردودات القرار على قناة الجزيرة هامشية للغاية، فعملها لن يتأثر كثيرا نظرا لأن تغطيتها للعدوان على غزة -وهي بيت القصيد- لم تكن أصلا بإذن من إسرائيل، ولن تستطيع بكل وحشيتها أن توقفها.
أما تغطيتها للعدوان على الضفة الغربية الخاضعة لسلطة الاحتلال فيمكن تدبيرها بالعديد من الطرق، وإن كنت أعتقد أنها لم تكن خاضعة أيضا لسلطة الاحتلال نظرا لوجود السلطة الفلسطينية، ويبقى التأثير قائما فيما يخص تغطيتها داخل الكيان ذاته، وإذا كانت هذه التغطية مهمة فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها والاكتفاء بتقارير الوكالات الدولية.
وأتوقع أن تسقط حكومة نتنياهو قريبا بعدما استنفد كافة محاولاته لمد أجل الحرب من أجل بقائه السياسي في السلطة وبالتالي تأجيل إعلانه الهزيمة، وبلا شك وقتها لن يكون مجديا لأي حكومة إسرائيلية جديدة تتحلى بقدر من الحكمة الإبقاء على قرارات فاشلة لحكومة فاشلة مرغت بعنجهيتها سمعة دولتهم في الأرض.
الجزيرة باقية وسيرحل نتنياهو ونظامه المتطرف.