الأربعاء، 15 يناير 2025

ينابيع الحكمة تتدفق من غزة - بقلم :سيد أمين

 


حتى جلل الأمور لا يخلو أبدا من حكمة.

أوشكت الحرب أن تضع أوزراها بعدما فتكت الضباع الغريبة بغزة طوال 16 شهرا كاملة، خلالها شخصت العيون نحو عواصم العرب المعقود عليها الأمل في التحرك ورد الظلم بما لديها من قوة في الجيوش والعتاد والعدد، أو في المال والثروة والمدد، لكن خابت آمال الآملين حينما لم يجدوا من المأمول فيهم سوى تخاذل وجعجعة، وحديث في الكواليس أيدته شواهد الواقع عن تواطؤ مع المعتدي، هنا أتتنا العظة من أفقر دول العرب وربما العالم، وهما دولتان تقفان على شفا الإفلاس والمجاعة، حيث هبّ فصيلان من شعبيهما لبث الحياة في هذا الأمل ورد المظالم عن المظلومين دون اكتراث بالعواقب.

حكمة عابرة للجنس والدين

بل أتتنا العظة من غير ذي صلة بالإسلام، حتى وجدنا أبسل من يدافع عن أهل غزة من اليهود أنفسهم، إذ تحدوا الحظر المفروض في البلدان التي يقيمون فيها على مظاهر الاحتجاج المؤيدة للحق الفلسطيني، وتظاهروا ضد إجرام من يحملون نفس اعتقادهم، ومنهم من سجن مثل “صوفيا أور”، ومنهم من منع دخول الكيان  مثل أربيل غولد، كما وجدنا المسيحي يعتصم في الميادين والجامعات، ويخسر عمله، والطيار الذي يشعل النار في نفسه ليلفت انتباه ساسته لفجاجة جريمة صمتهم وتواطئهم اتجاه هذه الإبادة والوحشية، كما فعل أرنيل بوشنيل.

حكمة عابرة للقارات

وعبرت الحكمة كذلك القارات والمحيطات الشاسعة لتؤنس قلوب خائفة تخلى عنها الجار وذو القربى، وذلك في صورة المواقف الشجاعة لحكومات عدة في أمريكا الجنوبية قطعت علاقاتها مع الكيان.

كل ما حدث كان فيه حكمة حتى إن ملياري مسلم موزعين على 56 بلدا في العالم لم يجرؤ أي بلد منهم على اللجوء إلى المحاكم والهيئات الدولية لمقاضاة الجاني وتعريته أمام التاريخ، في حين جاءت الشجاعة من بلد لا تجمع الضحية به سوى روابط وفيض من مشاعر الإنسانية الصادقة كتلك التي تتملكها حكومة جنوب إفريقيا.

 حكمة الحصار الإعلامي

ومن الحكمة أيضا أن الغرب فرض حصارا على نشر المعلومات التي تفضح جرائم الاحتلال، وذلك لإمساكه بتلابيب تدفق الأخبار حول العالم وتحديد اتجاهها الأحادي الإجباري من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، وأدواته في ذلك عدة شبكات إخبارية تمثل منفذ المعلومات الأوسع انتشارا، فضلا عن بضعة مواقع تواصل اجتماعي يمكن وصفها بالكونية، لكن كل معاييره انقلبت وتدفقت المعلومات لأول مرة في التاريخ من الجنوب إلى الشمال وعرف العالم الحقائق من خلال فضائيات جادة ذات تقارير موثقة كان أهمها شبكة الجزيرة الإخبارية؛ مما جعل الاحتلال يضعها نصب عينيه ويستهدف مكاتبها بالإغلاق ومراسليها بالقتل.

حكمة الفداء والتضحية

كما قدمت هذه الجولة من العدوان دليلا قاطعا على أن التيار الإسلامي سنته وشيعته هو أكثر التيارات الفكرية في وطننا العربي زهدا وفداء وتضحية، فرأينا قادته يقاتلون جنبا إلى جنب مع صغار المقاتلين رتبة، ورأينا أبناءهم يقتلون مع باقي أبناء الشعب الذي يقتل، ورأيناهم لا يأكلون الطعام لعدة أيام مثلهم مثل باقي أبناء الشعب المحاصر. الجريمة التي ارتكبها الصهاينة المجرمون بينت معدن الأبطال وقدمت شهادة بطولة وإخلاص لهم ولكل هذا الفصيل الفكري ممهورة بختم لا يمحو حبره الزمان.

حكمة التحام الشعب بمقاومته

وكذلك قدم الشعب الفلسطيني شهادة ممهورة بدمه بأنه داعم للمقاومة إلى أقصى مدى ومهما كانت التضحيات، بخلاف ما تزعمه الدعاية السوداء التي تزعم وقوعه تحت الاختطاف من قبل تنظيمات إرهابية مسلحة، بدليل أنه توافرت له كل أسباب التمرد الناجح لكنه فضل الموت على الإقدام على هذا العار.

حكمة الأفعال لا الأقوال

ومن بين هذا المروج الواسعة من الحكم تتجلى الحكمة الرئيسية في أن الحرب الأطول والأكثر شراسة مع هذا الكيان الغاشم لم تكن بينه وبين واحدة من دول الوطن العربي أو حتى العالم الإسلامي ذات الجيوش والاستعراضات والعضلات، ولكن مع فصيل أو بالأحرى عدة فصائل محاصرة ومحرومة من كافة تجهيزات الدعم والإمداد، بدءا من السلاح حتى الطعام والماء، ويجري تعقبها وعرقلتها استخباريا من الصديق قبل العدو.

إدانة نادرة

ومن الحكمة أن إسرائيل التي عربدت طوال تاريخها القصير وارتكبت جرائم الإبادة في جميع معاركها ضد الشعوب العربية، مثل قانا وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، ودفنت الجنود المصريين أحياء، ونجت من إدانة مؤسسات العدالة الدولية لأن انهزام خصومها السريع مكنها من امتلاك مسرح الأحداث لتخفي آثار جريمتها؛ منعها صمود شعب غزة ولبنان من فعل ذلك هذه المرة.

والغريب أنه حينما تولى بطرس غالي أمانة الأمم المتحدة نجح في إحراز هدف إسرائيلي في مرمى الشباك العربية حينما ألغى قرارها السابق باعتبار إسرائيل دولة عنصرية.

حكم المستقبل

هذه ضروب ربانية من الأمثال والحكم عشناها وحري بنا استخراجها من بين جملة الحرائق المشتعلة حولنا، وعلينا أيضا استنباط أخرى قد يسوقها إلينا المستقبل.

من تلك الحكم مثلا أن المقاومة رغم شلالات الدم التي فرضتها إسرائيل والتواطؤ الغربي والعربي معها على حاضنتها المدنية، وفي ظل أكثر حكومات العالم تطرفا سواء على المستوى الإسرائيلي أو العالمي والأمريكي بعد فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة؛ ما زالت تفرض معادلتها، وقد حقق ذلك توازنا مع قوى الاحتلال يجعلها إلى النصر أقرب في نهاية المطاف.

***

لقد أغنت إسرائيل بإجرامها الأجيال القادمة عن الحاجة لإثبات أنها كيان إرهابي، كما أغنت المقاومة بصمودها وتضحياتها عن إثبات أنها تجاهد وتقدم التضحيات لله والوطن لا غير.

المصدر : الجزبرة مباشر

الجمعة، 3 يناير 2025

“البعث” بين العراق وسوريا.. المنهجي والمحتال - بقلم :سيد أمين

 


بعدما ألهب حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق في العقد الأخير من القرن الماضي حماسة الجماهير العربية بتحديه غير المسبوق عربيا للتجبر الأمريكي، وصموده وصمود جيشه، وتضحياته وتضحيات قياداته متمثلة في شخص الرئيس صدام حسين، جاء حزب البعث في نسخته السورية ليلقي بكل هذا المجد في مزبلة التاريخ.

وقائع الأحداث أثبتت وجود فارق كبير بين النسختين، وهو الفارق الذي جعل النسخة العراقية تعتبر النسخة السورية خائنة لمبادئ وأفكار الحزب الرئيسية بشكل كامل، بعدما تميزت بلونها المذهبي المنحاز لتعلية وترقية أبناء طائفة دون غيرها ينتمي لها من يحكمون -وهم الذين لا تزيد نسبتهم على 17% من عدد السكان، وفي إحصاءات قديمة تبلغ نحو 10% فقط- في كافة مناصب الدولة الحساسة، في حين أن التمييز على أي أساس مذهبي أو ديني أو عشائري مجرم في فكر حزب البعث.

وتعد مسألة الوحدة العربية هي الهدف الأسمى في فكر البعث، وهو ما يوجب تشجيع التواصل بين الشعب العربي في الأقطار العربية المختلفة، إلا أن البعث السوري رفض الدعوات المتكررة التي أطلقها نظيره في العراق للوحدة بين البلدين، بل إنه جرم تواصل السوريين مع نظرائهم العراقيين، واعتبر ذلك خيانة عظمى تستحق الموت.

كما أن عدالة توزيع الثروة وهي من المبادئ الجوهرية التي لفتت انتباه المواطن العربي بشدة، طبقتها النسخة العراقية بشكل مدهش حينما عاش العراقيون رفاهية اقتصادية كبيرة رغم ظروف الحرب والحصار التي مرت بها البلاد، وكان قيام الحزب بفتح العراق على مصراعيه للعمال العرب مقدما لهم حوافز مالية مغرية تطبيقا عمليا لنظرية مال العرب للعرب، إلا أن النسخة السوري المشوهة اهتمت فقط بثراء الطائفة وأهل الحظوة بينما يموت ملايين السوريين جوعا وبردا.

مواجهة التحديات

وحينما فرضت التحديات على النسخة العراقية أيًّا ما كان صوابها أو خطؤها خاضتها وتحملت نتائجها، حتى لو كانت المواجهة المباشرة مع قطب العالم الأوحد أمريكا ومواليها، أما النسخة السورية فلم يمر يوم واحد عليها بعد الثورة السورية 2011 أو قبلها إلا وتلقت الضربات من إسرائيل، ولم يكن ردها إلا إنشائيا لتبرير الهروب من المسؤولية.

ولما حدثت الثورة وسواء أكانت مؤامرة كما رآها البعض، أو ثورة تلقائية حقيقية، كان هناك طريقان للحل، الحل الدبلوماسي وهو ما يقدمه الحاكم الوطني الذي يضحي بكرسيه أو حياته من أجل إنقاذ بلاده، والحل العسكري الذي يضحي فيه الحاكم بكل شيء من أجل أن يحتفظ بكرسيه ويحفظ امتيازات عشيرته، فاختار الأسد الحل الثاني فخرب سوريا وشرد شعبها، وبقي هو على تلها.

ومع أن المؤشرات والتسريبات تتحدث عن خيانة بشار لروسيا وإيران وحزب الله، وهم أصحاب الفضل في بقاء نظامه المنهار، وذلك بصمته وامتناعه عن الرد على كلمة الرئيس الأوكراني في القمة العربية 2023 في الرياض التي هاجم فيها روسيا، وعدم اتخاذه أي ردّ يذكر عقب اغتيال حسن نصر الله وقاسم سليماني وغيرهما من رجال إيران في سوريا، فإن أباه كان السابق في هذا المجال إذ خذل البعث العراقي والقوميين اللبنانيين.

مساندة العدوان

النسخة السورية بزعامة الأسد الأب أبدت موقفا سلبيا للغاية من العدوان الأمريكي على العراق، بل كاد موقفها يكون منحازا لأمريكا، تماما مثلما فعلت حينما وقفت مع إيران في حرب السنوات الثماني، كل ذلك رغم ما قدمه العراق لسوريا وصده الهجمة المضادة التي شنتها إسرائيل عليها أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وذلك حينما قاد صدام حسين شخصيا لواءين عراقيين نجحا في إنقاذ دمشق ودحرا الجيش الصهيوني الذي كان يقف على بعد بضعة كيلومترات منها، في حين كان الأسد قد فرّ هو وجيشه إلى اللاذقية حيث تتمركز طائفته تاركا العاصمة لقدرها.

ومع أن اللواءين العراقيين أبيدا عن بكرة أبيهما، فإن صدام حسين عاد إلى العراق ليقوم بتعبئة ثلاثة ألوية أخرى وكان هدفها تطوير الهجوم ليشمل تحرير الجولان المحتل، إلا أن الصدمة كانت في قيام الأسد بمنعها من عبور أراضيه وراح يتهمها بأنها تريد احتلال دمشق وليس تحرير الجولان، بل وسحب قواته من الجبهة السورية مع الجولان المحتل إثر مفاوضات غامضة مع أمريكا ونقلها إلى حدوده مع العراق، مع دفع الجيش العراقي إلى التراجع!

ولا ننسى طبعا أن النسخة السورية من البعث وقفت عسكريا مع أمريكا أيضا في حرب الخليج الثانية عام 1991، مع أنه بعيدا عن صوابية ذلك أو عدمه كان يجب عليها اتخاذ مواقف مغايرة تماما.

غزو لبنان

تعمقت الأزمة الفكرية عند البعث السوري إلى حد جعله يتخطى منطلقات يعتبرها من مبادئه الأساسية، وهي أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة المحورية، وذلك حينما رأينا الجيش السوري يغزو لبنان عام 1976 بدلا من تحرير الجولان، ويقود بمشاركة جيش الكتائب الماروني المسيحي المدعوم إسرائيليا الحرب على منظمة التحرير الفلسطينية والحركة التقدمية اللبنانية التي يتزعمها وليد جنبلاط، اللذين كانا قد نجحا في تحرير غالبية لبنان من القوى المتحالفة مع تل أبيب، فقتل منهم بضعة آلاف ومكن المليشات المارونية من إعادة تموضعها وتسلحها.

هناك خطايا واسعة لنظام بشار الأسد لعل منها استخدامه القوة المهلكة ضد الاحتجاجات التي نظمتها الطائفة السنية والتيارات الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين في مدينة حماة 1982 التي قتل خلالها آلاف الأشخاص في نحو 27 يوما فقط.

لذلك فقد أسقطت أمريكا حزب البعث في نسخته العراقية، وأسقط السوريون حزب البعث في نسخته السورية، وفي ذلك دلالات بيّنة.

المصدر : الجزبرة مباشر

bit.ly/4fGM2wM