72 عاما مرت على ثورة يوليو/تموز 1952 (إن جاز توصيفها بالثورة وهو قطعا لا يجوز) تلك التي أوصلتنا نحن -المصريين- إلى الواقع الذي نعيشه الٱن، ولا تخفى تفاصيله على أحد.
منذ ذلك اليوم أخذ هذا البلد يتقزم مساحة ونفوذا، إذ تسلَّمه الضباط “الأحرار” -إن صدَق الوصف وهو لا يَصدُق- وحدوده الجغرافية تقترب جنوبا من بحيرة “فيكتوريا” منبع النيل الأبيض، وتخضع بحيرة “تانا” منبع النيل الأزرق الشريان الرئيسي لنهر النيل تحت سطوته السياسية والثقافية، لكن “أحراره” أفقدوه في أيام معدودات أكثر من نصف مساحته بتفكيك السودان الذي انشطر هو الآخر إلى نصفين.
ولم يتوقف تشظيه عند هذا الحد، فما لبثوا حتى أفقدوه في ليلة وضحاها سيناء الحاضرة الغائبة، عادت غريبة مقيَّدة لا روح فيها.
وتسلَّموه وهو دائن لبريطانيا العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، فأمعنوا فيه البطش والتنكيل حتى حولوه إلى ثقب استدانة أسود مدين لطوب الأرض، لدرجة تغيرت معها مفاهيم النجاح، وصارت القدرة على مزيد من الاستدانة عملا بنّاء يستحق الإشادة والاحتفال!
ولم يفق الغافلون من وهم الثورة حتى حينما أوقع هؤلاء “الأحرار” هذا البلد في سلسلة هزائم إحداها كانت مثالا للهزيمة الساحقة الماحقة في تاريخ الحروب في العالم، رغم أن صناعها أنفسهم لم يقولوا إنها ثورة ، فضلا عن أن الثورة حينما يقوم بها الجيش والسلطة لا تُسمى إلا انقلابا.
تأملات وبديهيات
لست أدري ما السبب الذي يدفع البعض باستمرار إلى ترديد المغالطات والدفاع عن باطل تكشّف زيفه، فلا هي ثورة ولا حتى حركة مباركة ولكنها انقلاب عسكري واضح قاده بضعة من صغار الرتب العسكرية، ما كان بمقدورهم أن يقتربوا من قصر الملك دون أن يقوم الاحتلال الذي يسيطر على البلاد بتأمين حياتهم ويمنع الجيش من اعتقالهم وقتلهم على الفور، خاصة أن غرفة صغيرة من غرف حراسات القصر كانت تكفي لحبسهم جميعا، ودبابة واحدة أو رصاصات تنطلق من سلاح جندي واحد من حراسه كانت قادرة على قتلهم لولا علم الجميع بوقوف الإنجليز خلفهم.
ولعلنا بحاجة هنا إلى التأكيد أن الثقة بين الإنجليز والملك كانت معدومة بعد تكشّف مساعدته للألمان في العلمين عام 1942، وهو ما دفعهم إلى محاصرة قصره في 4 من فبراير/شباط، وإجباره على حل حكومة الأغلبية وتشكيل حكومة أقلية من حزب “الوفد” ليؤمّن لهم ظهورهم.
وإذا كان الإنجليز قد تصرّفوا بهذا الشكل لأنهم لم يرضوا عن الحكومة التي خشوها لأنها من اختيار الشعب؛ فكيف نفسر عدم تحركهم لإنقاذ الملك نفسه، لو لم يكن من قاموا بالانقلاب هم رجالهم؟ وهم الذين عبثوا بأمواله وأموال وأعراض نخبة البلاد، ومع ذلك لم يقتربوا من الاحتلال حتى رحل طوعا عام 1954 مع أنه كان الأولى بالمقاومة، بل إنهم تركوا الشعب ليحارب بديلا عنهم العدوان الثلاثي 1956.
ونحن بحاجة أيضا إلى التذكير بأن بريطانيا وفرنسا قامتا في خمسينيات القرن الماضي بتنفيذ خطة تقضي بجلائهما عن مستعمراتهما مقابل تعيين حكومات عسكرية مختارة تديرانها من الخارج، وذلك للحيلولة دون نجاح الاتحاد السوفيتي في تحريض شعوبها على الثورة الحقيقية.
التفاصيل كثيرة لو تأملها أحدنا بشكل موضوعي لا تحيّز فيه؛ لقرأ المشهد بشكل أكثر دقة وصدقا ووضوحا، ولعرف وقتها أن كل من ذهبوا في حرب فلسطين 1948 وجلبوا معهم النكبة رغم كثرتهم وعتادهم وحاولوا تلفيق مصيبتها للملك عبر”أكذوبة الأسلحة الفاسدة” التي افتضح أمر كذبها فاضطروا إلى إنكارها رسميا، هم أنفسهم من كانوا في سدة الحكم وجلبوا معهم “النكسة” التاريخية في يونيو/حزيران 1967 التي تضاعف حجم “إسرائيل” بسببها ضعفين، وخاضوا حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 فصارت تل أبيب بعدها تتحكم في كل عواصم العرب.
أخطاء يوليو
يمكنك أن تنظر في المقراب من الجهة الصحيحة لترى أن غالبية ما نُسب إليها من إنجازات لم يكن دقيقا.
فمجانية التعليم مثلا كانت مكفولة قبلها، ثم أكدها الدكتور طه حسين حينما تولى أمر وزارة التعليم في بداية الأربعينيات.
وعملية تأميم ممتلكات نخبة النظام الملكي هى في الواقع عملية قرصنة غير ديمقراطية، ومع ذلك لم يذهب ريعها إلى الشعب، ولكن استخدمها الملاك الجدد لتكون متاعا لهم، حيث سكنوا هم القصور وحولوا بعضها إلى سجون لمن غضبوا عليهم من الشعب وحتى منهم أنفسهم.
أما توزيعهم الرقعة الزراعية على الفلاحين فإنما ساعدت في تفتيتها وشجعت على الاستهانة بها وتحويلها إلى أرض سكنية وسط تغاضٍ غريب منهم عن تفشى العشوائيات عليها، فانقلبت الأمور حيث وُجدت المساكن على النيل بينما الزراعات في الجبال.
والمنشآت الصناعية بقدر كونها مهمة للداخل اقتصاديا فهى مهمة أيضا للخارج الذي يحتاج إلى نقل المواد الخام إليه في حالتها الوسيطة والنهائية خاصة تلك الملوثة للبيئة كمصانع الأسمنت والكيماويات وما شابه، وقس على ذلك الكثير .
أما العمل الديمقراطي فـ”أحرارها” لم يحاولوا -مجرد المحاولة- التظاهر بأنهم يؤمنون به، فحلوا الأحزاب والنقابات والجمعيات وكل ما هو تمثيلي، وأمنوا بهذه الدونية إلى درجة جعلتهم لم يستحوا من حشد رعاع القوم للهتاف ضد تداول السلطة والديمقراطية بوصفها كفرا.
نحن هنا لا نضمر سوءا لهذا الحدث، ولكننا لا نجد فيه ما يقنعنا به.
اقرأ المقال على موقع الجزبرة مباشر
https://bit.ly/3WBILYn
الوطنية من حب الوطن الى تقديس الفرد..عبد الناصر نموذجا