الاثنين، 4 يونيو 2018

سيد أمين يكتب : عام من "الوسواس القطري"!

الاثنين 4 يونيو 2018 16:42

لم يتوقفوا لحظة واحدة عن تأكيد أن دولة قطر هى من الصغر تأثيرا ومساحة، للدرجة التي لا تجعلهم يعيرونها اهتماما، وأنهم إن صبوا عليها جام غضبهم، وأولوها اهتمامهم فلن تصمد أمامهم إلا يوما أو بعض يوم.
لكنهم خلال هذا العام لم نرهم يتصرفون إلا كمن أصيب بداء الوسواس القطري، من نسبة كل فشل يلحق بسياساتهم غير الديمقراطية إليها، إلى استعمال كل أساليب الضغط غير المسبوقة وغير الأخلاقية ضدها، حتى وصل الحال إلى تقطيع أواصر القبائل وترويعها واحتجاز مواطنين قطريين لاستخدامهم رهائن مع محاولات فاشلة لإجبارهم على تمثيل دور المنشقين على قطر.
هكذا، مر عام كامل على هذه الادعاءات والحصار الذي ضربته حكومتا أبو ظبي والرياض وتابعتهما في المنامة ومعهم حكومة القاهرة في 5 من يونيو/حزيران 2017 على قطر – وليس تل أبيب كما تقضي علينا واجبات التضامن العربي - ومع ذلك كل المؤشرات تؤكد أن الحصار لم يزد قطر إلا قوة وإصرارا وتأكيدا على استقلالها التام ورفضا للانضمام لحظيرة الرياض.
ومن الواضح أن قطر أسست إستراتيجية ناجحة للتغلب على أي مضاعفات أو نتائج لهذا الحصار مهما دام أمده وبدت هذه الإستراتيجية فعالة جدا حتى الآن بدليل الاحتفاظ بمعدلات نمو كافة مؤشراتها الاقتصادية مرتفعة خاصة الناتج القومي الذي قفز إلى معدلات نمو 1,9 % نهاية العام الماضي ما جعله الأسرع في المنطقة فيما ارتفعت معدلات الصادرات والواردات والإنشاءات وحتى معدلات "السياحة"، مع انخفاض معدلات التضخم عن المستويات المعتادة ، وهكذا جرى تحويل الحصار إلى حافز لتطوير كافة القطاعات الاقتصادية في البلاد بما جعلها تحقق الاكتفاء الذاتي.

شراء الولاءات

هذه النظم غير قادرة على شيء إلا شراء الولاءات، ولذلك عندما فشلوا في الإيحاء بوجود قلاقل داخل دولة قطر بسبب تأكيد القطريين تمسكهم بحكومتهم وقائدهم، راحوا يستغلون كل نفوذهم وأموالهم لشراء ذمم الكتاب والصحفيين الغربيين والعرب وذمم أصحاب الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية القابلة للبيع والشراء في الغرب من أجل الهجوم عليها، ويقومون بالتعاقد مع شركات دعاية دولية لتشويه صورتها، بل إن الأمر وصل إلى شراء مواقف حكومات دول فقيرة معلوم للجميع كفالة الرياض لها لتحذو حذوها ، ووصلوا للدرجة التي جعلتهم يخلعون "براقع الحياء" التي كانت تتحلي بها الحكومات العربية سابقا ويجهرون بأن عدوهم "قطر" وليس "إسرائيل".
ومع الحصار المشدد صمدت قطر المحاصرة، فيما بدا التوتر والانفلات على سلوك المحاصرين.

صفقة القرن

من السخف أن نولي بحثا جديا في الأسباب الرئيسية التي أوردتها تلك الدول في فرضها هذا الحصار، فلا قطر ترعى الإرهاب ولا الإرهابيين، وكيف تتهم بهذا ودول العالم التي تتصدر قائمة مكافحة الإرهاب تعتبرها شريكا مهما لها، بل إن الولايات المتحدة اعتبرت في قانون "جاستا" الذي أقرته رسميا أن الرياض، لا الدوحة، هي الضالع الأكبر في أشهر الحوادث الإرهابية؟
وأيضا لا يتم حصار قطر بسبب تواجد عدد من المنتمين للإخوان المسلمين على أراضيها وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن الإخوان المسلمين ممثلون في برلمانات وحكومات دول عربية عديدة، بعضها خليجي، ولم نسمع عن أن دول الحصار فرضت على أي من تلك الدول حصارا كما فعلت مع الدوحة، فضلا عن أن دول الغرب رفضت كل الإغراءات والضغوط لإصدار بيانات تصم الإخوان بالإرهاب، ثم يبقي الأهم وهو أن عدد الإخوان في قطر لا يكاد يذكر مقارنة بعددهم في بعض دول الحصار ذاتها.
كما أنه من المدهش أن تطالب تلك الدول الدوحة بإخلاء القاعدة العسكرية التركية على أراضيها بينما القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية تتمدد على أراضي تلك الدول.

السبب الحقيقي

ومن المعلوم للقاصي والداني أن السبب الرئيسي لحصار قطر يعود لدعمها ثورات الربيع العربي ومطالب الشعب العربي في الحرية، ولعدم انخراطها في مخططات "صفقة القرن" واتفاقيات "سايكس- بيكو" الجديدة التي يجري بمقتضاها تقسيم الوطن العربي وتصفية القضية الفلسطينية وإحلال الشرق أوسطية بزعامة إسرائيل كبديل عن الوطن العربي.
وبالطبع كان يلزم لتنفيذ تلك الصفقة تكميم كل الأفواه العربية التي يمكنها الاعتراض ونقل نبض الشعوب وأهمها قناة الجزيرة، وهذا هو العنصر الأهم لفرض هذا الحصار.
ولعل توقيت فرض حصارهم على دولة قطر يكشف في حد ذاته عن نية خبيثة مبيتة، ليست تل أبيب بعيدة عنها، ما يشكل مهانة كبيرة تمس سيادتهم واستقلال قرارهم، خاصة أن القرار اتخذ بينما كانت أقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وابنته لم تبرح الرياض بعد، وذلك قبيل أن يعودا محملين بالمنح والعطايا التي تنوء بحملها العصبة أُولِو الْقُوَّةِ.

الدوحة تكسب شعبية

والواقع أن هذا الحصار الفاشل عزز دور دولة قطر لدي الشعوب والحكومات العالمية الحرة والعربية خاصة ، ونجح في إزالة السخام الذي حاولت دول الدعايات الخرقاء تلطيخ وجه الدوحة به على مدى عقود بادعاء علاقتها بتل أبيب، بحيث بدا واضحا للجميع أن دول الحصار منبع تلك الدعايات هي من تخطط لصفقة القرن لصالح إسرائيل والسلام الدافئ ومشروع نيوم، وهى من ترسل وزراءها وكبار مسؤوليها علنا إلى تل أبيب، وهي من تحتفل سفارة الكيان الصهيوني على أراضيها بذكرى نكبة الجيوش العربية، وهي من تحاصر غزة، وهي من يهتف المقدسيون المرابطون على أبواب الأقصى ضد حاكمها.
بإيجاز بسيط: ما جرى خلال هذا العام أنهم أرادوا خنق الدوحة بالحصار فخنقتهم وكشفت سوءاتهم.





الجمعة، 18 مايو 2018

سيد أمين يكتب : المقاومة بـ" الناطوري كارتا" وأخواتها


الخميس 17 مايو 2018 20:17
 من نوافل القول أن وراء الجرأة الامريكية في الاصرار على إعلان نقل سفارتها للقدس منتصف هذا الشهر تواطؤ عربي، يدعم في السر وتوقف حتى عن أن يشجب في العلن، ومما لا شك فيه أن العدو الاستراتيجي الكبير والوحيد لكل الشعب العربي هو الكيان الصهيوني وهو من يتحمل بسيل مؤامراته علينا كشعب عربي جل رزايانا بدءا من تنصيبه طغاة وعملاء له حكاما علينا، انتهاء برعاية هؤلاء العملاء للفساد رسميا في مؤسساتنا مما جعل الانحطاط الاخلاقي والسلوكي والانحدار الفكري والمعرفي منهج حياة متكامل اتسمت به حياتنا.
 ولقد تم ذلك عبر استخدام طرق عدة، ففي مصر مثلا كانت اتفاقية كامب ديفيد هى في الواقع اتفاقية سيطرة صهيونية على كل مصر،  وهو ما تم عبر ما يسميه الباحث القومي محمد سيف الدولة "الكتالوج الأمريكي الذي يحكم مصر" والذي نتج عنه أن صارت سيناء بأكملها رهينة  لإسرائيل وتم بسببها تدمير القطاع العام عنوة لمنعه من تمويل المجهود الحربي للجيش في أي حرب لاحقة والاستعاضة عن الأموال التي كان يوفرها بالمعونة الامريكية، مع خلق مناخ عام اقتصادي مؤاتٍ  للفاسدين والعملاء عبر المعونة التجارية التي قدمتها أمريكا آنداك أيضا ومنحتها لأشخاص بعينهم هى من اختارتهم لتكون لهم نواة لبدء السيطرة الكاملة على الاقتصاد المصري وبالطبع تضخمت حصيلة تلك الاموال جراء عمليات تسقيع الأراضي وكافة عمليات الفساد.   
ثم يأتي بعد ذلك صناعة مناخ سياسي مؤاتٍ لإسرائيل عبر صناعة أحزاب سياسية - تفتقر للشعبية بالطبع- تؤمن بإسرائيل وتضع الصراع معها في غير اهتماماتها السياسية أساسا وذلك بقصد الإيحاء بأن اسرائيل صارت واقعا لابد من التعامل معه والانفتاح عليه.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة عزل مصر عن أمتها العربية عبر تعميق دعوات الدولة الأمة ومصر الفرعونية، وفي تقديري أن تلك المرحلة فشلت فعليا ولفظها الشعب المصري فتم الاستعاضة عنها بدعوات الشعّوبية وتقديس حدود سايكس بيكو.
ناطوري كارتا
إسرائيل لا تعدم الوسيلة التي تزيد فيها من تعاسة شعوبنا وتعمق بها تخلف بلداننا وانقسامنا الجغرافي والمذهبي والطبقي ومع ذلك هناك إصرار عجيب لدى نظم الحكم العربية على الوقوف منها موقف المدافع ، بل وممارستها الضغط على المقاومة من أجل الاستسلام لهذا الواقع المخزي، تارة بوصمها بالإرهاب وأخري بحصارها بل والتواطؤ مع العدو للقضاء عليها ، رغم أننا نحن الضحايا لا أحد غيرنا ، وكان يجب علينا أن نرد عليها المؤامرات بالمؤامرات والصاع بالصاع أيضا ، لأن المنطق يقول أن من يبادر بالهجوم قد تزداد فرصه في كسب المعركة بأقل الخسائر.
وهناك أساليب سلمية كثيرة للمقاومة منها مثلا وجوب دعم واحتضان حركات مناهضة للصهيونية مثل "ناطوري كارتا" وهي الحركة اليهودية الحقة التي تأسست عام 1935ترفض الصهيونية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة إسرائيل وتؤمن بحق إقامة دولة فلسطين على كامل أراضيها العربية، ويتواجد أعضاؤها في العديد من دول العالم أهمها القدس ولندن ونيويورك، وتعاني اضطهادا كبيرا في كل المدن التي يوجدون فيها من قبل النظم الداعمة لإسرائيل.
وقد تنبهت دول عربية وإسلامية قليلة وشخصيات عامة إلى أهمية استخدام تلك الورقة لدعم المقاومة العربية في فلسطين فراح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يقوم بتعيين أحد المنتمين لتك الحركة ويدعى" موشيه هيرش" وزيرًا للشؤون اليهودية، فيما التقى المفكر الاسلامي الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في 2008 ثلاثة حاخامات من هذه المنظمة، كما حضر وفد من تلك الحركة مؤتمرًا نظمته إيران حول الهولوكوست.
وزار وفد من تلك الحركة نقابة الصحفيين المصريين بالقاهرة عام 2010 لكن الاحتفاء بهم ظل غير رسمي سواء أكان الأمر على مستوى النقابة أو على مستوى الدولة وقد يفهم ذلك ربما بأنه إرضاء للكيان الصهيوني.
منظمات أخري
ولم تكن حركة الناطوري كارتا وحدها كحركة يهودية ترفض الكيان الصهيوني ولكن هناك العديد من تلك الحركات ومنها حركة “JVP” أو "صوت يهودي للسلام" وهي حركة يهودية تعمل على فضح عنصرية إسرائيل أمام العالم وتدعو لفرض حصار عليها، وشاركت الحركة في أسطول الحرية لكسر حصار غزة 2011.
وهناك أيضا جمعية"زوخروت" اليهودية الهادفة لتعميق الوعي لدى اليهود في إسرائيل بالأزمة الفلسطينية، والجرائم التي ترتكبها إسرائيل بالشعب الفلسطيني وتدعو اليهود لاحترام حقوق الإنسان.
وأصدرت الحركة خارطة بأسماء المدن والبلدات الفلسطينية التي تم إزالتها من قبل الكيان الصهيوني داعية الى عودة الحق الفلسطيني.
وكذلك هناك الطائفة الحريدية التي تأسست عام 1921 وهي تعبر عن يهود متدينين يعارضون النزعة الصهيونية ويدعون للعودة لليهودية الصحيحة المتدينة كما يرونها، وترفض كل قيم العلمانية وترفض الكلام باللغة العبرية بوصفها لغة صهيونية وترفض دولة اسرائيل ودولة فلسطين معا، وتحفل تلك الحركة بزخم كبير في الوسط اليهودي وتضم من هم أشبه بالتيار السلفي لدى المسلمين.
وأيضا هناك حركات علمانية تقترب من الحق العربي منها مثلا حركة "ترابط" وهي حركة ترفض النزعة الاستعمارية لإسرائيل وتدعو لتقارب إنساني بين إسرائيل والدول العربية وترفض المستوطنات وتهويد الأراضي العربية، وتدعو للتعايش العربي الاسرائيلي المشترك.
وكذلك حركة "فوضويون" وهى حركة تأسست للتعبير عن رفض الجدار العازل الإسرائيلي وهى ضد حصار غزة والبلدات الفلسطينية ولها مظاهرات شبه أسبوعية رفضا للحصار وتظهر فيها جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.

لقراءة المقال على الجزيرة نت انقر هنــــــــــــــــــــــــــــا


السبت، 31 مارس 2018

سيد أمين يكتب: محنة الصحفي المحايد في مصر

الجمعة 30 مارس 2018 21:15
 الصحفيون المصريون عامة والمحايدون منهم خاصة يعيشون في مصر الآن أجواء مأساوية بكل معني الكلمة، فقد أغلقت أبواب الصحف المعارضة، أو بالأحرى الموضوعية، بالضبة والمفتاح، واقتصرت مهمة الصحفي على مجرد ترديد بيانات ومنشورات أمنية غالبا ما يكون هو نفسه غير مقتنع بمحتواها، ناهيك عن أنه يتوجب عليه أن يقنع الناس بها.
ولأن الحياد الإعلامي الايجابي وعرض الحقيقة في مصر الآن جريمة بكل معنى الكلمة يتم تصنيف مرتكبها بأنه خائن للوطن وممول من الخارج، فقد توجب على على هذا الصحفي في البداية أن يلتزم الصمت تماما ولا يتعاطى السياسة حتى في بيته، ليس خوفا من الاعتقال والحبس الطويل بقضايا جنائية ملفقة فحسب، بل خوفا من أن يموت هو ومن يعول جوعا بسبب عدم وجود مكان يقبل به للعمل فيه حتى لو لأعمال إدارية، لأن صاحب العمل يخشى أنه بتوفير فرصة عمل له يجلب المشكلات الأمنية لنفسه هذا إن كان هو صاحب القرار في أن يقبله في العمل أم لا، خاصة أن غالبية المؤسسات الصحفية والإعلامية مملوكة لشركات تابعة لجهات أمنية تعاقب الناس ليس على ما يكتبون بل على ما يضمرون من أفكار ومعتقدات.
كما أن حالة الصمت المطلوبة يجب ألا تقتصر على ممارسته الصحافة والإعلام وهو حقل عمل الصحفي، ولكن تمتد إلى الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي والأحاديث مع الرفاق والأصدقاء وفي الجلسات العامة والخاصة أيضا.
ولتقدير صعوبة الأمر لك أن تتخيل أن يتوقف الحداد عن الحدادة والنجار عن النجارة والمحامى عن المحاماة والطبيب عن الطب. فمن أين يكسب قوت يومه؟
ولعل الكثير من الصحفيين المصريين سيؤيدونني لو قلت إن كثيرا منهم لديهم الأن أزمة اجتماعية كبيرة جراء فقدان موارد رزقهم بسبب تمسكهم بحرية التعبير، ويتعرضون لضغوط أسرية قاسية تطالبهم بمسايرة موجه "التطبيل" للسلطة.
صراع نفسي
ولأن المعركة في الأساس تدور حول حرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، تطور الأمر فلم يعد الصمت يكفي لتوفير الأمان للصحفي المعارض للسلطة، فيدها تطاله بالعقاب بناء على ما كتب من قبل، بل يجب أن يجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة أن ينضم لجوقة مرددي البيانات الأمنية ويقنع نفسه بما فشلوا هم في إقناع أنفسهم به.
والحقيقة أنه من الشائع الآن بين الصحفيين المصريين معاناتهم أمراضا تشبه انفصام الشخصية، يكتبون عكس ما يعتقدون تماما، ويرددون بانكسار بالغ كأي عامل "تراحيل"- مع وافر الاحترام - ذلك بأنه حفاظا على لقمة العيش في بلد يعاني الناس فيه أزمة اقتصادية متفاقمة، ولذلك يكون المحظوظ منهم هو من يعمل في مجالات بعيدة عن الحقل السياسي كالرياضة والفنون والأسرة والطفل وغيرها، بل إن الصحفيين يتنافسون عليها من أجل تخفيف حدة الصراع النفسي الداخلي، رغم أن الإعلام الدعائي لم يتوانى عن إدخال الدعاية السياسة في تلك المجالات حتى في الطبيخ.  
الكتابة الجادة
ولم يعد خافيا على أحد أن الكتابة الجادة الأمينة في مصر الآن هي بمثابة نقش على البارود، والكاتب الجاد هو ذلك الراقص على حقل من الألغام وسيكون محظوظا جدا أن رقص بحرية لمدة ساعة واحدة ولم ينفجر فيه اللغم ويقضي على حياته أو يبقيه قعيدا ما تبقي من عمره.
ومأزق الصحفي والكاتب المحترف عامة أن سمعته تتلخص في حياديته، وتجود بقدر صلابته وثباته على مبادئه وابتعاده عن السلطة، وحينما يتنازل عن تلك الصفات تحت أي ضغط يفقد كل احترامه لنفسه قبل أن يفقد احترام قرائه كما انه يصعب عليه عادة أن يتكيف مع أفكار ورؤى السلطة لا سيما لو كانت فاشية.
لقد كان سجل مصر في الحريات الصحفية والفكرية دائما مأزوما، إلا أنه الآن تجاوز تلك التوصيفات تماما، لأنه أمسى سجلا مجرًما يستبيح دم وعرض ومال من يشذ عن المقرر الرسمي، فتواري الإعلامي وحل محله الإعلاني.
ورغم أن الإعلام في الدنيا برمتها إلا ما ندر يتجه إلى الحرية المطلقة فإن المهنة لدينا أصبحت مرشحة للزوال بسبب هيمنة الرقيب عليها وقيامه بدور الناشر والكاتب والإعلامي والصحفي والمفكر الوحيد الذي ينبغي على الجميع أن يردد صدى صوته.
إن استمرت الحال على ما هي عليه في مصر فمهنة الصحفي مرشحة للزوال، ليحل محلها نافخ الكير وحامل الأسفار.
فليس مهمة المخبر الصحفي ذاتها مهمة مخبر الشرطة.

اقرأ المقال على الجزيرة مباشر هنـــــــــــا



الخميس، 15 مارس 2018

سيد أمين يكتب: صُنّاع الانقسام


من المعلوم أن أجواءً سلبية من التشكيك والتخوين سادت -ولا تزال- بين قوى ثورة يناير/كانون الثاني المصرية، وأوصلت المصريين إلى الجحيم الذي يعيشون فيه، وصار نجاح تلك الثورة مرهوناً بزوال هذه الأجواء التي وصلت أقصى مداها بعد الانقلاب العسكري؛ حيث اتسع رتق الانقسام بفعل التداخل المؤثر الذي أحدثته الثورة المضادة في الثورة، ووقفت فوق ميادينها وبنفس شخوصها للأسف.
وراح كل فصيل يُلقي بالمسؤولية على الآخر مستخدماً منطلقاته الدعائية الخاصة، وإن طال التيار الإسلامي واقعياً القسط الأكبر من دعايتها السوداء -خاصة أن وسائل إعلام السلطة ورجال أعمالها هي من كانت تؤدي تلك الوظيفة- وارتبطت به على سبيل المثال تهمة الانتهازية التي أوجزتها عبارة "باعونا في محمد محمود"، وهي التي تحولت إلى مزحة مبتذلة من فرط استخدامها من قِبل كل شارد ووارد، يبرر صمته، وخوفه، ونضوب إنسانيته، أمام الجرائم التي ارتكبت بحق هذا التيار الذي لا يعرف لطريق المكايدة السياسية التي تشيع في مثل هذه الأجواء سبيلاً.
وهى التهمة التي صارت أيضاً تعبّر عن مظلومية الإخوان وليس ظلمهم، خاصة مع حالة القمع الوحشي التي يتعرضون لها، وصمت الآخرين المطبق، وأحياناً تأييدهم لهذا القمع، بل وإيعازهم به.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة أو نمسي من "مطيبي الخواطر" إن قُلنا إن كل قوى الثورة شاركت في تأجيج الانقسام المجتمعي بشكل أو بآخر، بقصد أحياناً أو بسوء قصد غالباً، ورغم ذلك نجزم أن تلك القوى لم تكن هي من خلقت الانقسام، وذلك لسبب منطقي وهو أنه كان موجوداً أصلاً في المجتمع قبل نشأة تلك القوى، بل وفي أكثر فترات التاريخ الحديث انسجاماً.

الانقسام والتنوع

وقبل الخوض في تاريخ الانقسام، يجب الإشارة إلى أن ثمة فارقاً كبيراً بين الانقسام والتنوع، فالتنوع هو عامل "تكامل" مهم من عوامل النجاح الاجتماعي والاقتصادي للدول، ويؤتي ثماره متى توافرت الإدارة الديمقراطية الحكيمة التي تساوي بين حقوق الناس، وتحترم اختلافهم الفكري والعِرقي والمذهبي والديني، ولنا في الهند مثل واضح.
أما لو كانت الإدارة استبدادية، لم تصعد الحكم بطريق ديمقراطي، فإنها تتمسك بقوة بسياسة تحويل هذا التنوع إلى انقسام، بما يضمن لها ولاءً مطلقاً من قِبَل فصيل ما من الفصائل، تحتمي به متى ضاقت عليها الدوائر، وتضحي به متى لزمت التنازلات، وتبرهن عليه إعلامياً، وتحتفظ باستمرار ولائه عبر سياسة إطلاق الفزاعات، ونشر أجواء الخوف والتشكيك، وإقامة سواتر الدخان التي تحجب الرؤية الكاملة عن الجميع، ما يمكنها من ملء الفراغات بنفسها بما يجافي الحقيقة، ولنا في المشهد المصري مثال واضح.

انقسام طائفي

لعله من البديهي والمعلوم أن تكون "فرّق تسُد" هي السياسة المعتمدة لقوى الاستعمار لأسباب كلنا يعرفها، ولذلك سعى البريطانيون إلى إحداث تلك الفرقة بين المسلمين والمسيحيين، والتي بدأت باختيار الخديو، بإيعاز من الإنكليز، لبطرس باشا نيروز غالي -جد عائلة بطرس غالي الحالية- ليكون رئيساً للوزراء عام 1908، وكان ذلك أمراً مستحدثاً على الناس آنذاك أن يتولى حكمهم مسيحي، بينما هم يتبعون وجدانياً دولة الخلافة العثمانية، ولكن لأن ذلك لا يمنعه الإسلام فقبلوه.
لكن ما رفضوه هو أن "بطرس غالي باشا" راح بإملاء من الإنكليز يعين قِساً اسكتلنديا يسمى "دانلوب" وزيراً للتعليم "المعارف"، فأصدر قانونا سمّوه باسمه يحارب اللغة العربية، والأزهر، وعلوم الدين تحديداً، ويسعى لتغريب التعليم عبر جعله بالإنكليزية، وقصره على طبقة "الأفندية" وما فوقهم، وهم الذين يمكن الاستعانة بهم لإدارة المستعمرة الإنكليزية.
وكان رأي دانلوب الصريح أنه "متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة".
المهم أن المصريين قتلوا بطرس غالي في 1910، وأسقطوا "دانلوب" وقانونه، ولكن بقي الانقسام مستعراً حتى ثورة 1919 التي قامت في الأساس لجبره والتئامه، وينبغي الإشارة إلى أن قانون تعليم "دانلوب" هو ذاته ما يطبق في مصر الآن.

الانقسام السياسي

جددت اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979 الانقسام مجدداً في المجتمع المصري وعمقته على كافة الأصعدة، بين المسلمين والمسيحيين مجدداً؛ حيث أيّد كثير من المسيحيين -غير الرسميين- الاتفاقية ليس حباً فيها فحسب، ولكن أيضاً نكايةً في التيار الإسلامي الذي رفضها بقوة، وأيضاً رغبة في تبريد خلافتهم المستعرة مع الرئيس بسبب أحداث الزاوية الحمراء، بينما كان غالبية المسلمين يرفضونها.
وبين الفقراء والأغنياء؛ حيث أدت سياسة الانفتاح الاقتصادي، وهي أحد تداعيات تفاهمات "كامب ديفيد" إلى إحداث خلخلة كبيرة وإعادة تسكين لطبقات المجتمع.
وطال الانقسام الذي خلفته "الاتفاقية المشؤومة" كل الحيز الثقافي والسياسي والاجتماعي والديني في مصر، وقسمت الناس بين مطبّعين وغير مطبّعين، وما زال تأثيرها التخريبي في المجتمع فعالاً، ويحاول "السيسي" حسمه لصالح "التطبيع"، وأعتقد أنه سيفشل.

انقسام جغرافي

وجّهت إلى نظام مبارك اتهامات واضحة بأنه قسم الناس على أساس جغرافي ومناطقي، وأن مبلغ عنايته كانت بالدلتا دون سواها، فيما أهمل الصعيد وسيناء والوادي، وهو نفسه اعترف بذلك في أواخر عهده.
نظام مبارك فتح الباب لأبناء محافظات الدلتا لا سيما "المنوفية" للترقّي في دواوين الدولة، فكان منهم معظم رجالات الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، وبالطبع اختار منهم أيضاً معظم قيادات الحكم، الوزراء، والمحافظين، ورؤساء المدن وغيرهم.
وخلق ذلك التمييز شعوراً بالغبن لدى أبناء الصعيد، خاصة حينما أذكته الدراما والإعلام وبررته.
وكان موقف نظام مبارك من القضية "العراقية" مثار انقسام جديد واضح وعميق في المجتمع المصري.
ومن الانقسام الجغرافي أيضاً، ما حدث في عهد المجلس العسكري بعد مذبحة استاد بورسعيد الشهيرة؛ حيث راح الإعلام الرسمي يذكي ويساند الهجوم على أهل بورسعيد.

الانقسام الأيديولوجي

الانقسام الفكري موجود على الدوام كـ"تنوع"، لكن أن تدعم الدولة فكراً دون فكر فهذا هو ما يخلق الانقسام.
فقد حرض السادات على "الاشتراكيين" و"الشيوعيين" و"الناصريين" في بادئ الأمر حتى طال تحريضه كل القوى الفكرية بما فيها حلفاؤه القدامى "الإسلاميون".
وحرض مبارك على فصيل من "الإسلاميين" في تسعينيات القرن الماضي وارتكب به مجازر، إلا أن الجديد في نظام السيسي أنه قد حارب فكراً، بل ديناً بأكمله في صورة تحريض على فصيل "إسلامي".
أخطأ ثوار يناير حينما انساقوا وراء خدعة تقسيم المجتمع إلى فلول وثوار، وهي خدعة أريد بها إيهامهم بنجاح ثورتهم من جانب، والتكريس للانقسام الذي يمكن رده في مشهد قادم إليهم فيجعلهم شيعاً وطوائف وهو ما حدث بالفعل.
صنع العسكر كل ما من شأنه تعزيز الانقسام، بدءاً من التعديلات الدستورية التي ثبت أن الهدف من ورائها كان فقط صناعة الانقسام، والتهويل من نتائجه، ثم حولوا الانتخابات البرلمانية إلى انقسام جديد، وكذلك تمت صناعة انقسام حول لجنة إعداد الدستور، وتوالت مهمة صناعة الانقسام حول كل قرار يتخذه الرئيس مهما قلّ تأثيره، وتم تعزيز ذلك بصناعة مشهد "30 يونيو/حزيران"، ثم الانقلاب، ثم التفويض وهو إحدى أبرز مراحل صناعة الانقسام قساوة، ثم فض رابعة وما تلاها وسبقها من مجازر، حتى حظر الإخوان، وما تلا ذلك من تشويه وشيطنة وذبح، واعتبار ذلك من أعمال الوطنية.
بدأ السيسي خطوات صناعة الانقسام في مصر من خلال إثارة أجواء التشكيك من الآخر، وإطلاق الشائعات، والتحذير من المخاطر، وكشف التحالفات السرية الكاذبة، تدعمه في ذلك ماكينة دعائية جبارة جرى تدشينها على عجالة، انطلقت من ميدان الثورة لصناعة الالتباس، وإحكام الشَّرَك حول الثوار.

حرف المفاهيم

وكان حرف المفاهيم عن طبيعتها واحدة من أدوات تلك الصناعة، فالصراع الحزبي الطبيعي على كسب الشارع يسمونه "استحواذاً"، وإذا أحرق أناس مقراً للإخوان فإنه عمل ثوري، ولكن إذا اقترب "إخواني" من سور حزب الوفد مثلاً بسوء فهو عمل "إرهابي".
وإذا وصفت إخوانياً بأنه "خروف" فهذا حق في التعبير يجب أن يصان، وإذا وصف إخواني أحد معارضيه بأنه مأجور أو بلطجي فهو يتجنى عليه، وبذلك يخرج عن القانون، ثم اتسع رتق التفريق رسمياً وإعلامياً إلى حق الحياة نفسها؛ ليتم تعظيم حق الحياة لمن يؤيد نظام الانقلاب بينما تتم الاستهانة به عند من يعارضه.
ورغم أنه من حق الحزب الفائز بالانتخابات تشكيل الحكومة وشغل كافة المناصب الإدارية للبلد، فإنه كان يتم رمي محاولة حزب الحرية والعدالة أن يمارس حقه الطبيعي في الحكم تنفيذاً لنتائج الانتخابات بتهمة "الأخونة".