كلما تلفت مصري حوله خصوصا في تلك الأيام الكئيبة التي تعيشها مصر، حيث جري تأبيد السلطة للحكم الشمولي، ومقاصل تعمل بلا كلل أو ملل لتقص رقاب خيرة شباب مصر في محاكمات صورية يعلم حقيقتها القاصي والداني، لدرجة تجعل أحدهم يحكم على 400 شخص بالإعدام في جلسة واحدة لم تستغرق ساعة واحدة، والظلم الصارخ تجده أينما وليت وجهك في أرجائها، تحضره دائما المقولة المأثورة للشيخ عبد الحميد كشك بأن تسعة أعشار الظلم في العالم توجد في مصر، أما العشر الأخير فيجوب العالم ثم يأتي ليبيت ليله فيها أيضا.
حقا لم يعد أي مصري يندهش من أن تكون بلاد الظلم أوطانه، فهذا حقائق ساقها لنا الدين وتناغم معها التاريخ، ففي بلادي أهرامات فريدة يعدها البعض رمزا للهمة والنشاط والإبداع، لكنهم تجاهلوا حقيقة أنها كانت تخليدا لقبور الطغاة ومثالا صارخا على السخرة والمذلة والهوان تسبب في موت عشرات الآلاف من العمال الأبرياء من بسطاء القوم لتخليد ذكر جثة هذا الطاغية أو ذاك، وعنها جاء القرءان ليذكرنا بفرعون الطاغية ذي الأوتاد الذي أجبر شعبه على عبادته، والذي استخف بعقولهم فأطاعوه، وفيها جاء ذكر جنده أو جندها المغرقون، وقومه الظالمون، وفيها جاء ذكر السجن لأول مرة في التاريخ، حتى حينما ذكرت بخير في القرءان قالها تعالي ليس لبنيها ولكن لبني إسرائيل” أدخلوها بسلام أمنين”، وحينما شكا بنوا إسرائيل من الطعام الواحد فأمرهم الله بأن ينزلوا مصر وقال لهم ” أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ”.
ناهيك عن وقوع مصر بين سلسة متواصلة تقريبا من الاحتلالات الخارجية منذ فجر التاريخ وصولا إلى تاريخها المعاصر، فيها كلها لم يتغير وقوع مصر تحت الاحتلال، بل تغيرت على أرضها طرق هذا الاحتلال، فتبدل من احتلال مباشر إلى احتلال بالوكالة، وهو ما يجعلك عاجزا عن إيجاد فترات للاستقلال الحقيقي فيها.
من تاريخ الخوف
تناوب على أرض مصر المستعمرون من كل حدب وصوب دون أدنى مقاومة تذكر من المصريين، حتى أنهم كانوا في كثير من الأحيان يهرعون لمساعدة الغازي الجديد على أمل أن يكون أقل ظلما من ظلم الغازي القديم، أو يهرعون لمساعدة الغازي القديم على أمل أن يتلطف بهم ويكافئهم بالرحمة.
وكانت تلك المساعدة مشروطة بأن يتيقنوا بأن كفة النصر مالت لصالح أحد المتصارعين، فيقومون بمساعدته لوضع لمسات الخلاص النهائية.
وتاريخيا أيضا؛ كان تنكيل الغازي المنتصر بالأخر المهزوم ومن دار في فلكه من المصريين الذين كانوا يلقبون بـ “الحرافيش” – أي الأقل شأنا – تنكيلا وحشيا، يتفنن فيه القاتل في تعذيب المقتول قبل أن يقتله بدءا من تقطيع الأطراف لسلخ الجلد للخازوق لفقأ العيون، ناهيك عن اغتصاب النساء والأطفال إلى إهانة رجولة الرجال، كما كان هو الحال متفشيا في نهاية الدولة المملوكية.
أمام كل تلك الفظائع آثر المصريون السلامة وعزفوا بعيدا عن السياسة حتى أنه حينما تسنى لهم الحكم عام 1805اختاروا مستبدا أجنبيا ليمارس عليهم ذات الاستبداد مجددا، ولما غزا الإنجليز البلاد1882 اعتبروا أن ابن البلد الذي تصدى لهم خائنا مارقا وتجندوا في صفوف جيش الاحتلال، وحاربوا تحت راية الصليب البريطاني دولة الخلافة الإسلامية عام 1914، والحكايات من هذا القبيل كثيرة جدا في كل تاريخ المصريين.
عموما، التاريخ مكتظ بمحطات الخوف عند المصريين لدرجة فقدانهم الأمل في الخلاص من الظلم، لكن سرعان ما ترفع عناية الله هذا الظلم عنهم بلا حول منهم ولا قوة.
والصحيح أننا نعمل على الخلاص وننتظر عناية الله، ولنتذكر أن بالحسابات العقلية البحتة كانت نجاة يونس من بطن الحوت مستحيلة لكنه نجا، وكانت نجاة موسى من بطش فرعون مستحيلة إلا أنه أيضا نجا، حتى انتصارات المسلمين الأوائل الكبرى كلها كانت مستحيلة، لأنهم في أغلب الحروب هم الأقل عددا وعدة، لكنهم مع ذلك فتحوا الأرض قاطبة.
تأييد الإعدامات
يا الله، كيف يهنأ المرء منا وهو يدعو لتعاسة الناس؟ كيف يطلب الشفاء لنفسه ومحبيه من الأمراض حتى لو “نزلة برد”، ويطلب في الوقت نفسه موت أبناء الناس؟ كيف يرجو العفو والرحمة لنفسه، وهو يبرر قطع رءوس أبناء الناس؟ كيف حولنا هذا الانقلاب البغيض إلى وحوش؟
كيف انقلبنا على الإنسان فينا، وأعلينا من شأن هذه المسوخ، كيف يفعل المرء ذلك وكأن حياة الآخرين انتقاصا من حياته؟ ورزقهم انتقاصا من رزقه؟ ويجهل أن الله وحده واهب الحياة ونازعها.
من أين خرج هؤلاء الناعقون؟ الذين يبذلون جهدهم لمنع صراخ المكلوم، وإغراق أعواد القش التي يتعلق بها الغريق، ويتطوعون بسياطهم لمساندة الجلاد المتغطرس الذي بظلمه وقهره هو أصلا لا يحتاج إليهم؟
أنصح مثل هؤلاء بأن يعودوا لإنسانيتهم، فهم في الحقيقة الأحوج للإنقاذ من هؤلاء الذين يجري تنفيذ الإعدامات الظالمة فيهم، وليعلموا المعلوم بان الحياة تفنى على الظالم أيضا كما المظلوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق