الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

سيد أمين يكتب: التصفية الجسدية.. الطغيان الأكبر في مصر

الثلاثاء 28 أغسطس 2018 16:58
 لا يمر شهر واحد في مصر دون إعلان وزارة الداخلية تصفية عدد ممن تصفهم بـ "الإرهابيين" الذين تلحقهم تارة بولاية سيناء أو تنظيم الدولة أو حركة حسم وغيرها، ثم تلحق هذا الإعلان عادة بعبارة "إن الإرهابيين قتلوا أثناء اشتباك مع قوات الشرطة".
ولم يحدث مطلقا أن قامت القوات بالقبض على أي من هؤلاء الإرهابيين المزعومين أحياء أو حتى اكتفت بإصابتهم، وهو الدور المنوط بها كيلا تكون هي الخصم الذي يصدر لائحة الاتهام وهي أيضا من تصدر الحكم بالإعدام، وهى من تنفذه دون حتى تسجيل فيديو واحد متكامل لعمليات الدهم تلك.
ثم سرعان ما يعلن الطرف المقابل من ذوي هؤلاء القتلى عن شهادات مكتوبة أو مرئية وبلاغات قديمة للجهات الأمنية تؤكد أن ذويهم كانوا محتجزين من قبل جهات الأمن نفسها، أو أنهم قتلوا في عمليات إعدام ميداني دون أدني مقاومة منهم.
ومع ذلك لا أحد يتحرك أو حتى يجري تحقيقا شفافا في كل هذه الاتهامات، خاصة أن أجهزة الدولة الخاصة بتحقيق العدالة إما أن تصر على الرواية الأمنية، وإما أنها تلتزم الصمت على تلك الاتهامات المروعة في أكثر أوقات الحياد لها، أو تتجرأ فتبادر بفتح تحقيقات سرعان ما تموت في الأدراج كما حدث في القتلى الخمسة الذين اتهمتهم أجهزة الأمن بقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وهى نفسها من نفت ذلك وفتحت تحقيقا لم يعرف أحد نتيجته منذ أكثر من عامين.
كل ذلك يحدث على مسمع ومرأى من الداخل والخارج ولا أحد يجرؤ في الداخل أن يطالب باستجلاء الحقائق بشكل عملي حماية للعدالة 
نحن هنا لا نكذب الروايات الرسمية، ولكن نطالب بتقديم الإجابات المنطقية أو الموثقة على الوقائع بدرجة تجعلنا نصدقها ولا نتساءل مجددا اقتناعا وليس خوفا من عاقبة السؤال. 
الغموض والقوة المفرطة
أخشى أن يكون هذا الأسلوب –  أسلوب الغموض والأبواب المواربة والقمع المفرط – مقصودا في حد ذاته من أجل تكوين شعور عام بأن السلطة ليست بحاجة لتقديم المبررات لما تفعل، وأنها تفعل ما تريد وقتما تريد دون أي بواعث على القلق أو حرص على الشفافية، ويجب على الجميع الاستسلام والتسليم بما يفعلون أو يقولون دون قيد أو شرط ، وذلك آملا في تحقيق حكمة المفكر السياسي الايطالي الأشهر في التاريخ نيقولا مكيافيللي بأن القوة المفرطة تصنع صديقا مخلصا، وأنه حينما تعاقب خصما لك فيجب أن تعاقبه بالطريقة التي تغنيك من خشية انتقامه.
إن كان كذلك فالثمار أتت أكلها، لا أحد في مصر الآن إلا ويشعر بالخوف وعدم الأمان والقلق مما يحمله المستقبل، وبواعث هذا الشعور لا تعود كما يمكن أن يصوره البعض إلى ضعف قوة السلطة، بل منها ومن جنونها وقوة بطشها، وانهيار منظومة العدالة فيها.
وكرست لتنامي هذا الشعور عوامل عديدة أهمها الغلاء والفساد وتفشى الواسطة والمحسوبية وتوحش الطبقية وعودة الإقطاع وإمساكه بمفاصل الدولة، فضلا عن تلك المظلوميات التي لا تنتهي التي يسمعها ويقرؤها ويعيشها المصري منذ أن يفتح عيناه صباحا حتى يخلد للنوم ليلا، مع تنامي الوعي لديه بأن شبكة المصالح التي تربط جلاديه ببعضهما البعض، أو تربطها بقوي إقليمية ودولية، عصية على الكسر، وكل ما تفعله سيغض العالم الطرف عنه.
الحرب النفسية
وإذا كان الخوف والأمان هما فقط مجرد شعور، فان بث الشعور بعدم الأمان قد يكون مقصودا من قبل النظام الحاكم من أجل تركيع المجتمع في إطار ما يسمي بـ "الحرب النفسية"، وقد يتعمد في سبيل ذلك تسريب جوانب من الفظائع التي تجري بحق المعتقلين أو مناوئيه لهذا الهدف.
وعمليا فان الحشود الهادرة المحتجة التي نزلت شوارع المدن المصرية الكبرى في أشهر الانقلاب الأولى، كانت من الكثرة والإصرار ما تعجز أي قوة عسكرية عن التغلب عليه، هنا تم التركيز على استخدام أساليب الحرب النفسية، التي كان من أهم أدواتها إهدار قيمة المنطق والقانون، والتهويل والتهوين في غير موضعيهما، وهي الحالة التي انتهت مؤخرا بسن قوانين غير منطقية تلغي دور الشهود في المحاكم، فضلا عن عدم تكلف السلطة بخلق تبريرات وذرائع قانونية لارتكاب أي جرائم.
كما جيشت السلطة قطاعات غير ناضجة فكريا من المجتمع لتكون حائط الصد الأساسي الذي يحول دون وصول غضب الحراك الشعبي إليها وهو ما أشاع حالة من الإحباط لدي كثيرين من أبناء هذا الحراك.
 العنصر الأكثر بطشا
وإذا كانت أدوات السلطة هي الجيش والشرطة والقضاء فالسؤال الآن؛ ما هو العنصر الأكبر تأثيرا في تشكيل خوف المصريين؟ هل هي القبضة الأمنية المفرطة؟ أم انهيار القضاء ومنظومة العدالة؟ أم قوة الدعم الإسرائيلي والغربي لهذا النظام؟ آم أن الثورة قد وصلت لحالة من الوهن والإنهاك قادت الناس إلى اليأس بعد سبع سنوات من المقاومة؟
ظاهريا تبدو كل تلك الأسباب مجتمعة وراء ذلك، لكن كان لانهيار منظومة العدالة خاصة في القضاء الطعنة الغائرة في جسد الثورة والتي سببت لها الوهن والوجع الشديد، وذلك لأن الدعم الغربي والإسرائيلي ما كان له تأثير في الداخل إلا عن طريق غض الطرف عما يرتكبه النظام من جرائم بحق معارضيه في الداخل، وما كان للحراك أن يتوقف آنذاك إلا عندما لمس الناس أن مؤسسة العدالة والمفترض فيها رفع الظلم أصبحت أحد أكبر الخصوم.
انهيار منظومة العدالة هي الطغيان الأكبر في مصر.

اقرأ المقال  بالنقر هنا علي موقع الجزيرة نت


الأحد، 22 يوليو 2018

سيد أمين يكتب: هكذا أساءوا لعبد الناصر

 الأحد 22 يوليو 2018 15:29
 شكل منتصف القرن الماضي ولادة قوية جديدة للفكر القومي العربي بشكل ينبئ بأن دولة عربية واحدة تتشكل في الأفق على جميع الأراضي التي يعيش فوقها العرب من المحيط إلى الخليج، فيما أن القوميات الأخرى في هذه البقعة الجغرافية تعاطت مع الثقافة العربية بسبب الدين الذي نطق بلغتها، فصارت مكونا أساسيا من ثقافتها القومية الخاصة، وترافق هذا البعث الجديد مع تأسيس جامعة الدول العربية وتنامي موجات الاستقلال الوطني وبدء انحسار الاستعمار بصورته القديمة.
إلا أن النهوض القومي العربي تلقى طعنة قاتلة بغرس الكيان الصهيوني في ثاني أقدس مقدساته، ما أطال مسار "التحرر" الذي كاد أن ينجز آنذاك، وذلك خصما من العمل على مسار "الوحدة" الذي لم يطرق أصلا حتى الآن بأية صورة كانت، فيما أتت الطعنة الثانية لتلك القومية من ظهور تفريعات داخلية فيها والتي شكلت "الناصرية" أحد أبرز مظاهرها وذلك بما تحمله من شخصَنة وذاتية ونقل غير مبرر للأفكار المتفق عليها بين الجميع من الوضوح إلى الغموض، ومن العام إلى الخاص ومن العلمي إلى هوى النفس.
الناصرية: لماذا؟
وبيت القصيد أنني لا أعرف كيف تم نحت لفظ "الناصرية"؟ ولا لماذا؟ ولكن أثق في أنها شكلت طعنة قاتلة للفكر القومي العربي، رغم أنها تبدو لأول وهلة كإبنة شرعية له وبالتالي فإنها لا يمكن لها إلا أن تدعمه، ورغم أنه من غير المعلوم حتى هذه اللحظة ما طبيعة هذا الفكر ولا مبادئه؟ ولا مواطن تميزه؟ ولا بماذا ينادي غير ما تنادي به دعوات الوحدة العربية؟ وما جدوى اختراقه للإجماع القومي؟ لكن كلما نحاول البحث لا نجد إلا طنطنات وتهويمات وشعارات لا ترقى إلى مستوى المنهج.
ولا تقتصر خسارة الفكر القومي من ظهور الناصرية عند ذلك فحسب، بل امتد الأمر أيضا إلى أن بعض الانتهازيين المتعصبين لم يرتضوا بالتوقف عند تفريع الفكر القومي وتجزئته ولكن حاولوا جعل الناصرية بديلا عنه وجعلوا عبد الناصر وصيا على الأمة العربية ، ما تسبب بشكل أو بأخر في تحول أعداء عبد الناصر - وهم كثر داخل مصر وخارجها -  إلى أعداء للفكر القومي العربي، كما حدث مع التيارات الإسلامية، على خلاف قناعتها الأصلية بأن الوحدة العربية هى مجرد مرحلة لتحقيق الوحدة الإسلامية، والسبب في هذا العداء يعود في الأصل لمعاداة عبد الناصر للإخوان المسلمين بعد احتجاجهم علي الانقلاب على الرئيس محمد نجيب عام 1954 فأعدم قياداتهم ونكل بهم أشد تنكيل، وكما حدث مع بعض النظم الملكية التي كان يمكن إشراكها في بحث سبل وحدة الأمة عبر الدعوة للوحدة الكونفدرالية مثلا بدلا من تحويلها إلى عدو لهذه الحلم العربي.
الناصرية فشلت
المشكلة أن التطبيق العملي للناصرية يؤكد أنها فشلت في كل شعاراتها، فلماذا اجترار الفشل إذن؟
هي فشلت في إقامة وحدة عربية حقيقية - كما حدث في الجمهورية العربية المتحدة- رغم تهيؤ الظروف في كثير من الأقطار العربية لذلك بسبب تولى الحكم جنرالات آنذاك يقولون إنهم يؤمنون بضرورة الوحدة العربية، وتسبب هذا الفشل في تباعد فكرة الوحدة عن التحقق بعدما غيرت الكثير من نظم الحكم قناعاتها.
وأيضا فشلت الناصرية في توحيد الصف الوطني حينما راحت تقصي التيارات الفكرية المختلفة لا سيما التيار الاسلامي، رغم أن هذا التيار تحديدا هو الأقرب أيديولوجيا للفكر القومي العربي - المفترض انتماء الناصريين إليه - وكلاهما يرفض الشعوبية وتقديس حدود سايكس بيكو، وبدلا من تجسير علاقات الأخوة القائمة فعلا مع القوميات الأخرى في مصر جري التعالي عليهم كما حدث في ملف النوبة إثر تهجيرات السد العالي.
سقطت ادعاءات القوة حينما هزمت الناصرية في كل حرب خاضتها وصرنا في ظلها بدلا من تبني الدعوة لتحرير الجزء المحتل من أراضي فلسطين صرنا بحاجة لتحرير أراضي مصر وسوريا وكل فلسطين.
ولما صارت مصر تابعا للسوفيت سقطت أيضا ادعاءات الاستقلال الوطني، وحينما سيطرت مراكز القوى على البلاد والعباد سقطت معها ادعاءات المساواة والقانون وعادت "الباشاوية" لمن هم أحط خلقا من أصحابها الأصليين، واكتظت السجون بالأبرياء فسقطت ادعاءات العدالة، وسجن الكتاب والصحفيين وأعدم أصحاب الأفكار وحملة الأقلام ليحل محلهم حملة المباخر وزوار الفجر.
ناصرية بلا ناصريين
جمال عبد الناصر قامة كبيرة في تاريخ مصر، شئنا أم أبينا، وشخصية أثرت في التاريخ بشكل كبير سلبا وإيجابا، أخفق في كثير من الأشياء ونجح في كثير من الأشياء، فالكثيرون ما زالوا يذكرون له السد العالي وقوانين الإصلاح الزراعي والضمان الاجتماعي وغيرها، لكن ما شوه صورة عبد الناصر أن الكثير ممن يتمسحون بردائه سيرتهم الذاتية والمهنية لم تكن بيضاء.
ولقد وصلت الأحزاب الناصرية من البؤس أنها صارت ملاذا لمن لا فكر له، ولا وعي عنده، وصار كل ساقط ولاقط ودعي وعديم وعى يتمسح بردائها، رغم أن عبد الناصر نفسه ما زال يحظى بحب ملايين من الناس في بقاع الأرض وفي وطننا العربي، وأن هناك كثيرا من المفكرين من بينهم من ينتمون للتيار الإسلامي نفسه يثنون على كثير من أعماله عملا بحكمة مؤداها "من حاول أن يبني وفشل خير ممن لم يحاول أصلا" خاصة في زمن الخيانة الذي نعيشه الآن والذي يقودنا بسرعة الصاروخ إلى الجحيم.
متى يعرفون أن الناصرية وهم من خيال بعض الوجهاء على كثير من الأدعياء؟

اقرأ المقالا كاملا على الجزيرة نت


الأحد، 15 يوليو 2018

سيد أمين يكتب : عن مسألة "اللافتة" في مصر

السبت 14 يوليو 2018
 انبهر مرافقي حينما شاهد يافطات "لافتات" كتب عليها "النصر لصناعة السيارات" موضوعة على مساحة كبيرة من الأرض "المسوَّرة" بحلوان وتساءل: وهل نحن نصنع السيارات؟
فقلت له: مصر يا صديقي دولة متطورة للغاية، ربما هي نظريا أكثر دول العالم تطورا، فلقد حباها الله بعباقرة يصنعون كل شيء من "الإبرة" إلى "الصاروخ"، في كل مجال لكن لا شيء يخرج عن طور "الفانتازيا" إما بسبب تدخل الأدعياء فيها حيث يدخل الغث على السمين فيفسده، أو بسبب فساد السلطة وعدائها للعلم والنبوغ.
نحن اخترعنا الطائرات ومركبات الفضاء والآليات التي تمشي في الأرض وتغوص في الماء وتطير في الجو، صنعنا الوحش المصري الذي يمشي ويسبح ويطير، واستخرجنا الكهرباء من الجاذبية الأرضية ومن الزبالة والماء والتراب والرمال والليمون وحتى البطاطس ومن داخل جسم الإنسان، صنعنا مادة تقوم بتمهيد الطرق وأخرى ترصفها وثالثة تقوم بتكسيرها، ورابعة تمنع وقوع الحوادث عليها، وصنعنا "كبسولات التحرير" التي تضيء مصر بلا وقود، نحن أيضا دولة متطورة طبيا وعالجنا داء الإيدز الذي أعجز أطباء العالم بأصابع "الكفتة"، وهكذا كل معجزاتنا الصناعية. مسألة اليافطة
المهم لدينا هو"اللافتة"، فإذا أردنا أن نصنع شيئا ننجزه بمجرد الانتهاء من تلك اللافتة، وكلما كبرت "اللافتة" كبرت معها عظمة الاختراع، فنحن لدينا مصنع للسيارات لم ينتج سيارة واحدة، ولدينا مصنع طائرات لم ينتج طائرة واحدة، وأنتجنا في الستينيات صواريخ بالستية عابرة للقارات بالكاد تسقط على بعد بضعة كيلو مترات من موقع إطلاقها، ولدينا مفاعل ذري في أنشاص يوجد فيه الكثير من الناس والأشياء إلا الذرة، وبدلا من المفاعلات الذرية الحقيقية نحن اخترعنا "مفاعلات الشمس"، ولدينا مركز لعلوم الفضاء ليس فيه "تليسكوب" ولا حتى طائرة ورقية، وقمنا بشراء قمر اصطناعي ولما ساهمنا بجزء من خبراتنا العميقة في إطلاقه تاه في الفضاء الفسيح وذهب من دون حتى أمل في الرجعة، وأيضا لدينا مصنع للهاتف المحمول أول ما ترى من إنتاجه حين فتحه عبارة "صنع في الصين"، ولدينا مصنع للتلفزيون والإلكترونيات ظهر فجأة واختفى في ظروف غامضة، وصنعنا روبوتا معجزة عرض في لقاء رسمي مع السيسي يغني على أنغام أغنية "جانجام ستايل " ثم اكتشف الناس أنه لا الروبوت ولا الأغنية من مصر.
مسألة اللافتة لم تتوقف في مصر عند حدود الصناعة والاختراعات، ولكنها امتدت أيضا إلي إنفاق مئات المليارات من الدولارات في مشروعات عادة ما يتم إضفاء صفة القومية عليها، ومنها مثلا مشروع "توشكى" الذي هللت له السلطة ثم انتهي به الحال إلى العدم، وهكذا مشروع الظهير الصحراوي والألف قرية والحزام الأخضر ومزارع النوبارية والصالحية والفرافرة ومشروع تنمية الساحل الشمال الغربي وظهيره الصحراوي والقرى التكنولوجية ومحطات الطاقة الهوائية والشمسية ومنخفض القطارة لتوليد الكهرباء، وإعادة تقسيم المحافظات ومشروع شبكة الطرق والمليون ونصف المليون فدان والمليون وحدة سكنية وتفريعة قناة السويس التي تحولت إعلاميا إلى قناة جديدة ولا جدوى منها سوى رفع الروح المعنوية للشعب، وهناك العاصمة الإدارية الجديدة التي هي في الواقع نفذت بالفعل ولكن كمدينة حصينة لخدمة رجال ومؤسسات الحكم ولتكون بعيدة عن متناول الشعب المصري.
وامتدت المسألة إلى الشعارات فطالما أنت هتفت "تحيا مصر" أو رددت نشيد الصاعقة أو النشيد الوطني فأنت إنسان وطني ولا يهم بعد ذلك مسلكك، يمكنك أن تسرق وأن تختلس وتنصب وتنهب وتقتل، ولا يمكن لأحد أن يدينك.
سلوك شعبي
ولأن الناس على دين ملوكهم امتدت مسألة "اللافتة" حتى الشعوب، حيث صار الكثير من أصحاب المحال التجارية يعددون في اللافتات التي يضعونها في حوانيتهم مهاراتهم أو البضائع والخدمات والحرف التي يقدمونها، ولكن سرعان ما تكتشف أن ثلاثة أرباع ما كتبوه في تلك اللافتات مجرد "تفخيم" ويأتي على سبيل المثل الشعبي "أبو بلاش كتر منه".
ويجب هنا أن نذكر أن أحد محافظي القاهرة فيما قبل ثورة يناير – أعتقد أنه عبد الرحيم شحاتة - اهتم بمكافحة هذه الظاهرة وراح يصدر قرارا بسحب ترخيص أية منشأة أو محل تجاري يكتب في اللافتة المدونة على حانوته خدمة أو بضاعة لا يقدمها.
كما نجد هناك أحيانا الصحفي الذي لم يكتب حرفا، والمهندس الذي لم "يهندس" أبدا، والمحامى الذي لا يعرف القانون ولم يقف في محكمة، بل وجدنا وزيرا راسبا في الإملاء، وقاضيا كانت في الحقيقة راسبا عندما كان في مرحلة الثانوية العامة وهكذا، ومع ذلك كل هؤلاء لا يكتفون بكتابة توصيفاتهم المزورة بل يضيفون إليها المشوقات التي تعزز نبوغهم، كالصحفي الذي هو محلل سياسي وأديب، والمهندس صاحب الشهادات العالمية، والمحامي الدولي وغير ذلك.
وبصورة هزلية، قد تجد أيضا أصحاب عربات الفول والكشري والحمص والترمس والكبدة وغيرها مع تواضع شأنها يكتبون عليها عبارات تضخم منها.
فكما أهملت نظم خير أجناد الأرض كل نبوغ يظهر في بر مصر بل وحاربته وراحت تغتصب العبقرية لنفسها، فصنعت وابتكرت وكشفت أشياء لا حصر لها ولكنها كلها "افتراضية" تغلب عليها صفات "الهزلية"، لا تتخطى حقيقتها حبر اللافتات أو مانشيتات الصحف التي كتبت عنها، مع كثير من الرقص والاحتفالات.
انتقل الداء إلى الشعب المصري فتحولت السياسة والأحزاب والحركات والجماعات والشركات والنقابات والمحال في مصر إلى مجرد لافتات.
لقد تحولت مصر الى لافتة كاذبة.