فوجئ اللبنانيون بالجريمة النكراء التي حدثت بانفجارات في الآلاف من أجهزة الاستدعاء اللاسلكية الشهيرة بـ”البيجر” بشكل متزامن في وجه مستخدميها مما تسبب في استشهاد عدد من الأشخاص وإصابة الآلاف حالة بعضهم خطرة، وإثر ذلك توجهت الأنظار في لبنان وخارجها نحو بيت الدسائس والمؤامرات “تل أبيب” بالضلوع في الجريمة.
والحقيقة أن لإسرائيل تاريخًا طويلًا في تنفيذ الاغتيالات من خلال تلغيم وتفجير الهواتف، وكان أشهر من اغتالتهم بهذه الطريقة الشهيد القسامي المهندس يحيى عياش، إلا أن الفارق هذه المرة أن المؤامرة نُفذت ضد كثيرين منهم لا علاقة لهم بكتائب المقاومة.
تساؤلات مهمة
الواقعة تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول كيفية تمكن إسرائيل من تلغيم تلك الأجهزة وبهذه الأعداد الكبيرة؟ وكيف كان يستخدمها أصحابها قبل ذلك دون اكتشاف أمرها؟
أما التساؤل الأخطر فهو أنه إذا كانت إسرائيل قد استطاعت تلغيم تلك الأجهزة وتفجيرها، فإن هذا يعني بالضرورة تمكنها من فك شفراتها ورسائلها، مما يضع منظومة حزب الله العسكرية التي يقال إنها الأكثر استخدامًا لهذه الأجهزة في اتصالاتها الداخلية في وضع الانكشاف أمام إسرائيل جزئيًّا أو كليًّا، ما يوجب على الحزب إعادة هيكلة منظومته الأمنية، وأخذ الحيطة والحذر الواجبَين.
والحيطة هنا لا ينبغي أن تشمل المواقع والمنظومات العسكرية والأمنية فقط، ولكن أيضًا الأشخاص المصابين لأن انكشافهم سيحفز المنظومة التجسسية الصهيونية على تعقبهم كقادة ميدانيين محتملين في حزب الله والمقاومة، حتى لو لم يكونوا كذلك، وبالتالي تستهدفهم وتستهدف ذويهم بالاغتيالات.
كما أن هناك استنتاجًا آخر يبدو بديهيًّا، وهو أنه لا يمكن أن تكون تلك الأجهزة “غير المتطورة” قد وصلت إلى أيدي المقاومة بهذه الأعداد دون وجود مندسين على درجة كبيرة من الثقة لديها روجوا لها، برفقة سلسلة من الفسدة والخونة أو حتى قل المهملين والمتساهلين الذين اعتمدوا صلاحيتها.
ولا ينبغي الاكتفاء بالتفسير الذي قدمته صحيفة نيويورك بوست بأن إسرائيل استطاعت التلاعب في شحنة هذه الأجهزة المقدرة بثلاثة آلاف جهاز أثناء استيراد حزب الله لها من تايوان قبل خمسة أشهر، ونجحت في زراعة متفجرات صغيرة زنة 50 غرامًا قرب بطارية كل جهاز فيها.
مع أخذنا في الاعتبار أن الكثير من الهواتف النقالة تنفجر بطارياتها لأسباب تقنية، وتسبب أضرارًا مشابهة لما سببته انفجارات “البيجر” دون أن يكون بداخلها متفجرات صغيرة، مع وجوب الحذر من أن يكون الحديث عن تلغيمها هو محاولة لصرف الأنظار عن وجود تقنية معيَّنة يتم من خلالها تفجير بطاريات الهواتف، وهي الوسيلة التي لو ثبت وجودها لتمكن حزب الله من الوصول إليها والرد على إسرائيل باستخدامها.
البيجر.. ميزات وعيوب
والبيجر لمن لا يعلم هو هذا الجهاز الذي مثّل نقلة نوعية في الاتصالات قبل ظهور الهواتف النقالة، وكان لا يستخدمه سوى كبار رجال الأعمال والسياسيين ورجال الأمن، حيث كان يتيح إعلام الشخص الذي جرى الاتصال به بالأرقام التي حاولت الاتصال به أثناء تنقله مما يمكنه من العودة إلى الاتصال بها من هاتفه الثابت.
ولقد انتهى استخدام هذه التقنية التي تعمل بإشارات “راديو” عام 1994 حينما اكتسحتها تقنية الهواتف النقالة التي مثلت قفزة بعيدة المدى في هذا المجال.
هذه الأجهزة مزوَّدة بمرسلات مدمجة تتيح للمستخدم تأكيد تسلُّم الرسائل والرد عليها باستخدام قائمة من الردود الجاهزة.
وخطورة البيجر الذي جرى تطويره وإعادة طرحه كوسيلة تراسل برسائل نصية، حيث يتم تسلُّم الرسالة وتأكيد تسلُّمها والرد عليها باستخدام قائمة من الردود الجاهزة، أنه مثله مثل الهاتف النقال يمكن من خلاله التعرف على موقع حامله، أو موقع الهاتف الذي حاول الاتصال به، وأن الاتصال به من هاتف ثابت كما كان يحدث قديمًا سيكشف موقعه، مما يعرّض أصحابه للخطر في حالات التعقب والحرب.
في حين أن ميزة التراسل النصي التي جرى تطويرها بالجهاز، واعتماده نظام إشارات الراديو المجانية جعلته مناسبًا للتواصل في المناطق النائية والصعبة التي لا تتوافر فيها خدمة الإنترنت، وهي أيضًا الميزة التي جعلته مقبولًا لدى الجماهير في لبنان الذين يعانون انقطاع الإنترنت والكهرباء لفترات طويلة.
قفزة جديدة
بهذه العملية غيرت إسرائيل قواعد الاشتباك المعمول بها مع حزب الله منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكشفت عن سلاح قتل جديد من أسلحتها المبتكرة التي تتفنن فيها بقتل الأطفال والنساء، وهو السلاح الذي ما كان لها أن تمتلكه لولا استعانتها بالتقنيات الأمريكية المتطورة في مجال الاتصالات، ولذلك يجب على المقاومة أن تفكر بالطريقة ذاتها وتلجأ إلى كل الوسائل الحربية غير المنظورة.
…..
هناك قناعة بأنه كما استفادت إسرائيل من الواقعة وأرضت غرورها، استفاد حزب الله أيضًا منها، فظهر له أحد مواطن ضعفه وهو الآن بلا شك يقوّمه.
https://bit.ly/4e4f2yD