عام بعد عام، ينسلخ غرب إفريقيا أكثر فأكثر من العباءة الاستعمارية الفرنسية التي ارتداها قسرا حينا من الزمن، وارتداها عبر وكلاء فرنسا الإفريقيين قسرا أيضا حينا آخر.. تفقد باريس أجزاء من إرثها الإمبراطوري ومصادر قوتها الاقتصادية والسياسية بوتيرة متسارعة وذلك بفقدها مساحات ضخمة من الأراضي التي كانت تعتبرها الحديقة الخلفية لنفوذها الجيوسياسي في القارة السمراء.
أتت الضربة الأخيرة لهذا النفوذ من دولة مالي وتسببت في إجلاء باريس آخر جندي من جنودها الذين أرسلتهم إلى هناك بزعم مكافحة الإرهاب عام 2013 من الأراضي المالية. وما إن تمت تلك العملية حتى قامت حكومة باماكو باتهام القوات المنسحبة في شكوى رسمية قدمتها إلى مجلس الأمن بالتجسس عليها ودعم “الجهاديين” في أراضيها.
ذلك الانسحاب وما أعقبه من اتهام سبب لفرنسا إحراجا كبيرا، خاصة أن قواتها التي انسحبت إلى النيجر، ما إن وصلت إلى هناك حتى خرجت في نيامي مظاهرات شعبية تطالب بجلائها من البلاد أيضا، ولما منعت الحكومة تلك المظاهرات أطلق المتظاهرون حملة توقيعات شعبية لتنفيذ مطالبهم.
وفي العام الماضي تفجرت مظاهرات في دولة بوركينا فاسو تطالب برحيل القوات الفرنسية القادمة إليها من ساحل العاج، مما أجبر تلك القوات على الإسراع في الانضمام إلى قوات فرنسا في مالي.
يأتي هذا الرفض المتنامي للوجود الفرنسي على الأراضي الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى لينسجم مع نفس الرفض للنفوذ الثقافي الفرنسي في بلدان شمال تلك الصحراء كتونس والمغرب، وقيام الجزائر بجعل الإنجليزية لغتها الثانية في البلاد بدلا من الفرنسية.
هذا فضلا عن أن انسحاب القوات الفرنسية الذي تم بناء على تفجر مظاهرات شعبية في مدن شمال مالي تطالب برحيلها وتمهلها ثلاثة أيام للتنفيذ، كان في حد ذاته إهانة لباريس التي تزعم أن وجود قواتها في بلدان إفريقيا جاء تلبية لرغبة الشعوب الإفريقية.
قصة الرحيل
كان للصراع الشديد بين الرئيس المالي بوبكر كيتا المدعوم من قبل فرنسا الذي صعد إلى الحكم عام 2013 في انتخابات وصفتها المعارضة والمنظمات الدولية بأنها مزورة؛ وبين حركة 5 يونيو (تجمُّع القوى الوطنية المدعومة شعبيا) هو أول انهيارات الوجود الفرنسي في مالي.
وقد سرّع ذلك الانهيار ما ترافق معه من تردّ في الأوضاع الاقتصادية والحقوقية واختناق سياسي، واستمرار الاحتجاجات في المدن الرئيسية للبلاد ضد الفساد والغلاء والوجود الأجنبي، مع تنامي العمليات الإرهابية التي كان من المفترض أن القوات الفرنسية جاءت أصلا للحدّ منها، مما عجّل بانقلاب عسكري في 18 أغسطس/آب 2020.
لكن العسكر المتمردين انصاعوا للضغوط الفرنسية وقبلوا بأن يعود الرئيس بوبكر كيتا ليتولى فترة انتقالية مدتها عام، إلا أنه قبل أن يمر ذلك العام قام عسكريون بقيادة العقيد عاصمي كويتا بالانقلاب مجددا على “كيتا” في 24 مايو/أيار 2021، وتحالفوا مع قيادات حركة 5 يونيو المناهضة للوجود الفرنسي في البلاد.
ترافق ذلك مع إحداث تغييرات عميقة في بنية القوات المسلحة المالية تهدف لعزل كبار الضباط الذين لا يرون أي غضاضة في التبعية لفرنسا، ليحلّ محلّهم آخرون من صغار الضباط الذين يحملون نزعات وطنية استقلالية.
البديل الروسي
لكن للأسف، هناك اتهامات بأن عمليات التخلص من النفوذ الفرنسي في إفريقيا لا تتم لصالح الاستقلال بل لصالح إيجاد موطئ قدم لروسيا في إفريقيا، وهو أمر -إن كان صحيحا- لا يحمل ألمًا مضاعفا لفرنسا وحدها، بل لحلفائها الأوربيين والأمريكيين أيضا.
هذا الاتهام تصر عليه فرنسا ربما رغبة في استدرار تضامن الأمريكان والحلفاء الأوربيين معها، وحثهم على استعمال نفوذهم لدى الدول الإفريقية من أجل العمل على إبقائها هناك.
لكن مع ذلك هناك شواهد تدعم صحة هذا الافتراض، وهي أنه في السنوات الخمس الماضية وحدها أبرمت روسيا عدة اتفاقات عسكرية مع مالي والنيجر وإفريقيا الوسطى وموريتانيا، لتفتح تلك الاتفاقات سوق السلاح الروسي أمام هذه الدول.
ولم يتوقف الأمر عند مجرد فتح أسواق الأسلحة فحسب، بل تخللتها أيضا اتفاقات تتعلق بنشر قوات فاغنر كما حدث في إفريقيا الوسطى وليبيا، وهي قوات تحرص الحكومة الروسية في المناسبات العامة على اعتبارها تابعة لشركة خاصة لا تمثل روسيا، في حين تؤكد كل ممارسات تلك القوات أنها ممثلة لحكومة موسكو.
وقد كشفت وثيقة عسكرية ألمانية أن قوات ألمانية تابعة لبعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة رصدت عشرات من أفراد قوات أمنية يُفترض أنها روسية في مطار جاو بشمال مالي، وهو نفس يوم رحيل القوات الفرنسية.
انهيار نظام فوكار
كل الأدلة تؤكد أن إفريقيا تعمل بشكل حثيث على إكمال خلع العباءة الفرنسية والتخلص نهائيا من النظام الذي أنشأه جاك فوكار عام 1962 بتكليف من الرئيس الفرنسي شارل ديغول حول صياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في إفريقيا، مما جعل البعض يعتبر فوكار “مهندس الاستعمار الفرنسي” الحديث لإفريقيا.
وهو النظام الذي قام على إبرام فرنسا عقودا سرية أو معلنة مع حكام الدول الإفريقية تحميهم من الانقلابات العسكرية وتضمن سلامتهم وعائلاتهم مقابل مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الثروة المعدنية والنفطية التي تتمتع بها القارة السمراء، وهو ما يفسر وجود آلاف من الشركات الفرنسية في كافة المجالات تسيطر على الأوضاع الاقتصادية في أغلب بلدان غرب إفريقيا.
لكن تمادي فرنسا في امتصاص ثروات الدول الإفريقية في حين يموت الشباب الأفريقي غرقا في البحر المتوسط لكي يأخذ الفتات من ثرواته التي استحوذت عليها باريس، جعل فكرة الخلاص تختمر في العقول. لأن جحا أولى بلحم ثوره.
تابع المقال
لتخطي الحجب | https://ajm.me/6nhrgw