"بعد الغزو الامريكى للعراق عام 2003 قام الحاكم العسكري بول بريمر بفرض أليات جديدة للعمل الاعلامى والصحفى تهدف الى القضاء على الاعلاميين المؤدلجين واحلالهم باتباع له, اوعلى الاقل عزل الوطنيين منهم , وذلك من خلا استراتيجية حولت الصحافة الى مهنة لمن لا مهنة له , وقيل انه قتل قرابة 260 من أصل 900 صحفي مسجلين نقابيا فى العهد الوطنى وفر من فر واعتزل المهنة من اعتزل , فارتفع عدد الصحف من 50 صحيفة الى نحو 700 صحيفة فى العام الاول من الغزو, قيد من خلالهم في نقابة الصحفيين قرابة ثمانية الاف صحفى في عامين فقط, وفي العام الثالث تناقصت اعداد الصحف العاملة الى 130صحيفة فقط فيما تقافز عدد اعضاء النقابة الى 17الف عضو حاليا, ونشرت الصحف أنذاك أن بول بريمر كان يكتب بأسماء بعضهم مقالات تدافع عن الاحتلال الامريكى للعراق وتختلق اكاذيب ضد صدام حسين مقابل دولارات معدودات".
بالقطع عدد كبير من الصحفيين العراقيين شرفاء ومهنيون ولكننى فقط قصدت من هذا التذكير توضيح كينونة هذا الملهم الذى استمد نظام مبارك منه فكرة تعويم نقابة الصحفيين المصريين وجعل معظم منتسبيها "اجراء" وذلك بهدف كسرها وتحويلها من معقل للحريات الى مخفر مدافع عن الاستبداد , بالطريقة التى تحدثت عنها في مقال سابق بعنوان "صحفي بدوافع أمنية".
المشهد الصحفي المذري دفع بعضا من شرفاء الصحفيين الى الانتحاء جانبا ايثارا للسلامة, خشية بلاغ كيدى طائش عادة ما ينسب الى محامين بعينهم, ولسخرية القدر قد يكونون هم أخر من يعلمون بتلك البلاغات, فيصبح الصحفي مدانا لا شك بالتحريض, وهو الاتهام المصلت على رقبة كل صاحب قلم يكتب ما لا ترغبه السلطة, ولا يحرض في الاتجاه الذى تريده ان يحرض عليه, فيزج به في غياهب السجون بموجب القانون كمجرم, بعدما استكثروا عليه شرف الاعتقال.
هناك صحفيين غابوا أوغيبوا عمدا داخل السجون والمعتقلات والمنافي واخرين فصلوا من اعمالهم او توقفت صحفهم قسرا أوطواعية, او لزموا بيوتهم بعدما صار الموت يلاحق الناس بأشكال متعددة والتهم توزع جزافا, وكثير من الصحفيين الان يفكرون جديا في البحث عن بدائل اخري عن العمل الصحفي تجنبا لاهتزازات اسرية قد يسببها لهم هذا العمل المعلق دائما برضا السلطان أو صاحب العمل بل ورضا من يموله , فيما صارالفصل التعسفي عملا شائعا مبررا في حد ذاته وغير مجرم قانونا نظرا لأن عقوبته القانونية لاتكاد تساوى عقوبة مخالفة مرورية , والتى هى في بلادنا هينة للغاية.
والملفت ان خلاصة جهود "التعويم" الهادفة الى احكام القبضة الامنية على المهنة, سواء أكانت تمارس على الصحيفة فتحدد قبول هذا ورفض ذاك للعمل بها , او على الصحفي فتجعله دائما في حالة قلق ولا يجد مجالا لراحة البال من المطاردات الامنية والبلاغات الكيدية وضغوط اصحاب العمل الا بالانحياز لخيارات السلطة, او حتى النقابة التى نجدها تمارس حمايتها النقابية على عضو دون الأخر, وتبكي شهيدا وتشمت في اخر , كل هذا جعل طفيليات المهنة هى من تطفو على السطح, والأنكى أن المهنة ما عادت تعرف إلا بهم نظرا للحفاوة التى يلاقونها في منابر اعلام الدولة.
واستطيع ان اجزم انه لو اختفت او اعطبت او امتنعت اقسام الديسك المركزى والمراجعة في الصحف المصرية عن العمل ليوم واحد فاننا سنجد صحفا لا يمكن قرائتها, لدرجة انه قد اكون مخطئا لو قلت انها ستحتوى على اخطاء املائية ولغوية كثيرة لأن الصحيح هو اننا سنجد كلمات صحيحة بين خضم من اخطاء الاملاء واللغة وايضا المعرفة, وان هذه الاخطاء لا تقتصر على صغار الصحفيين بل تمتد الى كبار الكتاب من اصحاب أعمدة الرأى, لدرجة انه يمكننا احيانا اعتبار ان اقسام المراجعة والديسك هى من تكتب الموضوعات ولكن بأسماء الاخرين.
ومن الاشياء الملفتة في كل الصحف المصرية بعد 30 يونيو هو تعاظم دور المحرر العسكري في الصحيفة لدرجة ان هذا المحرر الذى كان يجب ان يكون مندوب الجريدة في وزارة الدفاع, صار مندوب وزارة الدفاع في الجريدة , بل صار هو صاحب الكلمة الطولى في كل صغيرة وكبيرة , ويحرص رئيس التحرير على استشارته والعمل بتوجيهات سيادته.!!
ليس ذلك فحسب , بل صار هناك "كتالوج" يوصى باتباعه عند كتابة اى مادة صحفية , ومن شأن العمل به ان تقلب الحقائق ويتم تحويل الضحية الى جانى.
كل ذلك اعطى انطباعا– قد يكون مغاليا فيه بما يحوى من تعميم - لدى قطاع كبير من الناس بأن الصحفي المصري كائن انتهازى ينحاز دوما الى مصلحته الشخصية, , فضلا عن انه شخص غير مثقف, ولا تعنيه كثيرا لا قضية المعرفة ولا قضية الحقيقة, وانه وضابط الشرطة ولا اقول المخبر- للترفيع- وجهان لعملة واحدة يؤديان نفس المهمة ويتكاملان بعضهما البعض وانهما واصلان ومتصلان وموصولان.
ويمكننا القول أن قطاعا كبيرا من الصحفيين المصريين يعانون ازمات مالية خانقة لكون الكثيرين منهم بلا عمل اساسا , ولا تأمينات , ولا دخل ثابت الا بدل التكنولوجيا الذى تمنحه لهم النقابة وهو المرهون برضا تقارير أبانا الذى في "لاظوغلى", او على الاقل تسامحه او تغافله عن عدم الانصياع الكامل, ما يدفع بعضهم الى سلوك مسالك مشينة , ولا ينجو من هذه الازمة إلا صحفيو الصحف القومية وصحفيو صحف رجال اعمال الثورة المضادة الذين يدفعون بسخاء والمقابل قطعا معروف.
اما ام الكوارث فهى الصحف الاجنبية العاملة فى مصر والتى تجاوزت نحو5000 صحيفة فمعظم اصحابها لا علاقة لهم بالصحافة لا من قريب ولا من بعيد , ولكنهم يمارسون المهنة من باب الاسترزاق لا اكثر ولا اقل ويقومون بدور المشهلاتية عبر ادعاء صلاتهم القوية بالمسئولين الحكوميين وهو عادة ما يكون ادعاءا صحيحا, حيث يستخدمونهم كمنافذ شعبية للفساد وعقد الصفقات غير المشروعة, فيقومون بتعيين هذا في وظيفة ما او نقل ذاك من مكان لأخر او ترقية هذا وكل ذلك طبعا مقابل أجر كبير, بما يحملونه من كارنية نقابة العاملين بالصحافة والطباعة الذى وصل سعره الأن الى2000 جنيه وصار يحمله السباك والكهربائى.
ورغم ان هؤلاء النفر عادة لا يكونون اعضاء في نقابة الصحفيين ولا يحملون المؤهل الدراسي الجامعى الذى يؤهلهم شكليا للقيد بجداول النقابة , الا انهم سرعان ما يجدون المسالك والثغرات التى تجعلهم يحصلون على المؤهل العالى من اى جامعة خاصة ثم يصبحون اعضاء في تلك النقابة , وما هى الا ايام معدودات ويتصدرون المشهد فيها.
وحينما اقول ذلك لا يعنى هذا ان كل اصحاب تلك الصحف هم من طفيليات المهنة ,فمنهم كثيرون ايضا اعتبروها منفذا بديلا للعمل الصحفي فلجأوا للصحف الاجنبية بعدما تم وضع العراقيل أمامهم للحيلولة دون اصدار صحيفة مصرية.
Albaas10@gmail.com