الخميس 25 يناير 2018 18:49
يعتبر النظام العسكري الحاكم في مصر أن زيادة عدد السكان هي من أكبر معوقات التنمية، وأن "طوفان الناس" يحول دون أن يتمتع المصريون بمحدثات التنمية، فيما يري مفكرون غربيون مثل الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي أن هذا العامل من أكبر العقبات التي يواجهها الغرب في إخضاع مصر التام للإرادة الغربية.
يأتي ذلك مع أن دولة كاليابان مثلا تقع على ثلث مساحة مصر الجغرافية، نفس حجم الدلتا تقريبا، وعدد سكانها أكثر من ضعف عدد سكان مصر، وهزمت بضربة نووية مروعة وفريدة، لكنها مع الإدارة الرشيدة حجزت لنفسها المقعد المتقدم بين الأمم.
لقد فتحت التصريحات التي أطلقتها منذ بضعة أشهر وزيرة التضامن الاجتماعي في نظام السيسي حول خطة "خفض خصوبة المصريين" النقاش طويلا حول مشروعية تلك الخطوة وجديتها خاصة أن وزير الصحة أكدها في أغسطس 2016 وسبقته وزيرة السكان في يونيو 2015.
فيما يجزم الخبراء أنه بإضافة مواد كيميائية معينة إلى مياه الشرب أو المواد الغذائية، فإنها ستعمل على الإصابة بالعقم أو حتى الأمراض الفتاكة، بنفس الطريقة التي يتم بها أحيانا إضافة زيوتا معينة إلى الأطعمة في المعسكرات الشبابية للحد من الغرائز.
ومع تكرار حوادث الغرق المريب لمراكب محملة بمواد خطرة في مياه النيل كان أشهرها غرق مركب عسكري قرب مدينة قنا جنوبا محملا بالفوسفات وبه نسبة عالية من الكاديم واليورانيوم في ابريل 2015، وغض النظام الطرف عن تحويل النيل إلى مصب لمخلفات صرف معظم المصانع "الحكومية" المطلة على ضفتيه على امتداد مصر.
كما أن ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة التي تفردت بها مصر وانخفاض متوسط أعمار المصريين لنحو 57 سنة مقارنة بنحو 100 سنة للمواطن الياباني بحسب تقرير الصحة العالمية، كان تلوث المياه العامل المشترك في مسبباتها، والسؤال هل هناك خطة لخفض عدد السكان بتلويث المياه؟ طبعا لا يمكن تصديق أن هذه الجريمة يمكن أن ترتكبها حكومة من بني جنسنا، لأن الواقع يؤكد أن خطط تسميم المياه هي خطط حربية معتادة ومكررة تاريخيا، المغول والصليبيون فعلوها، حتى النازي الألماني حاول تسميم خزانات مياه لندن والنازي المصري سمم آبار رفح الفلسطينية.
الموت غرقا
لكن الخطر الأكبر على مصر الآن ليس من تلوث المياه ولا حتى من شحها فقط، ولكن من فيضانها خاصة مع وجود تقارير فنية تتحدث عن وجود (تسريب) في جدار السد، محذّرة من وقوع "كارثة"، موضحة بالأرقام والإحداثيات والصور الأخطاء الإنشائية في بنائه، وأنه مع مرور الوقت سيكون معرّضاً للانهيار، مع تأكيد خبراء الجيولوجيا أن السد مقام على تربة بركانية تتكون في معظمها من البازلت سهل التفتيت، وأنها أيضا منطقة أنشطة زلزالية سيساهم تراكم هذا الكم الهائل من المياه في استعادتها نشاطها.
ذلك الخطر هو ما دفع الرئيس السوداني عمر البشير للحديث في 17 أغسطس 2017، خلال مؤتمر صحفي مشترك في الخرطوم مع رئيس وزراء إثيوبيا، من أن احتمال انهيار السد سيمثل كارثة، ونظرا لخطورة الأمر قامت أثيوبيا بفتح تحقيق في تلك المخاوف انتهت إلى نفي وجود هذا التسريب وهو النفي الذي يحمل أيضا إثباتا بخطورة الموقف حال انهيار السد.
وحول ما سيحدث يكفينا أن نقول أنه في سالف الزمان كان حينما يفيض النيل يعصف في سهله حيث يتركز غالبية السكان بكل شيء، فيقتلع الأشجار ويسحق المزروعات ويدمر المنازل ويقتل الكثيرين محدثا كارثة إنسانية مروعة.
كل ذلك يحدث من إجمالي فيض لجزء كبر أو صغر من حصة مصر من مياه النيل، ونقول جزء لأن هذا الفيضان يمثل فقط حاصل أمطار يوم أو شهر من 55,5 مليار متر مربع تحصل عليها مصر طوال العام، والكارثة في أن مصر تحصل على15% فقط منهم من النيل الأبيض وبحيرة فيكتوريا، والباقي من النيل الأزرق وبحيرة تانا في إثيوبيا.
وبحسب المعلن يتسع خزان السد لنحو 74 مليار متر مكعب وفي روايات أخرى يتسع لنحو 100 أو 120 مليار بينهم 14 مليار متر من الطمي.
وإزاء هذه الأرقام فإن انهمار تلك الكمية الهائلة في توقيت قصير محدد من ارتفاع قدره 1890 مترا وبنسبة انحدار شبه حادة تعني طوفانا جديدا يتشابه مع ذلك الذي جاء في قصة سيدنا نوح يتحقق، محطما في طريقه كل شيء وبالطبع أولهم البشر.
ما يعني أن استهداف السد حال امتلاء خزانه بصواريخ أو حتى بهزة أرضية أو ما شابه، سيعني أول ما يعني إغراق مصر وقتل ملايين المصريين، وبالتالي يحدث خفض مفاجئ لأعداد السكان في هذا البلد الذي تميز بالوفرة.
خيارات مرة
وسيكون الشعب المصري آنذاك مخيرا بين خيارين أحلاهما مر، إما الموت من الجفاف والعطش وأما الموت غرقا، فيفاضل هنا بين احتمالات تعظيم نسبة النجاة بين هذه وتلك، فيكون البقاء في الجفاف أفضل من الموت في الغرق، خاصة أن التعامل مع خطر الجفاف والعطش ممكن من خلال تحلية مياه البحر ومياه الصرف الصحي، لاسيما في فترة امتلاء الخزان المقدرة بنحو 7 سنوات، هنا قد يكون توصيل المياه لإسرائيل هي المنقذ الوحيد للشعب المصري عبر إطالة مدة التخزين.
وإزاء هذا الوضع فأن أحاديث الجنرالات المصريين المتواترة مؤخرا عن أن السد سينهار من تلقاء نفسه فيها جانب من الصحة، ولكنها لا تحمل كل الحقيقة التي قد يجهلونها أو يتغاضون عنها، وهي أن انهيار السد قد يسبب كارثة لا تقل خطورة عن كارثة الجفاف، وأن الوقت المتبقي لتفادي هذا الخطر قليلة وهو مرهون بالتحرك قبل امتلاء الخزانات.
وإذا كان الحديث لتفادي خطر الجفاف يتوقف على حجم مدة التخزين التي ستتبعها أثيوبيا وأن إطالة المدة لأكثر من 15 سنة قد يخفف من أثاره على دولتي المصب، إلا أن تفادي خطر انهيار السد وما سيسببه من دمار تبدو بعيدة المنال مهما اتخذوا من إجراءات أمان.
رغم أن قطرة المياه تساوى حياة.. إلا أنها قد تكون قاتلة أحيانا.
...............
سيد أمين
نقلا عن مدونتى على هافنجتون بوست عربي
محاولات بعض القوى في الغرب وأنصارها في الداخل العربي، وتحديداً في مصر، شيطنة البطل الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي، لا تعود إلا لكونه قائداً مسلماً ناهض طموحات الحملات الصليبية، خاصة أن تعبيراتهم التي تنمّ عن كراهيته لا تتوقف على مر التاريخ، وتجاوزت مرحلة النقد الذي ينتقد به أي رجل خلّده التاريخ إلى السب والتقريع، كما يحدث كثيراً من الروائي يوسف زيدان الذي تفرغ في لقاءات إعلامية عديدة لمهاجمة الرجل، ومؤكداً أيضاً أن السيسي كلَّفه بتجديد الخطاب الديني.
زيدان يصف صلاح الدين بأحقر شخصية في التاريخ
يوسف زيدان السيسي كلفني بنشر تجديد الخطاب الديني
يأتي الهجوم على الرجل بدءاً من التعرض له بالسب والتحقير في أغاني الأطفال البسيطة التي كانت متداولة اعتيادياً، إلى الأعمال الأدبية العالمية، وصولاً إلى تصريحات الساسة الإمبرياليين وبعض رجال الكنيسة المتطرفين، انتهاءً بتدنيس قبره ليس على يد صبية لاهين، ولكن على يد قادة سياسيين تاريخيين.
الحرب ضد الرجل في مصر لم تكن أبداً مباشرة وصريحة من قبل كما هي اليوم، بل كانت تأتي في صور أغانٍ للأطفال وأمثال شعبية مجهولة النسب؛ حيث وضع خبثاء أغاني مشهورة كان يرددها قديما الأطفال في صعيد مصر دون وعي منهم بمدلولاتها وذلك انسياقاً وراء القافية الموسيقية، تسخر الأغاني من الرجل وتصمه بصفات الشر، تقول مقدمة إحداها مثلاً: "صلاح الدين الأيوبي ضربته بفردة مركوبي"، أي: حذائي.
وفي الحرب العالمية الأولى حرص الجنرال البريطاني اللنبي الذي قاد الجيش المصري والعربي تحت راية التاج البريطاني ذي الصليب لمهاجمة دولة الخلافة الإسلامية العثمانية التركية وإسقاطها، دخل دمشق وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، فيما حرس قائد الجيوش الفرنسية الجنرال هنري غورو على أن يزور مرقد وضريح صلاح الدين الأيوبي، وأن يضع قدمه فوق شاهده، مردداً قوله: "ها نحن عُدنا يا صلاح الدين".
انظر ما قاله الجنرال اللنبي
ما قاله القائد الفرنسي غورو
كما هاجم رجل الدين والمستشرق أرنست رونان عام 1883 ووصفه في كثير من خطبه بصفات تحطّ من شأنه.
"راجع كتاب الصورة النمطية للعرب والمسلمين في أوروبا - الدكتور منير حجاب- قسم الصحافة بجامعة سوهاج"
الغرب المنصف
ولكن في الاتجاه المقابل، كما حفل المشهد بكثير من الناعقين على الرجل، حفل أيضاً بأضعافهم من المنصفين الغربيين الذين غردوا للرجل، وكسبت مواقفهم احترام المسلمين حول العالم، وأسبغوا على الرجل صفات مثالية لم يسبغوا بها على رجل مسلم قط، فحينما زار الإمبراطور الألماني غليوم الثاني الإمبراطورية العثمانية قُبيل الحرب العالمية الأولى، حرص على زيارة ضريحه بدمشق ووضع عليه إكليلاً رائعاً من البرونز صُنع خصيصاً في برلين احتراماً لإسهاماته في الحضارة الإنسانية، وبقي هذا الإكليل على الضريح حتى دخل الإنكليز دمشق عام 1916 فسرقه الجاسوس البريطاني الملقب بلورانس العرب، بدعوى أنه من الغنائم الحربية وأخذه إلى بلاده.
كما مدح المؤرخ البيزنطي نكتياس خونياتس صلاح الدين ووصفه بأنه كان رحيماً حينما تمكّن من فتح القدس أكثر ما كان الصليبيون رحماء بالمسلمين حين غزوها.
وعن ذلك قال ميخائيل زابوروف، المؤرخ الروسي: إن رحمة صلاح الدين بالمسيحيين كانت سبباً في دخول الصليبيين للإسلام، ودخول صلاح الدين كُتب أساطير التاريخ، وبذات الوصف تقريباً وصفه إدوارد جيبون أحد مشاهير الرومان.
وقال عنه المؤرخ البريطاني هاملتون جب: "يشكل عهد صلاح الدين أكثر من حادثة عابرة في تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري، لقد استطاع أن يتغلب على جميع العقبات لكي يخلق وحدة معنوية برهنت أن لها من القوة ما يكفي للوقوف بوجه التحدي من الغرب".
وهناك آلاف الوقائع في هذا الإطار.
تقييم الرجل
قد يكون للرجل هفوات أو أخطاء أو مطامع خاصة قد لا نعلمها، لكن علينا أيضاً الاحتراز والإنصاف لنقول إنه أيضاً ليس هو بنبي أو حواري أو معصوم أو حتى ولي أو فقيه أو شيخ، بل هو سياسي خضع لإرادة الشعب الذي يحكمه، أو يشارك في حكمه بتحرير كامل التراب الوطني من الاحتلال الاستيطاني الثيوقراطي الصليبي، واتخذ قراراً بمحاربة العدو لا التواطؤ معه على حساب الشعب والأرض والدين كما يفعل ساسة مصر الآن الأولى بالهجوم.
فكثير من مشاهير الغرب كانت عليهم مآخذ سلوكية، ولكن ذلك لم يمنع الغربيين من تبجيلهم -تطبيقاً لمقولة: مَن ليس له كبير فليصنع كبيراً، ومَن ليس له تاريخ فليصنع تاريخاً كما فعلت إسرائيل- من الأدباء حتى الساسة، فمثلاً في مجال الأدب، لم يكن خافياً أن الأديب الإيطالي "دانتي" اقتبس كوميدياه الإلهية من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، في وصف الجنة والنار ورحلة الإسراء والمعراج، وطرحها بشكل مغاير مجدداً بما يتفق مع رؤيته كمسيحي كاثوليكي، ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن "دانتي" وضع النبي الأكرم وأيضاً الناصر صلاح الدين ضمن سكان الجحيم، ولكنه اختصَّهما بمرتبة عليا فيه تضم الشخصيات الإصلاحية الجيدة، التي تعذب فقط؛ لأنها لم تكن مسيحية.
ومع ذلك فصلاح الدين لا هو هذا ولا ذاك، ولكنه خلّد في التاريخ كرمز مقاوم انتزع بيت المقدس من سارقيه وأعدائه وأعاده إلى أصحابه الأصليين في لحظة نادرة في التاريخ ليست صدفة.
ولعله ليس من قبيل الصدفة أن يوسف زيدان لم يكن وحده هو مَن تطاول بالسب على صلاح الدين الأيوبي من أبناء جلدتنا، ولكن هناك للأسف كثير من الكتاب المنتسبين للعروبة والإسلام أيضاً، واللافت أن ما يجمع بينهم جميعاً هو تشكيكهم في ثوابت الإسلام.
ومن أمثال هؤلاء المتطاولين يأتي الكاتب السوري نضال نعيسة، والأزهري أحمد راسم النفيس.
ولعل زيدان بوصفه محرر المسجد الأقصى الذي يتفق مع الصهاينة في نفي وجوده قد سقط سقطة سقطها من قبله الروائي أسامة أنور عكاشة، حينما وصف عمرو بن العاص في 2004 بأنه "أحقر شخصية في الإسلام" وبأنه "أفّاق"
على كلٍّ فالرجل حفر اسمه في التاريخ كصاحب ملحمة الدفاع عن الأقصى، ولن ينال منه سباب انطلق نحوه في فترة انفتقت فيه سماوات الإعلام الرسمي لتخر سباباً في كل ما له علاقة بالإسلام، والمسلمين والرسول والأتباع والصحابة، بل والله تعالى.
...............
الثلاثاء 6 فبراير 2018 17:00
سيد أمين
مما لا شك فيه أننا كعرب ومسلمين نتعرض لحرب ثقافية ضروس تستهدف ضمن أهم ما تستهدف محو هويتنا الثقافية، التي من أهم ركائزها ذلك المزيج الفكري والقيمي المتين والمتجانس الناتج عن انصهار الأعراف العربية الحميدة مع قداسة الإسلام بعد تهذيبه لها لتناسب تلك القداسة، وهو المزيج الذي مكن العرب من أن يقهروا بالإسلام كل قوى الاستكبار في زمانهم، وأن تنصاع الدنيا لصوتهم رغم ما كان فيهم من ضعف وشتات وتشرذم.
ولقد كانت اللغة العربية واحدة من أهم أدوات تلك الثقافة نظرا لكونها أهم أدوات التعبير عن الحضارة بين قوم لا يمتازون عن العالمين إلا ببلاغة لغتهم، خاصة أنها هي من حازت دون لغات الأرض على شرف احتكار التعبير بنص القرآن الحكيم لتعجز فصاحته فصحائهم، وتؤخذ عليهم آية.
الاستعمار واللغة العربية
لهذا كان هدم اللغة العربية واحدا من أهم أهداف الاستعمار بدليل أن المستعمرين جميعا قصدوا أول ما قصدوا في استعمارهم لشعوبنا العربية سحق تلك اللغة التي هى منبع قوتنا وايماننا واستبدالها بلغاتهم القومية ، فراحت فرنسا تفرض الفرنسية في مستعمراتها وكانت المطبعة أهم اسلحتها وكذلك فعل الإيطاليون والإسبان ، وكذلك الإنجليز الذين عينوا قسا اسكتلنديا متطرفا يدعي دوغلاس دانلوب وزيرا للتعليم في مصر ليصدر قانونا سمى باسمه يسعي فيه لسحق اللغة العربية في هذا البلد وجعل الإنجليزية لغة التعليم الوطنية الأولى فيه لولا قيام فدائي باستهداف موكب رئيس وزرائه غالي باشا عام 1910 ما عطل المشروع التغريبي تماما، الذي ساهم في تعطيله أيضا جهل الكثير من المصريين بالقراءة والكتابة أساسا بسبب انصرافهم عن التعليم نظرا لتفشي الفقر.
خطورة اللهجة الدارجة
لقد أدرك أعداء الامة أن الاسلام هو مصدر قوة أمتنا وأن خطورته تكمن في أنه دين مجتمعي يقوي بتحالف قوى المجتمع، وأن فصاحة العربية هي فقط القادرة على التعبير عن مدلولاته المقدسة، وبالتالي كان لابد من هدمها في عقول وقلوب وألسنة ناطقيها.
وكانت اللهجة العامية هى أولى الطعنات وأخطرها التي تلقاها قلب هذه اللغة والتي يعتقد أنها تكونت عربيا كرواسب لتمدد وترامي الأراضي والثقافات التي طالتها الفتوحات الإسلامية، كما أنها تكونت مصريا جراء تعدد لغات المستعمرين الذين تناوبوا استعمار مصر.
ورغم أن استخدام هذه اللهجة بدت مكروهة من الجميع ويجلب استخدامها لصاحبه العار إلا أن يدا غريبة امتدت سرا على ما يبدو للإعلاء من شأن تلك اللهجة وتنصيبها لغة للمجتمع ككل وبدلا من أن تعيش حالة عداء للثقافة والفنون والأدب، صارت هى اللغة المستخدمة فيهما بدعوى البساطة.
الغريب أن تلك اللهجة الدارجة صارت بمفرداتها المبتذلة بعيدة كل البعد عن اللغة العربية كما لو كانت لغة أخرى بديلة لها حتى إنه مع إدامة استخدامها اجتماعيا صارت العربية الفصحى هى اللهجة المستغربة في المجتمع.
تدمير النشء
ولما كان من المفترض أن البلاد تحررت من الاستعمار وهو من كان يفرض لغته علينا قسرا قبل منتصف القرن الفائت، تغير الحال فصرنا نتعلمها وبإسراف أكبر ولكن تحت دعاوى من قبيل أن من تعلم لغة قوم أمن مكرهم وأن مواكبتهم والاستفادة من علومهم واجبة، وما الي ذلك، إلا أنه رغم ذلك ما استفدنا من علومهم ولا أمنا مكرهم ولا حتى تعلمنا لغتهم أو حافظنا على لغتنا.
ولقد لعب الفن والإعلام المصري، وهو إعلام وفن موجه في الغالب، دورا كبيرا في جعل رجال اللغة العربية مثالا للسخرية وإظهارهم في صورة المغفلين التافهين الرجعيين، كما أظهر شخصيات من يتحدثون بلغات غير العربية الأكثر وعيا وعولمة وحداثة من أولئك المتشبثين بالعربية.
ولا يفوتنا الحديث عن أن هناك كتاب تفرغوا تماما لهدم اللغة العربية وقام أحدهم بكتابة كتاب يتهم فيه تلك اللغة بأنها لقيطة.
ولأن الحرب على اللغة العربية هى في الاصل جزء متطور ومتقدم من الحرب على الإسلام، فقد تحول التعليم الأزهري إلى نموذج واضح ومخيف للتسرب من التعليم ومفرزة واسعة لإنتاج المتعلمين الأميين الذين حتى لا يجيدون القراءة والكتابة.
ورغم كل تلك المخاطر إلا أن الأخطر تمثل في تعليم النشء اللغة الإنجليزية حتى قبل أن يتعلموا لغتهم القومية، ونتج عن ذلك الوضع الكارثي أن أصبح الطفل لا يجيد أبسط بديهيات اللغة العربية، بل وكثيرا ما يتم كتابة الكلمات العربية بالحروف اللاتينية على طريقة مستحدثة خبيثة أسمها "الفرانكو أراب"، فضلا عن تداول الألفاظ والمصطلحات الأجنبية في كثير من تعاملات حياة الشباب اليومية وذلك على سبيل الوجاهة" والروشنة" وبالطبع المؤامرة ليست بعيدة.
لغة مقدسة
وليكن معلوما أن اللغة العربية تحمل في معتقد غالبية الشعب الدينية درجة من القداسة بوصفها لغةالقرآن الوحيدة، وهناك عديد من الأحاديث المتداولة والتي لا نعرف مدى صحتها عن الرسول الكريم كقوله "تعلموا العربية وعلموها الناس فإنها لسان الله الناطق" و"أحبوا العرب لثلاث.. لأنني عربي والقران عربي وكلام أهل الجنة عربي" وقوله "حينما خلق الله الخلق اختار العرب ومن العرب اختار بني هاشم ومن بني هاشم اختارني.. فأنا خيار من خيار"
كما روى عن الرسول الكريم أنه سأل ذات مرة الصحابي سلمان الفارسي: أخاف أن تكرهني يا سلمان؟ فأجابه سلمان: كيف أكرهك وأنت رسول الله. فأجابه الرسول الكريم: أن تكره العرب فتكرهني.
لقد بات واضحا الآن أن الحرب على اللغة العربية هي في الأصل جزء متقدم من الحرب على الإسلام.
...............
من المعلوم أن أجواءً سلبية من التشكيك والتخوين سادت -ولا تزال- بين قوى ثورة يناير/كانون الثاني المصرية، وأوصلت المصريين إلى الجحيم الذي يعيشون فيه، وصار نجاح تلك الثورة مرهوناً بزوال هذه الأجواء التي وصلت أقصى مداها بعد الانقلاب العسكري؛ حيث اتسع رتق الانقسام بفعل التداخل المؤثر الذي أحدثته الثورة المضادة في الثورة، ووقفت فوق ميادينها وبنفس شخوصها للأسف.
وراح كل فصيل يُلقي بالمسؤولية على الآخر مستخدماً منطلقاته الدعائية الخاصة، وإن طال التيار الإسلامي واقعياً القسط الأكبر من دعايتها السوداء -خاصة أن وسائل إعلام السلطة ورجال أعمالها هي من كانت تؤدي تلك الوظيفة- وارتبطت به على سبيل المثال تهمة الانتهازية التي أوجزتها عبارة "باعونا في محمد محمود"، وهي التي تحولت إلى مزحة مبتذلة من فرط استخدامها من قِبل كل شارد ووارد، يبرر صمته، وخوفه، ونضوب إنسانيته، أمام الجرائم التي ارتكبت بحق هذا التيار الذي لا يعرف لطريق المكايدة السياسية التي تشيع في مثل هذه الأجواء سبيلاً.
وهى التهمة التي صارت أيضاً تعبّر عن مظلومية الإخوان وليس ظلمهم، خاصة مع حالة القمع الوحشي التي يتعرضون لها، وصمت الآخرين المطبق، وأحياناً تأييدهم لهذا القمع، بل وإيعازهم به.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة أو نمسي من "مطيبي الخواطر" إن قُلنا إن كل قوى الثورة شاركت في تأجيج الانقسام المجتمعي بشكل أو بآخر، بقصد أحياناً أو بسوء قصد غالباً، ورغم ذلك نجزم أن تلك القوى لم تكن هي من خلقت الانقسام، وذلك لسبب منطقي وهو أنه كان موجوداً أصلاً في المجتمع قبل نشأة تلك القوى، بل وفي أكثر فترات التاريخ الحديث انسجاماً.
الانقسام والتنوع
وقبل الخوض في تاريخ الانقسام، يجب الإشارة إلى أن ثمة فارقاً كبيراً بين الانقسام والتنوع، فالتنوع هو عامل "تكامل" مهم من عوامل النجاح الاجتماعي والاقتصادي للدول، ويؤتي ثماره متى توافرت الإدارة الديمقراطية الحكيمة التي تساوي بين حقوق الناس، وتحترم اختلافهم الفكري والعِرقي والمذهبي والديني، ولنا في الهند مثل واضح.
أما لو كانت الإدارة استبدادية، لم تصعد الحكم بطريق ديمقراطي، فإنها تتمسك بقوة بسياسة تحويل هذا التنوع إلى انقسام، بما يضمن لها ولاءً مطلقاً من قِبَل فصيل ما من الفصائل، تحتمي به متى ضاقت عليها الدوائر، وتضحي به متى لزمت التنازلات، وتبرهن عليه إعلامياً، وتحتفظ باستمرار ولائه عبر سياسة إطلاق الفزاعات، ونشر أجواء الخوف والتشكيك، وإقامة سواتر الدخان التي تحجب الرؤية الكاملة عن الجميع، ما يمكنها من ملء الفراغات بنفسها بما يجافي الحقيقة، ولنا في المشهد المصري مثال واضح.
انقسام طائفي
لعله من البديهي والمعلوم أن تكون "فرّق تسُد" هي السياسة المعتمدة لقوى الاستعمار لأسباب كلنا يعرفها، ولذلك سعى البريطانيون إلى إحداث تلك الفرقة بين المسلمين والمسيحيين، والتي بدأت باختيار الخديو، بإيعاز من الإنكليز، لبطرس باشا نيروز غالي -جد عائلة بطرس غالي الحالية- ليكون رئيساً للوزراء عام 1908، وكان ذلك أمراً مستحدثاً على الناس آنذاك أن يتولى حكمهم مسيحي، بينما هم يتبعون وجدانياً دولة الخلافة العثمانية، ولكن لأن ذلك لا يمنعه الإسلام فقبلوه.
لكن ما رفضوه هو أن "بطرس غالي باشا" راح بإملاء من الإنكليز يعين قِساً اسكتلنديا يسمى "دانلوب" وزيراً للتعليم "المعارف"، فأصدر قانونا سمّوه باسمه يحارب اللغة العربية، والأزهر، وعلوم الدين تحديداً، ويسعى لتغريب التعليم عبر جعله بالإنكليزية، وقصره على طبقة "الأفندية" وما فوقهم، وهم الذين يمكن الاستعانة بهم لإدارة المستعمرة الإنكليزية.
وكان رأي دانلوب الصريح أنه "متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يندرج في سبيل الحضارة".
المهم أن المصريين قتلوا بطرس غالي في 1910، وأسقطوا "دانلوب" وقانونه، ولكن بقي الانقسام مستعراً حتى ثورة 1919 التي قامت في الأساس لجبره والتئامه، وينبغي الإشارة إلى أن قانون تعليم "دانلوب" هو ذاته ما يطبق في مصر الآن.
الانقسام السياسي
جددت اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979 الانقسام مجدداً في المجتمع المصري وعمقته على كافة الأصعدة، بين المسلمين والمسيحيين مجدداً؛ حيث أيّد كثير من المسيحيين -غير الرسميين- الاتفاقية ليس حباً فيها فحسب، ولكن أيضاً نكايةً في التيار الإسلامي الذي رفضها بقوة، وأيضاً رغبة في تبريد خلافتهم المستعرة مع الرئيس بسبب أحداث الزاوية الحمراء، بينما كان غالبية المسلمين يرفضونها.
وبين الفقراء والأغنياء؛ حيث أدت سياسة الانفتاح الاقتصادي، وهي أحد تداعيات تفاهمات "كامب ديفيد" إلى إحداث خلخلة كبيرة وإعادة تسكين لطبقات المجتمع.
وطال الانقسام الذي خلفته "الاتفاقية المشؤومة" كل الحيز الثقافي والسياسي والاجتماعي والديني في مصر، وقسمت الناس بين مطبّعين وغير مطبّعين، وما زال تأثيرها التخريبي في المجتمع فعالاً، ويحاول "السيسي" حسمه لصالح "التطبيع"، وأعتقد أنه سيفشل.
انقسام جغرافي
وجّهت إلى نظام مبارك اتهامات واضحة بأنه قسم الناس على أساس جغرافي ومناطقي، وأن مبلغ عنايته كانت بالدلتا دون سواها، فيما أهمل الصعيد وسيناء والوادي، وهو نفسه اعترف بذلك في أواخر عهده.
نظام مبارك فتح الباب لأبناء محافظات الدلتا لا سيما "المنوفية" للترقّي في دواوين الدولة، فكان منهم معظم رجالات الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، وبالطبع اختار منهم أيضاً معظم قيادات الحكم، الوزراء، والمحافظين، ورؤساء المدن وغيرهم.
وخلق ذلك التمييز شعوراً بالغبن لدى أبناء الصعيد، خاصة حينما أذكته الدراما والإعلام وبررته.
وكان موقف نظام مبارك من القضية "العراقية" مثار انقسام جديد واضح وعميق في المجتمع المصري.
ومن الانقسام الجغرافي أيضاً، ما حدث في عهد المجلس العسكري بعد مذبحة استاد بورسعيد الشهيرة؛ حيث راح الإعلام الرسمي يذكي ويساند الهجوم على أهل بورسعيد.
الانقسام الأيديولوجي
الانقسام الفكري موجود على الدوام كـ"تنوع"، لكن أن تدعم الدولة فكراً دون فكر فهذا هو ما يخلق الانقسام.
فقد حرض السادات على "الاشتراكيين" و"الشيوعيين" و"الناصريين" في بادئ الأمر حتى طال تحريضه كل القوى الفكرية بما فيها حلفاؤه القدامى "الإسلاميون".
وحرض مبارك على فصيل من "الإسلاميين" في تسعينيات القرن الماضي وارتكب به مجازر، إلا أن الجديد في نظام السيسي أنه قد حارب فكراً، بل ديناً بأكمله في صورة تحريض على فصيل "إسلامي".
أخطأ ثوار يناير حينما انساقوا وراء خدعة تقسيم المجتمع إلى فلول وثوار، وهي خدعة أريد بها إيهامهم بنجاح ثورتهم من جانب، والتكريس للانقسام الذي يمكن رده في مشهد قادم إليهم فيجعلهم شيعاً وطوائف وهو ما حدث بالفعل.
صنع العسكر كل ما من شأنه تعزيز الانقسام، بدءاً من التعديلات الدستورية التي ثبت أن الهدف من ورائها كان فقط صناعة الانقسام، والتهويل من نتائجه، ثم حولوا الانتخابات البرلمانية إلى انقسام جديد، وكذلك تمت صناعة انقسام حول لجنة إعداد الدستور، وتوالت مهمة صناعة الانقسام حول كل قرار يتخذه الرئيس مهما قلّ تأثيره، وتم تعزيز ذلك بصناعة مشهد "30 يونيو/حزيران"، ثم الانقلاب، ثم التفويض وهو إحدى أبرز مراحل صناعة الانقسام قساوة، ثم فض رابعة وما تلاها وسبقها من مجازر، حتى حظر الإخوان، وما تلا ذلك من تشويه وشيطنة وذبح، واعتبار ذلك من أعمال الوطنية.
بدأ السيسي خطوات صناعة الانقسام في مصر من خلال إثارة أجواء التشكيك من الآخر، وإطلاق الشائعات، والتحذير من المخاطر، وكشف التحالفات السرية الكاذبة، تدعمه في ذلك ماكينة دعائية جبارة جرى تدشينها على عجالة، انطلقت من ميدان الثورة لصناعة الالتباس، وإحكام الشَّرَك حول الثوار.
حرف المفاهيم
وكان حرف المفاهيم عن طبيعتها واحدة من أدوات تلك الصناعة، فالصراع الحزبي الطبيعي على كسب الشارع يسمونه "استحواذاً"، وإذا أحرق أناس مقراً للإخوان فإنه عمل ثوري، ولكن إذا اقترب "إخواني" من سور حزب الوفد مثلاً بسوء فهو عمل "إرهابي".
وإذا وصفت إخوانياً بأنه "خروف" فهذا حق في التعبير يجب أن يصان، وإذا وصف إخواني أحد معارضيه بأنه مأجور أو بلطجي فهو يتجنى عليه، وبذلك يخرج عن القانون، ثم اتسع رتق التفريق رسمياً وإعلامياً إلى حق الحياة نفسها؛ ليتم تعظيم حق الحياة لمن يؤيد نظام الانقلاب بينما تتم الاستهانة به عند من يعارضه.
ورغم أنه من حق الحزب الفائز بالانتخابات تشكيل الحكومة وشغل كافة المناصب الإدارية للبلد، فإنه كان يتم رمي محاولة حزب الحرية والعدالة أن يمارس حقه الطبيعي في الحكم تنفيذاً لنتائج الانتخابات بتهمة "الأخونة".
...............
الجمعة 30 مارس 2018 21:15
الصحفيون المصريون عامة والمحايدون منهم خاصة يعيشون في مصر الآن أجواء مأساوية بكل معني الكلمة، فقد أغلقت أبواب الصحف المعارضة، أو بالأحرى الموضوعية، بالضبة والمفتاح، واقتصرت مهمة الصحفي على مجرد ترديد بيانات ومنشورات أمنية غالبا ما يكون هو نفسه غير مقتنع بمحتواها، ناهيك عن أنه يتوجب عليه أن يقنع الناس بها.
ولأن الحياد الإعلامي الايجابي وعرض الحقيقة في مصر الآن جريمة بكل معنى الكلمة يتم تصنيف مرتكبها بأنه خائن للوطن وممول من الخارج، فقد توجب على على هذا الصحفي في البداية أن يلتزم الصمت تماما ولا يتعاطى السياسة حتى في بيته، ليس خوفا من الاعتقال والحبس الطويل بقضايا جنائية ملفقة فحسب، بل خوفا من أن يموت هو ومن يعول جوعا بسبب عدم وجود مكان يقبل به للعمل فيه حتى لو لأعمال إدارية، لأن صاحب العمل يخشى أنه بتوفير فرصة عمل له يجلب المشكلات الأمنية لنفسه هذا إن كان هو صاحب القرار في أن يقبله في العمل أم لا، خاصة أن غالبية المؤسسات الصحفية والإعلامية مملوكة لشركات تابعة لجهات أمنية تعاقب الناس ليس على ما يكتبون بل على ما يضمرون من أفكار ومعتقدات.
كما أن حالة الصمت المطلوبة يجب ألا تقتصر على ممارسته الصحافة والإعلام وهو حقل عمل الصحفي، ولكن تمتد إلى الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي والأحاديث مع الرفاق والأصدقاء وفي الجلسات العامة والخاصة أيضا.
ولتقدير صعوبة الأمر لك أن تتخيل أن يتوقف الحداد عن الحدادة والنجار عن النجارة والمحامى عن المحاماة والطبيب عن الطب. فمن أين يكسب قوت يومه؟
ولعل الكثير من الصحفيين المصريين سيؤيدونني لو قلت إن كثيرا منهم لديهم الأن أزمة اجتماعية كبيرة جراء فقدان موارد رزقهم بسبب تمسكهم بحرية التعبير، ويتعرضون لضغوط أسرية قاسية تطالبهم بمسايرة موجه "التطبيل" للسلطة.
صراع نفسي
ولأن المعركة في الأساس تدور حول حرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، تطور الأمر فلم يعد الصمت يكفي لتوفير الأمان للصحفي المعارض للسلطة، فيدها تطاله بالعقاب بناء على ما كتب من قبل، بل يجب أن يجتاز تلك المرحلة إلى مرحلة أن ينضم لجوقة مرددي البيانات الأمنية ويقنع نفسه بما فشلوا هم في إقناع أنفسهم به.
والحقيقة أنه من الشائع الآن بين الصحفيين المصريين معاناتهم أمراضا تشبه انفصام الشخصية، يكتبون عكس ما يعتقدون تماما، ويرددون بانكسار بالغ كأي عامل "تراحيل"- مع وافر الاحترام - ذلك بأنه حفاظا على لقمة العيش في بلد يعاني الناس فيه أزمة اقتصادية متفاقمة، ولذلك يكون المحظوظ منهم هو من يعمل في مجالات بعيدة عن الحقل السياسي كالرياضة والفنون والأسرة والطفل وغيرها، بل إن الصحفيين يتنافسون عليها من أجل تخفيف حدة الصراع النفسي الداخلي، رغم أن الإعلام الدعائي لم يتوانى عن إدخال الدعاية السياسة في تلك المجالات حتى في الطبيخ.
الكتابة الجادة
ولم يعد خافيا على أحد أن الكتابة الجادة الأمينة في مصر الآن هي بمثابة نقش على البارود، والكاتب الجاد هو ذلك الراقص على حقل من الألغام وسيكون محظوظا جدا أن رقص بحرية لمدة ساعة واحدة ولم ينفجر فيه اللغم ويقضي على حياته أو يبقيه قعيدا ما تبقي من عمره.
ومأزق الصحفي والكاتب المحترف عامة أن سمعته تتلخص في حياديته، وتجود بقدر صلابته وثباته على مبادئه وابتعاده عن السلطة، وحينما يتنازل عن تلك الصفات تحت أي ضغط يفقد كل احترامه لنفسه قبل أن يفقد احترام قرائه كما انه يصعب عليه عادة أن يتكيف مع أفكار ورؤى السلطة لا سيما لو كانت فاشية.
لقد كان سجل مصر في الحريات الصحفية والفكرية دائما مأزوما، إلا أنه الآن تجاوز تلك التوصيفات تماما، لأنه أمسى سجلا مجرًما يستبيح دم وعرض ومال من يشذ عن المقرر الرسمي، فتواري الإعلامي وحل محله الإعلاني.
ورغم أن الإعلام في الدنيا برمتها إلا ما ندر يتجه إلى الحرية المطلقة فإن المهنة لدينا أصبحت مرشحة للزوال بسبب هيمنة الرقيب عليها وقيامه بدور الناشر والكاتب والإعلامي والصحفي والمفكر الوحيد الذي ينبغي على الجميع أن يردد صدى صوته.
إن استمرت الحال على ما هي عليه في مصر فمهنة الصحفي مرشحة للزوال، ليحل محلها نافخ الكير وحامل الأسفار.
فليس مهمة المخبر الصحفي ذاتها مهمة مخبر الشرطة.
...............
الخميس 17 مايو 2018 20:17
من نوافل القول أن وراء الجرأة الامريكية في الاصرار على إعلان نقل سفارتها للقدس منتصف هذا الشهر تواطؤ عربي، يدعم في السر وتوقف حتى عن أن يشجب في العلن، ومما لا شك فيه أن العدو الاستراتيجي الكبير والوحيد لكل الشعب العربي هو الكيان الصهيوني وهو من يتحمل بسيل مؤامراته علينا كشعب عربي جل رزايانا بدءا من تنصيبه طغاة وعملاء له حكاما علينا، انتهاء برعاية هؤلاء العملاء للفساد رسميا في مؤسساتنا مما جعل الانحطاط الاخلاقي والسلوكي والانحدار الفكري والمعرفي منهج حياة متكامل اتسمت به حياتنا.
ولقد تم ذلك عبر استخدام طرق عدة، ففي مصر مثلا كانت اتفاقية كامب ديفيد هى في الواقع اتفاقية سيطرة صهيونية على كل مصر، وهو ما تم عبر ما يسميه الباحث القومي محمد سيف الدولة "الكتالوج الأمريكي الذي يحكم مصر" والذي نتج عنه أن صارت سيناء بأكملها رهينة لإسرائيل وتم بسببها تدمير القطاع العام عنوة لمنعه من تمويل المجهود الحربي للجيش في أي حرب لاحقة والاستعاضة عن الأموال التي كان يوفرها بالمعونة الامريكية، مع خلق مناخ عام اقتصادي مؤاتٍ للفاسدين والعملاء عبر المعونة التجارية التي قدمتها أمريكا آنداك أيضا ومنحتها لأشخاص بعينهم هى من اختارتهم لتكون لهم نواة لبدء السيطرة الكاملة على الاقتصاد المصري وبالطبع تضخمت حصيلة تلك الاموال جراء عمليات تسقيع الأراضي وكافة عمليات الفساد.
ثم يأتي بعد ذلك صناعة مناخ سياسي مؤاتٍ لإسرائيل عبر صناعة أحزاب سياسية - تفتقر للشعبية بالطبع- تؤمن بإسرائيل وتضع الصراع معها في غير اهتماماتها السياسية أساسا وذلك بقصد الإيحاء بأن اسرائيل صارت واقعا لابد من التعامل معه والانفتاح عليه.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة عزل مصر عن أمتها العربية عبر تعميق دعوات الدولة الأمة ومصر الفرعونية، وفي تقديري أن تلك المرحلة فشلت فعليا ولفظها الشعب المصري فتم الاستعاضة عنها بدعوات الشعّوبية وتقديس حدود سايكس بيكو.
ناطوري كارتا
إسرائيل لا تعدم الوسيلة التي تزيد فيها من تعاسة شعوبنا وتعمق بها تخلف بلداننا وانقسامنا الجغرافي والمذهبي والطبقي ومع ذلك هناك إصرار عجيب لدى نظم الحكم العربية على الوقوف منها موقف المدافع ، بل وممارستها الضغط على المقاومة من أجل الاستسلام لهذا الواقع المخزي، تارة بوصمها بالإرهاب وأخري بحصارها بل والتواطؤ مع العدو للقضاء عليها ، رغم أننا نحن الضحايا لا أحد غيرنا ، وكان يجب علينا أن نرد عليها المؤامرات بالمؤامرات والصاع بالصاع أيضا ، لأن المنطق يقول أن من يبادر بالهجوم قد تزداد فرصه في كسب المعركة بأقل الخسائر.
وهناك أساليب سلمية كثيرة للمقاومة منها مثلا وجوب دعم واحتضان حركات مناهضة للصهيونية مثل "ناطوري كارتا" وهي الحركة اليهودية الحقة التي تأسست عام 1935ترفض الصهيونية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة إسرائيل وتؤمن بحق إقامة دولة فلسطين على كامل أراضيها العربية، ويتواجد أعضاؤها في العديد من دول العالم أهمها القدس ولندن ونيويورك، وتعاني اضطهادا كبيرا في كل المدن التي يوجدون فيها من قبل النظم الداعمة لإسرائيل.
وقد تنبهت دول عربية وإسلامية قليلة وشخصيات عامة إلى أهمية استخدام تلك الورقة لدعم المقاومة العربية في فلسطين فراح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يقوم بتعيين أحد المنتمين لتك الحركة ويدعى" موشيه هيرش" وزيرًا للشؤون اليهودية، فيما التقى المفكر الاسلامي الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في 2008 ثلاثة حاخامات من هذه المنظمة، كما حضر وفد من تلك الحركة مؤتمرًا نظمته إيران حول الهولوكوست.
وزار وفد من تلك الحركة نقابة الصحفيين المصريين بالقاهرة عام 2010 لكن الاحتفاء بهم ظل غير رسمي سواء أكان الأمر على مستوى النقابة أو على مستوى الدولة وقد يفهم ذلك ربما بأنه إرضاء للكيان الصهيوني.
منظمات أخري
ولم تكن حركة الناطوري كارتا وحدها كحركة يهودية ترفض الكيان الصهيوني ولكن هناك العديد من تلك الحركات ومنها حركة “JVP” أو "صوت يهودي للسلام" وهي حركة يهودية تعمل على فضح عنصرية إسرائيل أمام العالم وتدعو لفرض حصار عليها، وشاركت الحركة في أسطول الحرية لكسر حصار غزة 2011.
وهناك أيضا جمعية"زوخروت" اليهودية الهادفة لتعميق الوعي لدى اليهود في إسرائيل بالأزمة الفلسطينية، والجرائم التي ترتكبها إسرائيل بالشعب الفلسطيني وتدعو اليهود لاحترام حقوق الإنسان.
وأصدرت الحركة خارطة بأسماء المدن والبلدات الفلسطينية التي تم إزالتها من قبل الكيان الصهيوني داعية الى عودة الحق الفلسطيني.
وكذلك هناك الطائفة الحريدية التي تأسست عام 1921 وهي تعبر عن يهود متدينين يعارضون النزعة الصهيونية ويدعون للعودة لليهودية الصحيحة المتدينة كما يرونها، وترفض كل قيم العلمانية وترفض الكلام باللغة العبرية بوصفها لغة صهيونية وترفض دولة اسرائيل ودولة فلسطين معا، وتحفل تلك الحركة بزخم كبير في الوسط اليهودي وتضم من هم أشبه بالتيار السلفي لدى المسلمين.
وأيضا هناك حركات علمانية تقترب من الحق العربي منها مثلا حركة "ترابط" وهي حركة ترفض النزعة الاستعمارية لإسرائيل وتدعو لتقارب إنساني بين إسرائيل والدول العربية وترفض المستوطنات وتهويد الأراضي العربية، وتدعو للتعايش العربي الاسرائيلي المشترك.
وكذلك حركة "فوضويون" وهى حركة تأسست للتعبير عن رفض الجدار العازل الإسرائيلي وهى ضد حصار غزة والبلدات الفلسطينية ولها مظاهرات شبه أسبوعية رفضا للحصار وتظهر فيها جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.
...............
الاثنين 4 يونيو 2018 16:42
لم يتوقفوا لحظة واحدة عن تأكيد أن دولة قطر هى من الصغر تأثيرا ومساحة، للدرجة التي لا تجعلهم يعيرونها اهتماما، وأنهم إن صبوا عليها جام غضبهم، وأولوها اهتمامهم فلن تصمد أمامهم إلا يوما أو بعض يوم.
لكنهم خلال هذا العام لم نرهم يتصرفون إلا كمن أصيب بداء الوسواس القطري، من نسبة كل فشل يلحق بسياساتهم غير الديمقراطية إليها، إلى استعمال كل أساليب الضغط غير المسبوقة وغير الأخلاقية ضدها، حتى وصل الحال إلى تقطيع أواصر القبائل وترويعها واحتجاز مواطنين قطريين لاستخدامهم رهائن مع محاولات فاشلة لإجبارهم على تمثيل دور المنشقين على قطر.
هكذا، مر عام كامل على هذه الادعاءات والحصار الذي ضربته حكومتا أبو ظبي والرياض وتابعتهما في المنامة ومعهم حكومة القاهرة في 5 من يونيو/حزيران 2017 على قطر – وليس تل أبيب كما تقضي علينا واجبات التضامن العربي - ومع ذلك كل المؤشرات تؤكد أن الحصار لم يزد قطر إلا قوة وإصرارا وتأكيدا على استقلالها التام ورفضا للانضمام لحظيرة الرياض.
ومن الواضح أن قطر أسست إستراتيجية ناجحة للتغلب على أي مضاعفات أو نتائج لهذا الحصار مهما دام أمده وبدت هذه الإستراتيجية فعالة جدا حتى الآن بدليل الاحتفاظ بمعدلات نمو كافة مؤشراتها الاقتصادية مرتفعة خاصة الناتج القومي الذي قفز إلى معدلات نمو 1,9 % نهاية العام الماضي ما جعله الأسرع في المنطقة فيما ارتفعت معدلات الصادرات والواردات والإنشاءات وحتى معدلات "السياحة"، مع انخفاض معدلات التضخم عن المستويات المعتادة ، وهكذا جرى تحويل الحصار إلى حافز لتطوير كافة القطاعات الاقتصادية في البلاد بما جعلها تحقق الاكتفاء الذاتي.
شراء الولاءات
هذه النظم غير قادرة على شيء إلا شراء الولاءات، ولذلك عندما فشلوا في الإيحاء بوجود قلاقل داخل دولة قطر بسبب تأكيد القطريين تمسكهم بحكومتهم وقائدهم، راحوا يستغلون كل نفوذهم وأموالهم لشراء ذمم الكتاب والصحفيين الغربيين والعرب وذمم أصحاب الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية القابلة للبيع والشراء في الغرب من أجل الهجوم عليها، ويقومون بالتعاقد مع شركات دعاية دولية لتشويه صورتها، بل إن الأمر وصل إلى شراء مواقف حكومات دول فقيرة معلوم للجميع كفالة الرياض لها لتحذو حذوها ، ووصلوا للدرجة التي جعلتهم يخلعون "براقع الحياء" التي كانت تتحلي بها الحكومات العربية سابقا ويجهرون بأن عدوهم "قطر" وليس "إسرائيل".
ومع الحصار المشدد صمدت قطر المحاصرة، فيما بدا التوتر والانفلات على سلوك المحاصرين.
صفقة القرن
من السخف أن نولي بحثا جديا في الأسباب الرئيسية التي أوردتها تلك الدول في فرضها هذا الحصار، فلا قطر ترعى الإرهاب ولا الإرهابيين، وكيف تتهم بهذا ودول العالم التي تتصدر قائمة مكافحة الإرهاب تعتبرها شريكا مهما لها، بل إن الولايات المتحدة اعتبرت في قانون "جاستا" الذي أقرته رسميا أن الرياض، لا الدوحة، هي الضالع الأكبر في أشهر الحوادث الإرهابية؟
وأيضا لا يتم حصار قطر بسبب تواجد عدد من المنتمين للإخوان المسلمين على أراضيها وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن الإخوان المسلمين ممثلون في برلمانات وحكومات دول عربية عديدة، بعضها خليجي، ولم نسمع عن أن دول الحصار فرضت على أي من تلك الدول حصارا كما فعلت مع الدوحة، فضلا عن أن دول الغرب رفضت كل الإغراءات والضغوط لإصدار بيانات تصم الإخوان بالإرهاب، ثم يبقي الأهم وهو أن عدد الإخوان في قطر لا يكاد يذكر مقارنة بعددهم في بعض دول الحصار ذاتها.
كما أنه من المدهش أن تطالب تلك الدول الدوحة بإخلاء القاعدة العسكرية التركية على أراضيها بينما القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية تتمدد على أراضي تلك الدول.
السبب الحقيقي
ومن المعلوم للقاصي والداني أن السبب الرئيسي لحصار قطر يعود لدعمها ثورات الربيع العربي ومطالب الشعب العربي في الحرية، ولعدم انخراطها في مخططات "صفقة القرن" واتفاقيات "سايكس- بيكو" الجديدة التي يجري بمقتضاها تقسيم الوطن العربي وتصفية القضية الفلسطينية وإحلال الشرق أوسطية بزعامة إسرائيل كبديل عن الوطن العربي.
وبالطبع كان يلزم لتنفيذ تلك الصفقة تكميم كل الأفواه العربية التي يمكنها الاعتراض ونقل نبض الشعوب وأهمها قناة الجزيرة، وهذا هو العنصر الأهم لفرض هذا الحصار.
ولعل توقيت فرض حصارهم على دولة قطر يكشف في حد ذاته عن نية خبيثة مبيتة، ليست تل أبيب بعيدة عنها، ما يشكل مهانة كبيرة تمس سيادتهم واستقلال قرارهم، خاصة أن القرار اتخذ بينما كانت أقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وابنته لم تبرح الرياض بعد، وذلك قبيل أن يعودا محملين بالمنح والعطايا التي تنوء بحملها العصبة أُولِو الْقُوَّةِ.
الدوحة تكسب شعبية
والواقع أن هذا الحصار الفاشل عزز دور دولة قطر لدي الشعوب والحكومات العالمية الحرة والعربية خاصة ، ونجح في إزالة السخام الذي حاولت دول الدعايات الخرقاء تلطيخ وجه الدوحة به على مدى عقود بادعاء علاقتها بتل أبيب، بحيث بدا واضحا للجميع أن دول الحصار منبع تلك الدعايات هي من تخطط لصفقة القرن لصالح إسرائيل والسلام الدافئ ومشروع نيوم، وهى من ترسل وزراءها وكبار مسؤوليها علنا إلى تل أبيب، وهي من تحتفل سفارة الكيان الصهيوني على أراضيها بذكرى نكبة الجيوش العربية، وهي من تحاصر غزة، وهي من يهتف المقدسيون المرابطون على أبواب الأقصى ضد حاكمها.
بإيجاز بسيط: ما جرى خلال هذا العام أنهم أرادوا خنق الدوحة بالحصار فخنقتهم وكشفت سوءاتهم.
...............
السبت 14 يوليو 2018
انبهر مرافقي حينما شاهد يافطات "لافتات" كتب عليها "النصر لصناعة السيارات" موضوعة على مساحة كبيرة من الأرض "المسوَّرة" بحلوان وتساءل: وهل نحن نصنع السيارات؟
فقلت له: مصر يا صديقي دولة متطورة للغاية، ربما هي نظريا أكثر دول العالم تطورا، فلقد حباها الله بعباقرة يصنعون كل شيء من "الإبرة" إلى "الصاروخ"، في كل مجال لكن لا شيء يخرج عن طور "الفانتازيا" إما بسبب تدخل الأدعياء فيها حيث يدخل الغث على السمين فيفسده، أو بسبب فساد السلطة وعدائها للعلم والنبوغ.
نحن اخترعنا الطائرات ومركبات الفضاء والآليات التي تمشي في الأرض وتغوص في الماء وتطير في الجو، صنعنا الوحش المصري الذي يمشي ويسبح ويطير، واستخرجنا الكهرباء من الجاذبية الأرضية ومن الزبالة والماء والتراب والرمال والليمون وحتى البطاطس ومن داخل جسم الإنسان، صنعنا مادة تقوم بتمهيد الطرق وأخرى ترصفها وثالثة تقوم بتكسيرها، ورابعة تمنع وقوع الحوادث عليها، وصنعنا "كبسولات التحرير" التي تضيء مصر بلا وقود، نحن أيضا دولة متطورة طبيا وعالجنا داء الإيدز الذي أعجز أطباء العالم بأصابع "الكفتة"، وهكذا كل معجزاتنا الصناعية. مسألة اليافطة
المهم لدينا هو"اللافتة"، فإذا أردنا أن نصنع شيئا ننجزه بمجرد الانتهاء من تلك اللافتة، وكلما كبرت "اللافتة" كبرت معها عظمة الاختراع، فنحن لدينا مصنع للسيارات لم ينتج سيارة واحدة، ولدينا مصنع طائرات لم ينتج طائرة واحدة، وأنتجنا في الستينيات صواريخ بالستية عابرة للقارات بالكاد تسقط على بعد بضعة كيلو مترات من موقع إطلاقها، ولدينا مفاعل ذري في أنشاص يوجد فيه الكثير من الناس والأشياء إلا الذرة، وبدلا من المفاعلات الذرية الحقيقية نحن اخترعنا "مفاعلات الشمس"، ولدينا مركز لعلوم الفضاء ليس فيه "تليسكوب" ولا حتى طائرة ورقية، وقمنا بشراء قمر اصطناعي ولما ساهمنا بجزء من خبراتنا العميقة في إطلاقه تاه في الفضاء الفسيح وذهب من دون حتى أمل في الرجعة، وأيضا لدينا مصنع للهاتف المحمول أول ما ترى من إنتاجه حين فتحه عبارة "صنع في الصين"، ولدينا مصنع للتلفزيون والإلكترونيات ظهر فجأة واختفى في ظروف غامضة، وصنعنا روبوتا معجزة عرض في لقاء رسمي مع السيسي يغني على أنغام أغنية "جانجام ستايل " ثم اكتشف الناس أنه لا الروبوت ولا الأغنية من مصر.
مسألة اللافتة لم تتوقف في مصر عند حدود الصناعة والاختراعات، ولكنها امتدت أيضا إلي إنفاق مئات المليارات من الدولارات في مشروعات عادة ما يتم إضفاء صفة القومية عليها، ومنها مثلا مشروع "توشكى" الذي هللت له السلطة ثم انتهي به الحال إلى العدم، وهكذا مشروع الظهير الصحراوي والألف قرية والحزام الأخضر ومزارع النوبارية والصالحية والفرافرة ومشروع تنمية الساحل الشمال الغربي وظهيره الصحراوي والقرى التكنولوجية ومحطات الطاقة الهوائية والشمسية ومنخفض القطارة لتوليد الكهرباء، وإعادة تقسيم المحافظات ومشروع شبكة الطرق والمليون ونصف المليون فدان والمليون وحدة سكنية وتفريعة قناة السويس التي تحولت إعلاميا إلى قناة جديدة ولا جدوى منها سوى رفع الروح المعنوية للشعب، وهناك العاصمة الإدارية الجديدة التي هي في الواقع نفذت بالفعل ولكن كمدينة حصينة لخدمة رجال ومؤسسات الحكم ولتكون بعيدة عن متناول الشعب المصري.
وامتدت المسألة إلى الشعارات فطالما أنت هتفت "تحيا مصر" أو رددت نشيد الصاعقة أو النشيد الوطني فأنت إنسان وطني ولا يهم بعد ذلك مسلكك، يمكنك أن تسرق وأن تختلس وتنصب وتنهب وتقتل، ولا يمكن لأحد أن يدينك.
سلوك شعبي
ولأن الناس على دين ملوكهم امتدت مسألة "اللافتة" حتى الشعوب، حيث صار الكثير من أصحاب المحال التجارية يعددون في اللافتات التي يضعونها في حوانيتهم مهاراتهم أو البضائع والخدمات والحرف التي يقدمونها، ولكن سرعان ما تكتشف أن ثلاثة أرباع ما كتبوه في تلك اللافتات مجرد "تفخيم" ويأتي على سبيل المثل الشعبي "أبو بلاش كتر منه".
ويجب هنا أن نذكر أن أحد محافظي القاهرة فيما قبل ثورة يناير – أعتقد أنه عبد الرحيم شحاتة - اهتم بمكافحة هذه الظاهرة وراح يصدر قرارا بسحب ترخيص أية منشأة أو محل تجاري يكتب في اللافتة المدونة على حانوته خدمة أو بضاعة لا يقدمها.
كما نجد هناك أحيانا الصحفي الذي لم يكتب حرفا، والمهندس الذي لم "يهندس" أبدا، والمحامى الذي لا يعرف القانون ولم يقف في محكمة، بل وجدنا وزيرا راسبا في الإملاء، وقاضيا كانت في الحقيقة راسبا عندما كان في مرحلة الثانوية العامة وهكذا، ومع ذلك كل هؤلاء لا يكتفون بكتابة توصيفاتهم المزورة بل يضيفون إليها المشوقات التي تعزز نبوغهم، كالصحفي الذي هو محلل سياسي وأديب، والمهندس صاحب الشهادات العالمية، والمحامي الدولي وغير ذلك.
وبصورة هزلية، قد تجد أيضا أصحاب عربات الفول والكشري والحمص والترمس والكبدة وغيرها مع تواضع شأنها يكتبون عليها عبارات تضخم منها.
فكما أهملت نظم خير أجناد الأرض كل نبوغ يظهر في بر مصر بل وحاربته وراحت تغتصب العبقرية لنفسها، فصنعت وابتكرت وكشفت أشياء لا حصر لها ولكنها كلها "افتراضية" تغلب عليها صفات "الهزلية"، لا تتخطى حقيقتها حبر اللافتات أو مانشيتات الصحف التي كتبت عنها، مع كثير من الرقص والاحتفالات.
انتقل الداء إلى الشعب المصري فتحولت السياسة والأحزاب والحركات والجماعات والشركات والنقابات والمحال في مصر إلى مجرد لافتات.
لقد تحولت مصر الى لافتة كاذبة.
...............
الأحد 22 يوليو 2018 15:29
شكل منتصف القرن الماضي ولادة قوية جديدة للفكر القومي العربي بشكل ينبئ بأن دولة عربية واحدة تتشكل في الأفق على جميع الأراضي التي يعيش فوقها العرب من المحيط إلى الخليج، فيما أن القوميات الأخرى في هذه البقعة الجغرافية تعاطت مع الثقافة العربية بسبب الدين الذي نطق بلغتها، فصارت مكونا أساسيا من ثقافتها القومية الخاصة، وترافق هذا البعث الجديد مع تأسيس جامعة الدول العربية وتنامي موجات الاستقلال الوطني وبدء انحسار الاستعمار بصورته القديمة.
إلا أن النهوض القومي العربي تلقى طعنة قاتلة بغرس الكيان الصهيوني في ثاني أقدس مقدساته، ما أطال مسار "التحرر" الذي كاد أن ينجز آنذاك، وذلك خصما من العمل على مسار "الوحدة" الذي لم يطرق أصلا حتى الآن بأية صورة كانت، فيما أتت الطعنة الثانية لتلك القومية من ظهور تفريعات داخلية فيها والتي شكلت "الناصرية" أحد أبرز مظاهرها وذلك بما تحمله من شخصَنة وذاتية ونقل غير مبرر للأفكار المتفق عليها بين الجميع من الوضوح إلى الغموض، ومن العام إلى الخاص ومن العلمي إلى هوى النفس.
الناصرية: لماذا؟
وبيت القصيد أنني لا أعرف كيف تم نحت لفظ "الناصرية"؟ ولا لماذا؟ ولكن أثق في أنها شكلت طعنة قاتلة للفكر القومي العربي، رغم أنها تبدو لأول وهلة كإبنة شرعية له وبالتالي فإنها لا يمكن لها إلا أن تدعمه، ورغم أنه من غير المعلوم حتى هذه اللحظة ما طبيعة هذا الفكر ولا مبادئه؟ ولا مواطن تميزه؟ ولا بماذا ينادي غير ما تنادي به دعوات الوحدة العربية؟ وما جدوى اختراقه للإجماع القومي؟ لكن كلما نحاول البحث لا نجد إلا طنطنات وتهويمات وشعارات لا ترقى إلى مستوى المنهج.
ولا تقتصر خسارة الفكر القومي من ظهور الناصرية عند ذلك فحسب، بل امتد الأمر أيضا إلى أن بعض الانتهازيين المتعصبين لم يرتضوا بالتوقف عند تفريع الفكر القومي وتجزئته ولكن حاولوا جعل الناصرية بديلا عنه وجعلوا عبد الناصر وصيا على الأمة العربية ، ما تسبب بشكل أو بأخر في تحول أعداء عبد الناصر - وهم كثر داخل مصر وخارجها - إلى أعداء للفكر القومي العربي، كما حدث مع التيارات الإسلامية، على خلاف قناعتها الأصلية بأن الوحدة العربية هى مجرد مرحلة لتحقيق الوحدة الإسلامية، والسبب في هذا العداء يعود في الأصل لمعاداة عبد الناصر للإخوان المسلمين بعد احتجاجهم علي الانقلاب على الرئيس محمد نجيب عام 1954 فأعدم قياداتهم ونكل بهم أشد تنكيل، وكما حدث مع بعض النظم الملكية التي كان يمكن إشراكها في بحث سبل وحدة الأمة عبر الدعوة للوحدة الكونفدرالية مثلا بدلا من تحويلها إلى عدو لهذه الحلم العربي.
الناصرية فشلت
المشكلة أن التطبيق العملي للناصرية يؤكد أنها فشلت في كل شعاراتها، فلماذا اجترار الفشل إذن؟
هي فشلت في إقامة وحدة عربية حقيقية - كما حدث في الجمهورية العربية المتحدة- رغم تهيؤ الظروف في كثير من الأقطار العربية لذلك بسبب تولى الحكم جنرالات آنذاك يقولون إنهم يؤمنون بضرورة الوحدة العربية، وتسبب هذا الفشل في تباعد فكرة الوحدة عن التحقق بعدما غيرت الكثير من نظم الحكم قناعاتها.
وأيضا فشلت الناصرية في توحيد الصف الوطني حينما راحت تقصي التيارات الفكرية المختلفة لا سيما التيار الاسلامي، رغم أن هذا التيار تحديدا هو الأقرب أيديولوجيا للفكر القومي العربي - المفترض انتماء الناصريين إليه - وكلاهما يرفض الشعوبية وتقديس حدود سايكس بيكو، وبدلا من تجسير علاقات الأخوة القائمة فعلا مع القوميات الأخرى في مصر جري التعالي عليهم كما حدث في ملف النوبة إثر تهجيرات السد العالي.
سقطت ادعاءات القوة حينما هزمت الناصرية في كل حرب خاضتها وصرنا في ظلها بدلا من تبني الدعوة لتحرير الجزء المحتل من أراضي فلسطين صرنا بحاجة لتحرير أراضي مصر وسوريا وكل فلسطين.
ولما صارت مصر تابعا للسوفيت سقطت أيضا ادعاءات الاستقلال الوطني، وحينما سيطرت مراكز القوى على البلاد والعباد سقطت معها ادعاءات المساواة والقانون وعادت "الباشاوية" لمن هم أحط خلقا من أصحابها الأصليين، واكتظت السجون بالأبرياء فسقطت ادعاءات العدالة، وسجن الكتاب والصحفيين وأعدم أصحاب الأفكار وحملة الأقلام ليحل محلهم حملة المباخر وزوار الفجر.
ناصرية بلا ناصريين
جمال عبد الناصر قامة كبيرة في تاريخ مصر، شئنا أم أبينا، وشخصية أثرت في التاريخ بشكل كبير سلبا وإيجابا، أخفق في كثير من الأشياء ونجح في كثير من الأشياء، فالكثيرون ما زالوا يذكرون له السد العالي وقوانين الإصلاح الزراعي والضمان الاجتماعي وغيرها، لكن ما شوه صورة عبد الناصر أن الكثير ممن يتمسحون بردائه سيرتهم الذاتية والمهنية لم تكن بيضاء.
ولقد وصلت الأحزاب الناصرية من البؤس أنها صارت ملاذا لمن لا فكر له، ولا وعي عنده، وصار كل ساقط ولاقط ودعي وعديم وعى يتمسح بردائها، رغم أن عبد الناصر نفسه ما زال يحظى بحب ملايين من الناس في بقاع الأرض وفي وطننا العربي، وأن هناك كثيرا من المفكرين من بينهم من ينتمون للتيار الإسلامي نفسه يثنون على كثير من أعماله عملا بحكمة مؤداها "من حاول أن يبني وفشل خير ممن لم يحاول أصلا" خاصة في زمن الخيانة الذي نعيشه الآن والذي يقودنا بسرعة الصاروخ إلى الجحيم.
متى يعرفون أن الناصرية وهم من خيال بعض الوجهاء على كثير من الأدعياء؟
...............
الثلاثاء 28 أغسطس 2018 16:58
لا يمر شهر واحد في مصر دون إعلان وزارة الداخلية تصفية عدد ممن تصفهم بـ "الإرهابيين" الذين تلحقهم تارة بولاية سيناء أو تنظيم الدولة أو حركة حسم وغيرها، ثم تلحق هذا الإعلان عادة بعبارة "إن الإرهابيين قتلوا أثناء اشتباك مع قوات الشرطة".
ولم يحدث مطلقا أن قامت القوات بالقبض على أي من هؤلاء الإرهابيين المزعومين أحياء أو حتى اكتفت بإصابتهم، وهو الدور المنوط بها كيلا تكون هي الخصم الذي يصدر لائحة الاتهام وهي أيضا من تصدر الحكم بالإعدام، وهى من تنفذه دون حتى تسجيل فيديو واحد متكامل لعمليات الدهم تلك.
ثم سرعان ما يعلن الطرف المقابل من ذوي هؤلاء القتلى عن شهادات مكتوبة أو مرئية وبلاغات قديمة للجهات الأمنية تؤكد أن ذويهم كانوا محتجزين من قبل جهات الأمن نفسها، أو أنهم قتلوا في عمليات إعدام ميداني دون أدني مقاومة منهم.
ومع ذلك لا أحد يتحرك أو حتى يجري تحقيقا شفافا في كل هذه الاتهامات، خاصة أن أجهزة الدولة الخاصة بتحقيق العدالة إما أن تصر على الرواية الأمنية، وإما أنها تلتزم الصمت على تلك الاتهامات المروعة في أكثر أوقات الحياد لها، أو تتجرأ فتبادر بفتح تحقيقات سرعان ما تموت في الأدراج كما حدث في القتلى الخمسة الذين اتهمتهم أجهزة الأمن بقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وهى نفسها من نفت ذلك وفتحت تحقيقا لم يعرف أحد نتيجته منذ أكثر من عامين.
كل ذلك يحدث على مسمع ومرأى من الداخل والخارج ولا أحد يجرؤ في الداخل أن يطالب باستجلاء الحقائق بشكل عملي حماية للعدالة
نحن هنا لا نكذب الروايات الرسمية، ولكن نطالب بتقديم الإجابات المنطقية أو الموثقة على الوقائع بدرجة تجعلنا نصدقها ولا نتساءل مجددا اقتناعا وليس خوفا من عاقبة السؤال.
الغموض والقوة المفرطة
أخشى أن يكون هذا الأسلوب – أسلوب الغموض والأبواب المواربة والقمع المفرط – مقصودا في حد ذاته من أجل تكوين شعور عام بأن السلطة ليست بحاجة لتقديم المبررات لما تفعل، وأنها تفعل ما تريد وقتما تريد دون أي بواعث على القلق أو حرص على الشفافية، ويجب على الجميع الاستسلام والتسليم بما يفعلون أو يقولون دون قيد أو شرط ، وذلك آملا في تحقيق حكمة المفكر السياسي الايطالي الأشهر في التاريخ نيقولا مكيافيللي بأن القوة المفرطة تصنع صديقا مخلصا، وأنه حينما تعاقب خصما لك فيجب أن تعاقبه بالطريقة التي تغنيك من خشية انتقامه.
إن كان كذلك فالثمار أتت أكلها، لا أحد في مصر الآن إلا ويشعر بالخوف وعدم الأمان والقلق مما يحمله المستقبل، وبواعث هذا الشعور لا تعود كما يمكن أن يصوره البعض إلى ضعف قوة السلطة، بل منها ومن جنونها وقوة بطشها، وانهيار منظومة العدالة فيها.
وكرست لتنامي هذا الشعور عوامل عديدة أهمها الغلاء والفساد وتفشى الواسطة والمحسوبية وتوحش الطبقية وعودة الإقطاع وإمساكه بمفاصل الدولة، فضلا عن تلك المظلوميات التي لا تنتهي التي يسمعها ويقرؤها ويعيشها المصري منذ أن يفتح عيناه صباحا حتى يخلد للنوم ليلا، مع تنامي الوعي لديه بأن شبكة المصالح التي تربط جلاديه ببعضهما البعض، أو تربطها بقوي إقليمية ودولية، عصية على الكسر، وكل ما تفعله سيغض العالم الطرف عنه.
الحرب النفسية
وإذا كان الخوف والأمان هما فقط مجرد شعور، فان بث الشعور بعدم الأمان قد يكون مقصودا من قبل النظام الحاكم من أجل تركيع المجتمع في إطار ما يسمي بـ "الحرب النفسية"، وقد يتعمد في سبيل ذلك تسريب جوانب من الفظائع التي تجري بحق المعتقلين أو مناوئيه لهذا الهدف.
وعمليا فان الحشود الهادرة المحتجة التي نزلت شوارع المدن المصرية الكبرى في أشهر الانقلاب الأولى، كانت من الكثرة والإصرار ما تعجز أي قوة عسكرية عن التغلب عليه، هنا تم التركيز على استخدام أساليب الحرب النفسية، التي كان من أهم أدواتها إهدار قيمة المنطق والقانون، والتهويل والتهوين في غير موضعيهما، وهي الحالة التي انتهت مؤخرا بسن قوانين غير منطقية تلغي دور الشهود في المحاكم، فضلا عن عدم تكلف السلطة بخلق تبريرات وذرائع قانونية لارتكاب أي جرائم.
كما جيشت السلطة قطاعات غير ناضجة فكريا من المجتمع لتكون حائط الصد الأساسي الذي يحول دون وصول غضب الحراك الشعبي إليها وهو ما أشاع حالة من الإحباط لدي كثيرين من أبناء هذا الحراك.
العنصر الأكثر بطشا
وإذا كانت أدوات السلطة هي الجيش والشرطة والقضاء فالسؤال الآن؛ ما هو العنصر الأكبر تأثيرا في تشكيل خوف المصريين؟ هل هي القبضة الأمنية المفرطة؟ أم انهيار القضاء ومنظومة العدالة؟ أم قوة الدعم الإسرائيلي والغربي لهذا النظام؟ آم أن الثورة قد وصلت لحالة من الوهن والإنهاك قادت الناس إلى اليأس بعد سبع سنوات من المقاومة؟
ظاهريا تبدو كل تلك الأسباب مجتمعة وراء ذلك، لكن كان لانهيار منظومة العدالة خاصة في القضاء الطعنة الغائرة في جسد الثورة والتي سببت لها الوهن والوجع الشديد، وذلك لأن الدعم الغربي والإسرائيلي ما كان له تأثير في الداخل إلا عن طريق غض الطرف عما يرتكبه النظام من جرائم بحق معارضيه في الداخل، وما كان للحراك أن يتوقف آنذاك إلا عندما لمس الناس أن مؤسسة العدالة والمفترض فيها رفع الظلم أصبحت أحد أكبر الخصوم.
انهيار منظومة العدالة هي الطغيان الأكبر في مصر.
...............
الأحد 23 سبتمبر 2018 15:01
لو كنت مصريا وأنت تتابع المشهد في مصر لعرفت من أول برهة أن هذا الضجيج الكبير في إعلام النظام المصري حول حرب الشائعات، هو مقدمة للجم الافواه والاجبار على تبني الخطاب الرسمي للدولة، وذلك في محاولة لحصار العقل والمنطق و"التوقع والتحليل والاستنتاج" عبر اتهام كل صاحب وجهة نظر بأنه من مروجي الشائعات.
ويؤكد هذه المخاوف أن رأس النظام شخصيا هو من أعلن عن رصد نظامه 21 ألف "اشاعة" في 3 أشهر معتبرا أن انهيار الدول يبدأ من الداخل عبر الشائعات، وهو التصريح الذي سبقته تمهيدات إعلامية كبيرة اتفقت على طريقة مواجهة مروجي الشائعات عبر القوة الغاشمة واختلفت في الأرقام التي تدرجت ما بين 60 ألف شائعة - ووصلت بعد ضبط جهاز رصد الشائعات - إلى 21 ألف شائعة فقط.
المهين حقا هنا أن الإعلام المصري راح يردد حينها نفس اللفظ الخاطئ الذي ردده السيسي فنطقوا الكلمة بلفظ "إشاعة" والصحيح "شائعة" لأن الإشاعة نجدها عند معامل "الإشاعات الطبية" فقط، بحسب اللفظ الدارج لـ "الأشعة"!
ويعتقد الكثيرون أن السلطة نفسها هي من تطلق عبر أدواتها غير الرسمية من إعلاميين ومسؤولين محليين الشائعات، ثم تقوم رسميا بتكذيبها وتدلل على ذلك بوجود مؤامرة ضدها يجب لجم منفذيها.
حول الشائعة
ولم يقل لنا هؤلاء ما هو الفرق بين الشائعة والاستنتاج؟ وهل هناك تعريف للشائعة وتعريف أخر للاستنتاج يجعلنا نفرق بين الشرير المغرض والباحث المتأمل المفكر؟ وهل يمكن أن يصدق الناس أي شائعة دون أن يتوافر شيء ما يدلل عليها؟ فرجلا الشرطة والنيابة الجادان مثلا يقومان بجمع المعلومات المتوافرة لديهما عن أمر ما ليستنتجا منها احتمالات معينة، هذه الاحتمالات تكون في تلك اللحظة غير مؤكدة وفي إطار "الإشاعة" حتى يثبت صدقها.
وبالتالي فإن تغييب المعلومات الصادقة والحقائق وعدم الإجابة عن التساؤلات بشكل منطقي - وهو ما تفعله السلطة في مصر- هو ما يصنع بيئة خصبة للشائعات، وليس من الإنصاف أن نعاقب الناس لأنها أكملت "حلقات" البحث باستخدام أدمغتها التي خلقها الخالق خصيصا لمثل هذه المهام، بعد أن ساقت السلطة نتائج لا تتسق مع المقدمات المتوافرة.
ولهذا لم يصدق الناس الأمر وراحوا يفكرون بأنفسهم مع أن الدول الحرة تشجع مواطنيها على التفكير بعد تقديم كافة الإجابات المقنعة لكل الأسئلة التي يطرحها الناس دون ضجر أو ملل أو تخوين أو إكراه لهم.
والحقيقة أن كل تجارب التاريخ الناجحة بنيت على اعتقاد ما، وكل اعتقاد قد يحتمل الخطأ والصواب، وكل خطأ هنا هو في الأصل كان شائعة تحتمل أيضا الصواب، وإيجازا فإن كل ما يشاع هو أمر قد يحتمل الصواب أو الخطأ كليا أو جزئيا.
وكل ما يخشاه المرء أن يكون النظام هو نفسه من يطلق الشائعات تارة ليكذبها بعد أن يرددها معارضوه فيصبح هو ضحية لمؤامرة كبيرة وتارة لكي يأخذها ذريعة لاجتثاث كل من يقول خلاف ما يقول هو، خاصة أن الشائعات تعد واحدة من أهم معالم الحرب النفسية التي يتم تدريسها في الكليات الحربية ليس في مصر بل العالم بأثره للتأثير في نفسية العدو.
وهناك اعترافات لقيادات سابقة بالمجلس العسكري منها ما قاله اللواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية السابق يؤكد فيها أنهم كانوا يطلقون الشائعات للتحكم في أحداث الثورة وذلك في مداخلة له أجراها على قناة دريم في أواسط عام 2011.
ومن المعروف أن النظام العسكري الحاكم في مصر اعتاد منذ عقود إطلاق الشائعات قبل اتخاذ أي قرار يخشى عواقبه، وكان يسمي ذلك بسياسة جس النبض.
شائعة أم تحليل؟
اختلطت الشائعة بالاستنتاج كاختلاط مكونات الماء، فالصحف الإسرائيلية تتحدث مرارا عن خطة لتبادل الأراضي بسيناء، وقال مبارك في تسريب صوتي له إن رئيس وزراء الكيان عرض عليه إقامة دولة للفلسطينيين في شمال سيناء مقابل ضم إسرائيل لغزة لكنه رفض.
ثم تتكرر فجأة بعد 2013 أحداث إرهابية في المنطقة المراد إقامة تلك الدولة عليها تحديدا دون غيرها ، تلاها تهجير لأهاليها بحجة مكافحة الإرهاب، ثم تتدفق الاستثمارات من دول داعمة لإسرائيل لإحداث تنمية في تلك المنطقة، ويتم افتتاح سحارات سرابيوم لتوصيل مياه النيل إليها ، ثم يتحدث السيسي في لقاء مع ترمب عما أسماها "صفقة القرن"، ثم حصار إسرائيلي مصري خانق لقطاع غزة المراد تهجيره، والسؤال: هل لو قلنا بعد كل هذه المعلومات أن ما يجري في سيناء هو تمهيد لإقامة تلك الدولة المزعومة - والمرفوضة فلسطينيا قبل أن تكون مرفوضة مصريا - نكون نحن بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟ وهل حينما نشك في أن الإرهاب هناك حدث مبتدع لخلق هذه الحالة، نكون نحن من المغرضين؟
وخذ مثالا أخر ، شرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة الذي سيحجب نحو نصف حصة مصر السنوية من ماء النيل وكنا نتوقع إعلان مصر الحرب لذلك السبب، لكن وجدنا السيسي برفقة الرئيسين السوداني والإثيوبي يوقعون اتفاقا لم يطلع عليه أحد حينها، وخرجت في اليوم الثاني الصحف المصرية بعنوان موحد "السيسي حلها".
ثم تتجدد دعوات قديمة بعد ذلك بتوصيل مياه النيل لإسرائيل، ثم نجد أموالا من بنوك مصرية وإسرائيلية وخليجية قد تدفقت سرا على إثيوبيا لبناء هذا السد، تلاها فتح سحارات سرابيوم وترعة السلام لنقل المياه من النيل إلي شرق القناة ..فهل حينما نقول أن النظام المصري يسعى لتوصيل مياه النيل لإسرائيل نكون بذلك من مروجي الشائعات أم من المحللين السياسيين؟
وهل حينما ترفع الكاميرات من المتحف المصري بعد رئاسة السيسي لمجلس "أمنائه" ثم تطفئ أنوار مطار القاهرة ثم يعلن عن سرقة 23 ألف قطعة أثرية من المتحف وبعدها بأسابيع تفتح دولة الأمارات – حليفة السيسي- متحفا كبيرا عرضت فيه الكثير من تلك المسروقات، فهل حينما نقول إنه تم تهريب الآثار إلى الإمارات نكون بذلك نستنتج أم نطلق شائعات؟
ولو قلنا إن ترديد معلومات مجهولة يعد علامة من علامات الشائعات كما يزعم الإعلام المصري، فإننا أيضا حينما نقول بوجود رب للكون نكون بذلك من مرددي الشائعات، ولا يمكن أن نخرج من تلك الورطة إلا بالعودة للإيمان بالشواهد والمقدمات، وأن ندلل على وجود الله كما دلل عليه الإعرابي بأن: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟!
الخلاصة أنه حتى لو كان نظامكم عادلا - وهو أمر لا يصدق من فرط استحالته - فهو مدان لأنه أشاع الضبابية وخلق الشائعات وليس "الإشاعات"!
...............
غياب الرؤى العميقة ، والأمية السياسية ، والتزمت والرعونة والانتهازية ، هي من الأسباب الأصيلة المسئولة عن تحول وطننا العربي إلى قطعة من الجحيم ، ووقوعه بين سندان الاستمرار في الاستبداد مضافا إليه غالبا التبعية للخارج ، وسحق النبوغ وعوامل الرقي أو الاستقلال الوطني الحقيقي ، وبين التحول إلى أمة من اللاجئين والمشردين.
ولا يعني ذلك أننا ندافع عن هؤلاء الحكام الخونة الذي نثق أنهم مجرد وكلاء عن الاستعمار لا أكثر ، ولكن نعتب على غفلة الثوار والحالمين بتغيير أحوال أوطانهم للأفضل ووقوع بعضهم في التحيزات الطائفية والمذهبية والعرقية وغيرها ، وفقدانهم العمل بقاعدة أخف الضررين أو حتى فهم صراعات قوى الاستبداد الإقليمية بعضها البعض ، وحاجات الدول التي تدفعها إلى التدخل بين شعوبنا وحكامنا وتجعلها تخشى نهضة بلادنا.
ولو سألت أحداً اليوم عن مصلحة إيران من تدخلها العسكري في سوريا ، لكانت من ضمن الإجابات الكثيرة إجابة: الدفاع عن بشار أو الشيعة ، ولو قلنا أن الشيعة هناك قلة لم تكن أبداً في خطر، لا من قِبل الثورة ولا حتى من قِبل أعدائها ،سيقولون أيضا أن التدخل كان بسبب رغبتها في تشييع سوريا رغم أنه لو كان الأمر بهذا الوضوح والنهم ، لأجبرت إيران ثلث مواطنيها من السنة وديانات أخري علي التشيع وكان ذلك أجدى لها - وهذا لا يعني أنها لا تمسهم باضطهاد وتمييز - كما أن تلك المصالح أو المكاسب تكاد لا تذكر مقارنة بما خسرته من صناعة أعداء جدد لها هي في غنى عنهم.
هذه نماذج لإجابات رائجة لكن الإجابة الأكثر منطقية هو أن إيران قصدت من تدخلها تأمين خط الإمدادات بينها وبين حزب الله في لبنان كذراع عسكرية متقدمة لها، ذلك الخط الذي يمر عبر العراق وسوريا وقصدت بعض القوى الكارهة لنشأة هذا التحالف قطعه من خلال استغلال الثوار في سوريا أو استغلالا لضعف وعيهم السياسي أو استثماراً لحصاد الجهد الدعائي في تأليب مشاعر الكراهية المذهبية بين السنة والشيعة ، وذلك من أجل صناعة حمام دم كبير تعود كل نتائجه بين الغالب والمغلوب في صالح إسرائيل ، بل ولصالح بقاء حلفائها في نظم الاستبداد العربي التي قامت ثورات الربيع العربي من أجل إسقاطها.
أهذا دفاع عن إيران؟
والسؤال الآن، هل يعد ذلك دفاعاً عن إيران وجرائمها في العراق وسوريا؟
بالطبع لا ، ولكنه تذكير بمدي خيانة أو استهتار أو قلة حيلة النظم العربية الحاكمة التي لم تسارع إلي منع إشعال الأتون السوري ليس بصب الزيت عليه كما فعلت وتفعل، ولكن بإيجاد الحلول الدبلوماسية الرشيدة التي تحترم إرادة الشعب في التغيير ، وتنظر في الوقت ذاته إلى متطلبات إيران وتؤمنها لها سواء انتصرت الثورة أو انتصر النظام الحاكم هناك.
ولو حدث ذلك على ما أعتقد ما تدخلت إيران في سوريا بكل تلك الفجاجة ، ولا كان أمر الثورة فيها يعنيها، وما سالت دماء مئات الألوف من السوريين ولا من حزب الله ولترك آمر الثورة هناك للسوريين ومنظمات العدالة الدولية.
لكن قطعاً لم يحدث هذا لأن هناك من لا يريد الخير لسوريا أو السوريين ويعنيه صناعة بؤرة صدام مذهبية لتخدم مشروعاته كزعيم للعرب السنة ، وهو مَن يعادي كل الثورات العربية قاطبة ومع ذلك نجده لا يقف معها إلا في المشهد السوري، وهو في الواقع الوقوف الذي حول الثورة إلي نزاع مسلح غرق فيه طرفي الصراع.
استبداد ، أم استبداد وعمالة؟
وفيما يبدو أن معظم حكومات الوطن العربي كانت قبل الربيع العربي مقسمة بين نوعين من نظم الحكم، الأولى نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية ، والثانية نظم حكم استبدادية لا تحظي بشرعية شعبية وأيضا عميلة للخارج ، وعملت قوى الغرب على الاستيلاء على تلك الثورات وتحويلها لصالحها،عبر تقوية نظم التبعية لتعود أقوى مما كانت كما هو الحال في المشهدين المصري والتونسي، وهدم الدول التي ترفض أو تمشي بخطى متثاقلة في دخول الحظيرة الغربية ثم بنائها على الأساس الذي يرغب فيه بانيها، وها هنا نرى بشار الأسد ونظامه يعود تابعا ذليلا لروسيا كواحدة من قوى الاستعمار العالمي ، ونرى الناتو والاتحاد الأوربي والأمريكان هم أصحاب القرار الأول والأخير في ليبيا.
لقد كانت ليبيا من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد"، الاستبداد فقط وليس العمالة ، فليبيا كانت في اعتقادي أكثر استقلالا بدليل أن الغرب حاصرها في قضية لوكيربي التي وقعت عام 1988أكثر من 20 عاما حتى عام2002 ، والأمر ذاته ينطبق على سوريا، حيث كانت إحدى ثاني الدول التي اعتبر أنها التالية المرشحة للغزو الأمريكي بعد العراق.
أما مصر وتونس فهما من نماذج تلك الثورات على "الاستبداد والتبعية" والحديث عن التبعية هنا قد لا يحتاج للتدليل ، ففي الحالة المصرية مثلا ، يكفي القول أنها هي من بادرت بجر قاطرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني ، والآن هي من تدعو لتصفية القضية الفلسطينية والسلام الدافئ وصفقة القرن وبالطبع ذلك كله خدمة لإسرائيل ، فيما لا ينكر احد مدى التدخل الفرنسي في القرار السياسي التونسي سابقا، ذلك كان قبل ثورة الشباب ، أما بعدها وبعد أن أخمدت المؤامرات الغربية وأذنابها في الدخل جذوة الثورة فكانت السخرية من تلك الثورة بأن جعلت ثورة الشباب تتمخض عن رجل تسعيني حاكما للبلاد.
الصراع المذهبي
القوى المضادة للربيع العربي التي كما نعلم رأسها في الخارج وذنبها في الغالب هو من يحكم في بلداننا العربية ، استفادت كثيرا من الثورة السورية بعد أن حولتها إلي حرب طائفية ، أفزعت الناس في أقاصي الوطن العربي ، وشوهت فكرة الربيع العربي كخلاص للشعوب الراغبة في الحرية والاستقلال ، وعززت فكرة الخير في البقاء ضمن الحظيرة.
الغرب والمتشددون في الداخل يزجون بالعرب في هذا الجحيم الذي لا ناجي منه ، بينما تجاوز الغربيون تلك الخلافات في بلدانهم واعتبروها مصدر إعزاز وطني يدل على التنوع والتعايش المشترك.
الحرب المذهبية هي أخطر القنابل التي يسعى جميع الكارهين للعرب في تفجيرها في الوطن العربي، فلنحذر.
...............
السبت 13 أكتوبر 2018 17:06
بينما تجتهد دول العالم الحر في رصد ومكافحة كل العوامل المسيئة لآدمية الإنسان، وثبت مصر وثبات قوية للغاية نحو تعزيز حالة "العبودية" سواء تحت شعارات خدمة الوطن ، والتي كان آخر مظاهرها جلد مواطن بسبب إصراره على ضرورة التزام ضابط جيش بالدور في الحصول على "البنزين" في محطة وقود بسيناء ، أو تحت شعارات اقتصاديات السوق الحر، والعرض والطلب ، والتي كان آخرها احتفاء الإعلام المصري بخريج لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية يجيد خمس لغات وحصل على دراسات عليا في العلوم السياسية، ولكنه يعمل ماسح أحذية في الشارع ، وتجاهل هذا الإعلام أن المواطن أهدر كل ما تعلمه في عمل لا يحتاج أي علم ، وأن مسلكه لا يشجع الشباب على حب العمل ولكنه يحرض على عدم التعلم.
السخرة الرسمية
وتتمركز غالبية مظاهر العبودية في العمل بالسخرة والإكراه وهو ما تمددت رقعته مؤخرا، بعد أن كانت قاصرة فقط على العمل في "الجهات السيادية" بصفة عامة، وعلى بعض الظواهر الخاصة التي تتفشى في هذه الجهات والتي تتمثل في استغلال بعض القادة للمجندين بشكل شخصي بطريقة فجة، فيجعلونهم سعاة لقضاء حاجات أسرهم أو سائقين لسياراتهم، أو حراسا لممتلكاتهم، وهى الممارسات التي جرأت ثورة يناير الإعلام للتحدث عنها بشكل رسمي وتوجيه اتهامات لوزير داخلية مبارك ومساعديه بمثل تلك الممارسات.
بل إن الدولة راحت عبر كبار مسؤوليها تقر بأن أولاد الفقراء وأصحاب الوظائف المتدنية لن يتولوا الوظائف العليا مهما كان مستواهم التعليمي، وذلك كان خلاصة ما عبر عنه صراحة وزير "العدل" حينما قال إن أولاد جامعي القمامة لن يصبحوا أبدا قضاة، بينما جهر رئيس نادي القضاة عبر الإعلام بأنهم هم السادة -أي القضاة- وغيرهم هم العبيد!
جاء ذلك رغم ما هو معروف في مصر بالتوريث الفئوي لوظائف السلطة العليا مثل "القضاء والشرطة والجيش وأجهزة الاستخبارات" حيث صار العمل في تلك الجهات حكرا على بضع عائلات بعينها، وصارت ممارسات أفرادها فوق القانون والمحاسبة، كما احتكرت أيضا - ولكن بدائرة أكثر اتساعا - الوظائف الجالبة للثروة والمال والنفوذ.
وتمادت الدولة الجائرة في غيها فسنت قوانين تميز بين الناس تارة على أساس العمل كأن تعفي مشتغلي المهن السيادية من كثير من الصعاب التي يتعرض لها أبناء الشعب، بل ورحت تقنن حق الأب في تعيين الابن في عمله بما يتضمن ذلك من حرمان الأكفأ من العمل بتلك الوظيفة.
تمييز
وتمارس الدولة المصرية التمييز بين مواطنيها على أساس طائفي خدمة لأهداف سياسية، فإذا توفي مواطن من فئة ما نتيجة إهمال الدولة تكون ديته 5 آلاف جنيه " أقل من ثمن خروف"، أما لو مات مواطن أخر من فئة مقربة من السلطة فديته تبدأ من 100 ألف جنيه لتصل إلى المليون، وتلك المعادلة قد تنقلب عكسيا طبقا لخريطة المصالح.
كما أن هناك تمييزا على أساس جغرافي حيث إن محافظات بعينها يحتكر أبناؤها العمل بالجهاز الإداري للدولة ويتولون مناصب المحافظين ورؤساء المدن والأحياء والأندية وغيرها، وفي المقابل هناك محافظات مصرية يكون مجرد الانتماء إليها جالبا لشقاء صاحبه، وإذا خرج مواطنوها بعيدا عنها ينتظرهم الويل والتنكيل، فضلا عن منعهم من تولى أي مناصب بالدولة بل إنه لا يتم منحهم هويات مصرية دائمة كما هو الحال في سيناء.
وكذلك امتدت ظاهرة التمييز الجغرافي عبر انتشار حملات التبرع تارة بالبطاطين وتارة بمحطات مياه الشرب أو أضحيات العيد من أجل فقراء الصعيد، وهو ما أعطى انطباعا سلبيا لدى المراقبين الأجانب، والمصريين أيضا، بأن أهل محافظات الصعيد هم الأقل شأنا، مع أن الفقر لا يقتصر على محافظات الصعيد بل يتمدد على كل رقعة مصر.
طيلة العقود السابقة كانت هناك مظاهر تمييز ديني ضد المسيحيين في مصر - وهو أمر مرفوض بالقطع - لكن هذا التمييز أبدا لم يكن كالتمييز الحادث لهم اليوم، والفرق بين "التمييزين" كان صارخا حيث كان التمييز الأول اضطهاديا يتمثل كله في عدم منح الأقباط تراخيص بناء الكنائس، بينما التمييز الثاني كان احتفاء بهم وإغداقا في العطايا لها بما يهدر مبدأ المساواة بين مواطنيها، وتمثل التمييز الأخير في منح الكنائس مساحات شاسعة وغير مبررة من الأراضي لها لدرجة وصلت إلى منحها مناطق مصنفة محميات طبيعية، كما هو الحال في اقتطاع الكنيسة مساحات شاسعة من وادي الريان بالفيوم.
استعباد المعارضة
الآن تمايز السلطة بين مصري وأخر بقدر ما تتحصل عليه من معلومات حول مدى ولائه للنظام، فلو كان المواطن مؤيدا للسلطة فكل أخطائه يتم التجاوز عنها وتتعامل معه الدولة بكل اللين والهوادة، أما لو كان معارضا للسلطة فقد لا يرى الشمس مرة أخرى مع التنكيل بأسرته.
هذه مجرد خطوط عريضة لمظاهر التمييز والسخرة والعبودية في مصر وفي التفاصيل يكمن الشيطان.
...............
الجمعة 9 نوفمبر 2018 17:01
كان كل من هب ودب يقولها من باب "فض المجالس" لكنهم لم يجربوها قط، لكن هناك شخصا واحدا قالها صادقا وجربها بالفعل، فاستشهد ذائبا في حب الوطن بكل ما تعنيه الكلمة.
لعل من جملة أسباب كثيرة وراء التعاطف العالمي في جريمة مقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، بشاعة الجريمة ، والتنكيل بجسد إنسان تقطيعا ليس من قبل عصابة إجرامية، ولكن من قبل هيئة دبلوماسية لدولة تضع في علمها عبارة التوحيد ، ويوصف حاكمها بأنه خادم الحرمين الشريفين؛ المقدسين في دين يدعو كتابه المقدس للعدل ويقدمه على ما عداه من قيم وخصال، فضلا عن أن الرحمة هي ما تزين فاتحة الكلام عند معتنقيه، وهو ما شكل إساءة بالغة للإسلام وتشويها خطيرا لصورته الذهنية لدي شعوب العالم أجمع ، خاصة أن ما جرى لم يحدث في سجن ولا معتقل أو مركز تحقيق غير قانوني مخفي عن الأنظار، ولكن في مقر بعثة دبلوماسية مفترض فيها الالتزام بالحكمة والقانون والأخلاق.
فيما ألقى تواتر الروايات الأمنية عن أن هناك شكوكا بأنه قد تم قتله وإذابة جسده باستخدام أحماض ومواد فتاكة، ضوءا قويا على أن التعذيب لم يتوقف في نظم الاستبداد العربي عند حد سلب الحياة، ولكن امتد حتى حرمان القتيل من أن يكون له جسد يدفن في الثرى كما يدفن كل الموتى في الكون منذ بدء الخليقة.
أحماض فتاكة
المواد الفتاكة القادرة على التهام كل شيء كثيرة ومتنوعة، منها ما هو متداول ومنها ما هو غير متداول، فمن المواد الكيماوية المعروفة، مثلا، حمض الكبريتيك والذي يعرف شعبيا تحت اسم "ماء النار" وهو مادة لديها القدرة على التهام جسم الإنسان، وأيضا "الفوسفور الأبيض" وهو يؤدى إلى حرق وتفحم جسم الإنسان في ساعات، وكذلك حمض فلوريد الهيدروجين الذي لديه قدرة هائلة على التهام الجلد، وأيضا حمض الهيدروكلوريك، وهيدروكسيد الصوديوم، وهيدروكسيد البوتاسيوم، وغيرها.
كما أن مادة سوداء اللون، لزجة الخواص، تتكون من أكسيد الحديد والحديد السائل والصمغ وبعض المواد الكيماوية الأخرى التي تعطيها قوة جذب مغناطيسية هائلة، والمعروفة علميا باسم "ماجنتيك بيوتي" تستطيع هى أيضا أن تلتهم عظام إنسان في دقائق.
وحسب مقال لريتشيل بركس الأستاذة المساعد في الكيمياء بجامعة سان إدوارد بأمريكا، فان باستخدام كثير من تلك المواد أو بعض منها يمكن تذويب جسم إنسان كامل في ظروف البيئة العادية، في يوم واحد.
ومن أقوى الأحماض تلك التي تسمى باسم "حمض فائق" وهو الحمض الذي يمتلك حامضية أعلى من حمض الكبريتيك النقي 100%، وتشمل ثلاثي الفلور ميثان حمض السلفونيك والمعروف بحمض الترفليك، وحمض الفلوروسلفونيك وكلاهما أقوى بألف مرة تقريباً من حمض الكبريتيك، فيما يعد الحمض الأقوى على الإطلاق هو حمض الفلوروأنتيمونيك.
ولا يفوتنا هنا التأكيد أن مكونات كثير من الأحماض ليست بالأمر السهل شيوعه وتداوله ولا حتى تداول معلوماته، نظرا لخطورتها الأمنية، لذلك تلجأ كثير من الدول للتعامل مع تلك الأحماض والمواد التي تتكون منها بنفس القدر الذي تتعامل به مع أسرار الأمن القومي.
الذين ذابوا في حب الوطن
والحقيقة أن القتل تذويبا في الأحماض ليس بجديد في عالمنا العربي، ولكن الجديد هو أن الناس صدمت من بجاحة القاتل، وبراءة المقتول، وغرابة المكان، وبشاعة طريقة الاغتيال، والإخفاء التام لكل معالم الجريمة.
ففي مصر اختفي نائب رئيس تحرير الأهرام رضا هلال في 11 من أغسطس/آب 2003 في صمت، فيما قدم شقيقه عام 2009 بلاغاً إلى النيابة كاشفاً عن تلقيه مكالمة هاتفية عام 2007 تفيد بأنه مسجون في أحد سجون الإسكندرية، ثم راح يعلن بعد ذلك عن تلقيه اتصالا من شخصية أمنية رفيعة يخبره بأن أحد وزراء الداخلية هو من خطفه وقتله، ومثل بجثته بسبب انتقاده له، وبعد ثورة يناير خرجت تفاصيل تؤكد أن الداخلية خطفته وذوبت أجزاء منه في حمض فتاك فيما دفنت أجزاء أخرى داخل مبناها أو في مبنى وزارة الاستثمار!
هذه الواقعة سبقتها واقعة تذويب أخرى لجسم معارض سياسي ولكن في لبنان، الضحية اسمه سليم اللوزي وهو رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية حيث كان معارضا للرئيس السوري السابق حافظ الأسد لذلك حينما استشعر الخطر فر إلى لندن واتخذ منها موطنا، لكنه بعد وفاة والدته اضطر للعودة إلى بيروت في يناير ١٩٨٠ لدفنها، لكنه خطف من جوار زوجته في كمين على طريق مطار بيروت وبعد أسبوع وجدوا بقايا جثته في أحراش قرب بيروت وقد تمت إذابة أجزاء من جسده، وكانت الأصابع واليد مذابة بالحمض.
وكانت قد سبقت تلك الواقعة قيام حكومة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1959 باختطاف القيادي البارز في الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو من أحد شوارع دمشق أثناء زيارة سرية لها، وجاء الاختطاف إثر رفض الحزب حل نفسه بعد الوحدة بين سوريا ومصر، وقدم ما يسمى وثيقة المبادرات العشرة والتي تم رفضها، جرى تعذيب الحلو ليعترف بأسماء القيادات الرافضة للوحدة حتى مات ومن ثم ذوب جسده بالحمض كي لا يبقى له أثر.
كما شملت خريطة التذويب في حب الوطن المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة، الذي اختطف من أمام أحد مقاهي باريس عام 1965 ثم اختفى، وظهرت العديد من الروايات حول ما جرى له، هناك من يؤكد مقتله في باريس ثم دفن على جانب أحد الأنهار، وهناك من يقول أنه قتل في فرنسا ونقلت جثته بواسطة طائرة عسكرية مغربية ثم أذيبت في حوض من الحمض كي لا يبقي لها أثر.
فيما ترددت روايات "غريبة" بأن القاتل لم يكن الملك المغربي الحسن الثاني، كما يتوقع الجميع، ولكن كان جهاز الموساد الإسرائيلي الذي فعلها تقربا للملك من دون طلب منه.
عموما، القتلة سعوا في الحوادث السابقة لإخفاء أثر الجريمة عبر إذابة جثث ضحاياهم، لكن ما حدث أن الضحايا عاشوا في قلوب الناس، بينما هم من ماتوا فيها.
...............
الخميس 6 ديسمبر 2018 15:50
أصبحت ظاهرة "الذباب الإلكتروني" أو اللجان والكتائب الإلكترونية من أبلغ "سوءات" وسائل التواصل الاجتماعي في الوطن العربي خاصة بعد أن تفجرت ثورات الربيع العربي، والتي بغرض التصدي لها تفشت تلك الظاهرة على هذا النحو المزعج في محاولة بائسة من قبل نظم الحكم المستبدة للإيهام بوجود شعبية لها ولسياساتها والتي كان آخرها الإعلان عن قيام تويتر بإغلاق مئات الحسابات الوهمية التي كانت تغرد آليا لدعم سياسات النظام السعودي.
وقد كانت مصر من أوليات الدول التي تم الكشف فيها عن تلك المجموعات منذ الأشهر الأولى لثورة يناير، حيث انتشرت فيديوهات عن أعضاء في تلك الكتائب يؤكدون فيها وقوف الإمارات والحزب الوطني والشؤون المعنوية بالقوات المسلحة وراءهم، ثم بعد الانقلاب 2013 تكشفت معلومات أهم عن تلك الشبكات بوقوف صحفيين كبار وراء إدارتها، وذلك عبر تشكيلهم مجموعات من الأفراد لكل فرد عشرات الحسابات ينشرون نصوصا شبه موحدة تُملى عليهم.
وغني عن البيان أن لغة ومضامين خطاب تلك المجموعات "الأجيرة" والذي يمتاز بالركاكة والرعونة والتشكيك غير المبرر في الوطنية والولاء، يفتقر إلى أدب الحوار ويحتقر المنطق والقيم الإنسانية كالحرية والمساواة والعدالة، وهي ما نادت به ثورات هذا الربيع.
ذباب تويتر
وتبدو ظاهرة "الذباب الإلكتروني" واضحة تماما على موقع "تويتر" ربما بسبب استخدامه خاصية "الهاشتاجات" الأكثر تداولا، وهي الخاصية التي يمكنها أن تتيح لعمل تلك المجموعات الظهور وتحقيق أعلى المعدلات، من ثم قيام السلطة بالتدليل على تلك النتائج إعلاميا وسياسيا.
وربما تكون ملموسة جدا بسبب وجود الفرع الإقليمي لشركة "تويتر" في دولة الإمارات العربية وهي الدولة الراعية الأولى للثورة المضادة في الوطن العربي، وقد يكون أيضا بسبب قيام مستثمرين سعوديين مقربين من الحكم بشراء حصص كبيرة من تلك الشركة، حيث يمتلك الأمير السعودي الوليد بن طلال - بحسب تقديرات الخبراء - أكثر من 34 مليون سهم ما يمثل 17.5% من أسهم الشركة التي تقدر قيمتها بنحو مليار دولار أمريكي ليصبح الوليد بن طلال الذي بدأ الاستثمار في تويتر في 2011، صاحب ثاني أكبر حصة فيه اعتباراً من عام 2015.
وتستخدم السعودية – شأنها شأن جميع دول حصار قطر- شبكات التغريد الآلي "بوتات" و"ترولز" في تويتر والتي تعمل عن طريق أكواد برمجية تخبر الحساب، والحسابات الأخرى الشقيقة، بالتصرف على نحو معين للتأثير على آراء المواطنين وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، وإيهامهم على خلاف الحقيقة بان مواقفها السياسية تحوز إجماعا شعبيا، خاصة بعد اندلاع أزمة حصار قطر في يونيو/حزيران 2017، وبحسب الأمير السعودي المعارض خالد بن فرحان فإن سعود القحطاني - أحد أبرز المتهمين بقتل خاشقجي- هو من يشرف على تلك اللجان والشبكات ، فيما أكدت صحيفة الواشنطن بوست على تلك المعلومة في إطار تغطيتها لحادثة الاغتيال المروعة.
وقبل أن يعترف تويتر بوجود الملايين من حسابات الذباب الإلكتروني لديه ، كانت هذه الاتهامات يرددها رواد الموقع بشكل دائم ويدللون عليها بأن الهاشتاجات المؤيدة للربيع العربي قد تنجح في الوصول للأكثر تداولا ولكن سرعان ما تختفي بدون أى تدرج في الهبوط ما يعني أنها حذفت من قبل "إدارة" الموقع حذفا، فضلا عن شكاوى متكررة من النشطاء المؤيدين للربيع العربي بأنه يحدث بين حين وأخر "حذف" آلاف الحسابات التابعة لهم في ساعات محدودة ، وهو ما لا يتفق منطقيا على أن يكون أمرا طبيعيا، فضلا عن إغلاق حسابات كثير منهم بالضبة والمفتاح كما حدث مع المدون والناشط وائل عباس حينما أغلقوا حسابه بعد حذف عشرات الآلاف من متابعيه وقبل اعتقاله.
ثم جاءت كلمة الفصل حينما نشرت صحف غربية أن عميلا للسعودية في المركز الإقليمي لشركة تويتر سلمها تفاصيل عن أصحاب حسابات معارضة منها حساب "كشكول"، ما سهل قيام المملكة باعتقال صحفي يدعى تركي الجاسر اتهمته بإدارة الحساب وقتلته في المعتقل.
ورغم كل ذلك فان شركة تويتر الرئيسية تنفي بشدة تأثير وجود المقر الإقليمي لها في الإمارات أو توجهات المساهمين على عمل الموقع.
فيما ذكرت صحيفة واشنطن بوست إن 17% من عينات عشوائية لتغريدات باللغة العربية ذُكر فيها اسم قطر العام الماضي قد نُشرت من قبل حسابات وهمية، أو شبكة ذباب إلكتروني.
مكافحة الذباب الالكتروني
أفتك وسائل الإبادة للذباب الإلكتروني هو "الحظر" و"الإبلاغ" وعدم الانجرار وراء محاولات الحوار معهم والإقناع، لأنهم باستغراق وقتك وإجهادك يكونون قد حققوا غايتهم في إصابتك بالزهق واليأس وإبعادك عن منبرك لتخسر بذلك معركة الوعي أحد مقاتليها، فضلا عن أنهم أبدا لن يقتنعوا بما تقوله لهم لسبب بسيط وهو انه ليس لديهم الوقت للحوار المتماسك معك، وأنهم لا يقرأون تعليقاتك من الأساس، فضلا عن أنهم هم في الأساس غير معنيين بقضية الصواب والخطأ، وردودهم دائما هي نصوص ثابتة محفوظة كثيرا ما تفتقر للمنطق.
وتتمثل أهمية الحظر في أنه لا يحميك وحدك فحسب، بل أيضا يحمى متابعيك من وصول أسراب الذباب إليهم وتكرار التجربة معهم، ويحول دون تعرض معلوماتك ومعلوماتهم للسرقة والتهديد والابتزاز.
أما أهمية الإبلاغ فهي في أنها تفقد الذباب الإلكتروني أساسات عمله من "الحسابات الجاهزة" وتشغله في إنشاء حسابات جديدة، وهى عملية مرهقة مع الكم الهائل المطلوب إنشاؤه، خاصة أن كل حساب منهم يحتاج إلى إنشاء بريد اليكتروني أو وجود رقم هاتف جوال قبل تدشينه.
وفي النهاية.. متى يعلم المستبدون أن الذباب الاليكتروني لا يصنع شعبية ولا حقيقة.
.................
سيد أمين
على الرغم من أن لدى النظم الغربية قناعة تامة بأن المنطقة العربية لا يصلح معها نظم الحكم الديمقراطية، وأن الديمقراطية ستؤدى حتما إلى صعود الإسلاميين بشكل عام وكبير، ويليهم القوميون الوحدويون، وأنه لا يمكن السيطرة عليها إلا عبر حكام عسكريين أو شموليين موالين لها، على الرغم من ذلك كله، إلا أنها قَبِلَت بثورة يناير على مضض، تلبية لمطالبات حقوقية داخلية لديها تطالبها بدعم مطالب الشعوب.
هنا سارعت الثورة المضادة التي انطلقت مع قرار "تخلي" حسني مبارك في 11 فبراير 2011 عن الحكم إلى تعزيز التأييد الغربي لها عبر إثارة مخاوفه من المسار الشعبي والديمقراطي الذي قد تسبّبه لهم تلك الثورة عبر رسائل مخادعة انطلقت حينها، لم يقرأها ثوار كثيرون بعد، وهو ما عزّز القناعة الغربية القديمة بالحاجة إلى تكسير كل القيم الأخلاقية الغربية والعودة لدعم النظم السلطوية.
وراحت "الثورة المضادة" تستغل أجواء الحريات التي منحتها "الثورة" للشباب المكبوت، من أجل التنكر في زي الثوار والإعلاء من مطالبات تشكل خطوطا حمراء على النظام الدولي القائم، سواء فيما يتعلق بإسرائيل أو حدود النظام الذي تم رسمه في سايكس بيكو وما تلاها من خرائط ومن نظم حكم.
نتذكّر معا بعضا من معالم تلك الرسائل، كي لا تدفن طي النسيان، فلقد أرسلت الثورة المضادة في أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول2011 رسائل عاجلة إلى إسرائيل، وداعميها عبر الدعوة للحشد من أجل فتح الحدود لتحرير فلسطين، وقيام عناصر تبدو ذات سمت إسلامي لتتبناها، ويتم تسليط الأضواء حول وقوف الوازع الديني وداعميه وراء تلك الدعوات والحشود.
ثم ازداد الأمر تأزيما، حينما تم توجيه الحشد إلى مقر السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وما أعقبه من اقتحامهم مبناها بمنتهي السهولة واليسر، ثم سحب إسرائيل سفيرها من القاهرة.
هذه رسائل وجهتها الثورة المضادة لتحفيز الغرب بدعمها ضد من يعرضون اتفاقية السلام للخطر، ليس ذلك فحسب، بل يهددون بإلقاء إسرائيل في البحر إذا فتحت لهم الحدود!
وتجاوب الغرب مع تلك الرسائل بسرعة، مضحيا بالديمقراطية التي يتشدق بدعمها وراح يساند الثورة المضادة، رغم أن الإسلاميين الذين وجهوا الدعوات بالحشد، هم من أعضاء حزب النور الموالي لسلطة الثورة المضادة كما اتضح لاحقا، فيما قاطعها صراحة الإخوان المسلمون وحزب الوفد. وتحوم حول تلك الأحداث شبهة التواطؤ الإسرائيلي مع الثورة المضادة في افتعالها، خاصة أن إسرائيل كانت أصلا تنوى تغيير سفارتها في القاهرة إلى مكان أكثر تأمينا وقامت بتفريغ المقر من محتوياته.
كما أرسلت الثورة المضادة أيضا رسائل إلي السعودية، تحذرها من أن تتدحرج كرة النار لتصل إليها، وذلك بغية استجلاب المال الخليجي، وحثها على إبداء دعم مالي كثير للانقضاض على الثورة أولا، وإغراء الغرب ماديا في مقابل الصمت ثانيا، واستنفار الشخصيات والجماعات المرتبطة بها في مصر لشق التيار الإسلامي داخليا أو المباعدة بينه وبين التيارات الأخرى ثالثا، وأيضا توريط الإخوان وتحميلهم أوزار كل تطرف رابعا.
وكانت أبرز تلك الرسائل هي ما جري في أحداث حصار نشطاء للسفارة السعودية في القاهرة، وقنصليتها في السويس في إبريل/ نيسان 2012 على خلفية اعتقالها الناشط المصري، أحمد الجيزاوي، وحبسه وجلده بزعم إهانة الملك وتهريب مخدرات.
وعلى الرغم من أن مؤتمر دعم سورية عقده مرسي لإغاثة الشعب السوري الذي يجري ذبحه على يد نظام استبداده وحلفائه الروس، إلا أن الثورة المضادة تعاملت مع المؤتمر بوصفه تجييش سني طائفي في مواجهة الشيعة وإيران على خلاف الحقيقة.
كما أرسلت الثورة المضادة رسائل إلى الحكومات والأحزاب والنافذين في جميع البلدان العربية والإسلامية، مفادها أن أي مسار غير إقصائي للتيار الإسلامي في الأساس يعني اكتساحهم للمجالس النيابية "شعب وشورى ونقابات ورئاسة" وتشكيل الحكومات، وبالتالي حرمانكم من سلطاتكم ونفوذكم وثرواتكم وستتم محاسبتكم. وقد ساهم في تعزيز تلك المخاوف الاكتساح الذي حققه الإسلاميون في جميع الانتخابات الديمقراطية التي جرت بعد الثورة، وهو على الأرجح أول مقياس حقيقي لشعبية تلك التيارات وتركته الثورة المضادة يظهر على حقيقته لتخويف نخب حكم تلك الجوار.
هذه كانت رسائل واضحة أطلقتها الثورة المضادة في حينها وما كان ينقصها حينها إلا قراءة الثوار.