مع تقزم حجم رغيف الخبز من 150 جراما إلى 90 جراما في مصر، وما لاحق ذلك من نقمة شعبية انطلاقا من مبدأ "عض قلبي ولا تعض رغيفي"، إلا أن آخرين رأوا أن هذا الوزن الذي أعلنوا عنه أيضا لم يلتزموا به، وأن وزن الرغيف قد يصل إلى 60 جراما ليفقد ثلث وزنه المعلن.
وفي الواقع اعتاد المصريون على هذا الأمر وعلى كثير من التعريفات غير المنطقية في حياتهم العامة، وتعاملوا معها ليس فقط كأنها منطقية ولكن أيضا بديهية، وأبرز مثال لذلك تعايشهم مع معايير خاصة بهم اتخذوها دونا عن العالم كله وأدوات قياسه.
فالنصف لدى المصريين ليس أبدا 50 في المئة من قيمة الشيء كما هو الحال في كل العالم، ولكنه قد يصل حتى 75 في المئة منه كما هو الحال مثلا في خصومات تذاكر القطارات والطائرات والمترو، وأحيانا يتجاوز ذلك لما فوق الـ80 في المئة كما هو في تعريفات أجرة سيارات الأجرة و"الخدمات".
كما أن وحدة الوزن "الكيلو" التي يعرفها العالم بأنها 1000 جرام، نراها في كثير من التعاملات في مصر مختلفة أيضا. ففي عبوات السكر والأرز والدقيق التي يتم بيعها على بطاقات التموين، نجد أن الكيلو قد يتضاءل ليصل وزنه إلى ما دون الـ70 في المئة منه. وطال نقصان الوزن في تلك المنتجات حتى تلك العبوات التي تباع في السوق الحرة مع تحسن طفيف، ليصل وزن الكيلو إلى 900 جرام مثلا. وما ينطبق على السكر ينطبق أيضا على مساحيق الغسيل والأجبان والمكرونة، وحتى الكراسات والكشاكيل وغيرها.
ونجد الأمر نفسه يتكرر في عبوات الزيت التمويني التي من المفترض أنها تساوي لترا، أي ألف مليلتر، لكننا نجدها قد تقزمت بشدة لتصل إلى ما دون الـ 700 مليلتر. وينطبق هذا الأمر على كثير من السوائل، حتى الغازية ومياه الشرب.
وبالقدر نفسه، فإن أسطوانة البوتاجاز التمويني سعة 12 مترا مكعبا تناقصت لتصل إلى ما بين 6 إلى 9 أمتار مكعبة فقط من الغاز، وهو ما تسبب في شكاوى كبيرة في القرى خاصة، مع انعدام بدائل هذا المنتج وتخصيص أسطوانة واحدة لكل منزل شهريا بسعر 60 جنيها.
وما طال الأوزان طال أيضا المساحات والأطوال، فيمكنك الآن أن تشتري وحدة سكنية بمساحة 150 مترا مربعا مثلا، ولكن إذا ما قمت بقياسها فستجد أنها لا تتجاوز بأي حال الـ120 مترا. والعجيب هنا بأنهم يبررون هذا النقص بأنه انتقص كتعويض للشارع والمنور والسلم، وكأن هناك عمارة يمكن أن تبنى بدون تلك المشتملات البديهية، والأعجب هنا أن البائع ليس مقاولا جشعا ومدلسا، ولكنها الدولة نفسها التي يجب أن ترعى القانون وتحميه.
شركات المحمول
وامتد مهرجان إهدار المعايير في مصر إلى حجم الدقيقة في خدمات الهاتف المحمول، التي وصلت - بحسب مراقبين - إلى 45 ثانية بدلا من الـ60 ثانية، كما أن هناك شكوكا متداولة بأن الشهر المحاسبي للمحمول لا يصل إلى الثلاثين يوما، ولكنه يتوقف عند 28 يوما فقط. وفي المقابل تحاول شركات المحمول تبرير ذلك وتؤكد أن السبب يعود إلى استخدامات تكنولوجيا الجيل الرابع بما تمتاز به من جودة، أو لأنها تسحب سحبا كثيفا من باقات الرصيد ما يؤدي إلى نفادها بسرعة.
كما أن هناك شكوى من عموم المصريين بأن أغلب شبكات المحمول في مصر ضعيفة للغاية، ولا يصل مدى إرسالها إلى كثير من المنازل والمناطق.
وعلى ذكر المحمول وشبكاته، فإن هناك مسألة يتندر منها المصريون، وهي أنهم حينما يشترون "كارت الشحن" فئة العشرة جنيهات مثلا، فإنهم يشترونه بـ11 أو 12 جنيها، ليجدوا فيه رصيدا لا يتجاوز السبعة جنيهات، ويتساءلون: ما محل فئة العشرة جنيهات من هذا وذاك؟
المهم أن حتى تلك السبعة جنيهات لا تستقر عند هذا الحد، فسرعان ما يتم خصم ضرائب غير معلومة منها، ليصل الصافي ما دون الخمسة جنيهات. وإذا قمت باستخدام خدمة "سلفني شكرا" واستلفت رصيدا بمبلغ أربعة جنيهات، فإن إجمالي ما تتحصل عليه هو 2.50 جنيه.
وكأنها "فرة" أصابت القوم، حيث راح عبد الفتاح السيسي نفسه يقول ذات مرة في خطاب رسمي له، إنه لا يريد أن تكون الاثنان هي حاصل جمع واحد زائد واحد، ولكنه يريدها أن تكون ثلاثة وأربعة وخمسة.
غش البشر
ظاهرة الغش طالت كل شيء تقريبا في مصر حتى البشر، وأصبحت سلوكا معتادا تم تجميله ليعتبر نوعا من الشطارة و"الفهلوة".
الغش في البشر مارسته الدولة أولا ثم انتقل إلى الشعب، فلأن النظام كان بحاجة ماسة إلى أنصار لتبني مواقفه المتدنية في كل المجالات بعد أن نفر منه المبدعون، راح يتبنى أنصاف المواهب ويخدم عليهم إعلاميا ليظهروا كقامات فكرية كبيرة مساندة له، ما أنتج فنانا كبيرا ليس بفنان، وأديبا كبيرا ليس بأديب، وحاملا للقب دكتور لم يمر حتى بالجامعة أصلا، ومفكرا ليس له أي عمل فكري، وداعية لا يعرف إلا ما يعرفه العوام عن الدين، ومثقفا لم يقرأ كتبا، وعالما ليس بعالم.. إلخ.
وحينما أدرك الناس أن الدولة تحتفي بالأدعياء وقليلي الموهبة، راحوا هم يستحسنون النصب فيما بينهم، ما أنتج مجتمعا كذوبا فاسدا، كل معاييره مختلة.
وبقي أن نقول؛ إن الغش جريمة لا تتفق مع حضارة أمة مسلمة؛ ضرب الله لها الأمثال في كتابه الكريم بقوم سيدنا شعيب الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وكل الشواهد تؤكد أن المجتمع المصري الفاسد هو مطلب مشترك لنظم الحكم الاستبدادية، ومن يديرها في الخارج من القوى الاستعمارية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق