الأحد، 9 مارس 2025

ما الذي يضير ساويرس من “مصر العربية”؟- سيد أمين

 

منذ عدة سنوات حذرت في مقال لي بعنوان “ليتها معركة حول هوية كليوباترا فقط” على تلك المنصة القيمة، من أنه قد تكون هناك توجهات أو قل “أمنيات” لدى البعض لإلغاء وصف “العربية” من المسمى الرسمي لجمهورية مصر العربية، وهو ما دعا إليه رجل الأعمال نجيب ساويرس في تغريدات له مؤخرا على أكس.

قلت نصا في المقال “أظن أن هناك من ينبش لأن يتم نزع توصيف “العربية” من المسمى الرسمي لـ”جمهورية مصر العربية”، والألاعيب التي تمارس لنفي عروبة مصر كثيرة ولا تتوقف، وإذا أغمضنا أعيننا فلا يُستبعَد أن نكون أمام أندلس جديدة”. انتهى الاقتباس.

ولو تتبعنا الخط المستقيم لتغريب التعليم والدراما، وإهمال اللغة العربية في مكاتبات وإعلانات ولوحات الشركات والمحال ولوحات الشوارع، وما ترافق مع ذلك طوال العقود الماضية من هدم وتهاون وإهدار للعديد من الآثار العربية والإسلامية في طول البلاد وعرضها، مقارنة بما يقابلها من تمجيد للآثار الفرعونية والبيزنطية واليونانية والبطلمية والمسيحية كبرت أو صغرت؛ لكان ذلك كفيلا وحده بتعميق هذا الاعتقاد.

واقعة ساويرس

حاولت أن أجد مبررا واحدا لما قاله ملياردير كالمهندس نجيب ساويرس يدرك جيدا خطورة ما يقول ومغزاه ومردوده، واعتقدت لبرهة أنه الفراغ، لكني مع ذلك لا أعتقد أن شخصا مثله تمتد شركاته في العديد من دول العالم لاسيما تلك الدول وقعت تحت نير الغزو الأمريكي كالعراق وأفغانستان، لديه وقت فراغ إلى هذا الحد.

ما الذي يضير رجل الأعمال الكبير؟

بحثت عن أي مبرر يعود على مصر وشعبها بأي نفع من هذه المطلب الغريب الذي استهل به قدوم شهر رمضان الكريم فلم أجده، فالمواطن المصري الآن لا يتطلع إلى تغيير مسمى دولته ولا يخالجه هذا المطلب في أكثر أوقاته فراغا، ولكنه يتطلع إلى الحرية والديمقراطية والكرامة، ويتطلع إلى مجابهة غول الغلاء والفقر والمرض وانهيار الخدمات، وهذا ما كان يجب على المهندس ساويرس أن يتحدث عنه إن كان يتحدث عن مطلب المجتمع، ليكون بذلك قد اقترب بشدة من معاناة الشعب وطموحاته بدلا من التحليق في الفضاء منفردا.

ليتها كانت مجرد تغريدة واحدة ولكنه شغل وقته الثمين للبحث داخل المنصة عن وجهات نظر توافق مطلبه وراح يعيد نشرها، وسط انقسام كبير في التعليقات وكان معظمها رافض للمقترح، وقليل متحمس له جدا معظمه من نفس الطيف الذي ينتمي له، وشبه مقيم في صفحته للتعليق على منشوراته ومدحها والثناء عليها.

دعوات الفرعنة

دعاة التغريب لم يضيعوا من قبل أي فرصة للطعن في عروبة مصر، وسعيهم لحرفها إلى أي هوية أخرى غير هويتها العربية المستقرة منذ 14 قرنا، تارة بدعوات الفرعنة التي أطلقها السادات بعد مقاطعة العرب له عقب مؤامرة كامب ديفيد التي وقعها منفردا مع الكيان الصهيوني، وما سبقها من قيام جمال عبد الناصر عام 1955 من نقل تمثال رمسيس الثاني من بيت رهينة بالجيزة إلى ميدان باب الحديد الميدان الأهم لمصر في هذا الوقت، وتسميته باسمه الحالي ليكون تذكيرا دائما بالهوية القديمة للبلاد، وما تلا ذلك مؤخرا من تدريس الهيروغليفية في رياض الأطفال.

بل إن الضجة المفتعلة التي أثيرت قبل عامين حول لون بشرة كليوباترا السمراء التي ظهرت بها في عمل وثائقي أنتجته منصة نتفليكس، واحتجت مؤسسات رسمية في الدولة عليه كالمجلس الأعلى للآثار ومجلس الوزراء بأنها بشرة لا تتناسب مع بشرة الفراعنة واعتبرت أن ذلك تشويه لتاريخ مصر والفراعنة، مع أن كليوباترا ليست فرعونية ولا مصرية أصلا، كان الهدف منها مجرد إثارة لغط الهوية.

وقد سبقها لغط مفتعل يتكرر من حين لأخر حول الوجود العربي في مصر أهو فتح أم غزو؟ حيث وجدنا الدكتور وسيم السيسي في مقال له بجريدة “المصري اليوم” بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2021 يصفه بأنه احتلال، ويدعو إلى إحياء اللغة الهيروغليفية وفرعنة مصر.

والحقيقة أن دعوات اعتبار العودة إلى ما قبل الفتح العربي لمصر عودة إلى لأصل هي التدليس ذاته، فالرومان الذين كانوا يحكمون مصر قبل الفتح ليسوا هم الفراعنة، وكذلك أجناس عديدة حكمت مصر لآلاف السنين كالبطالمة واليونانيين والبيزنطيين والهكسوس والفرس والأحباش، وبالتالي فدعوات فرعنة مصر تشبه تماما دعوات تسليم الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا للهنود الحمر، فضلا عن سؤال مهم هو أين نجد الهنود الحمر في هذه البلدان؟ وأين نجد الفراعنة في مصر؟

دعوات الحداثة

حينما تعذرت محاولات الفرعنة لأسباب كثيرة، تحول دعاتها مباشرة إلى تجريح اللغة العربية بوصفها لغة متخلفة لا تناسب علوم اليوم، وطالبوا بالتوسع في تعليم اللغات الأجنبية، وهو ما يؤكد أن همهم ليس الفرعنة ولكن محو عروبة مصر، وأهم مظاهرها اللغة العربية ثم المسمى الرسمي للدولة.

هم بهذه الدعوات كمن لم يعجبه شكل باب منزله فباع المنزل كله بدلا من أن يغير فقط بابه، حيث كان يمكنهم بدلا من تغيير لغة البلاد لتناسب العلوم الجديدة أن يقوموا بتعريب العلوم الجديدة ونتطور بها بلغتنا القومية، تماما كما فعل العراق وسوريا، وكما فعلت الصين واليابان وجميع دول العالم الصاعدة في عالم اليوم.

هذا فضلا عن أنه ليس شرطا أبدا أن نكون دولة متطورة حينما نتحدث الإنجليزية أو الفرنسية، فمعظم دول العالم التي تتحدث اللغة الإنجليزية أو الفرنسية في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية هي بلدان متخلفة أو لا تقل حالا عن حالنا.

…………..

نأمل ألا يكون الاهتمام المفاجئ من المهندس ساويرس بهذا الأمر له ما بعده.

مع اليقين بأنه حتما سيكون.


 أقرأ المقال على الجزيرة مباشر

https://bit.ly/3DleE1F

الأحد، 2 مارس 2025

الرساليون لا يستسلمون.. ينتصرون أو يستشهدون - سيد أمين

 

لست أدري من أين أتى هؤلاء بقناع واق من الخجل كي يسخروا إمكاناتهم الشريرة لإدانة المقاومة الفلسطينية والافتراء عليها لحرفها عن معركتها ومعركة الأمة المصيرية في أشد أوقاتها حرجا؟

وكيف تجرأوا على الظهور بهذا التعري القبيح الساعي لتجريدها من سلاحها وهي التي ضحت بالغالي والنفيس في النفس والمال والبدن من أجل تحقيق ما عجزت جيوشهم العربية المجيشة على تحقيقه منذ نشأة الكيان الصهيوني؟

فقد تمادوا في غيهم لحد مطالبة المقاومة الباسلة بالاستسلام، ويزيد بعضهم بمطالبتها بقبول الخروج الآمن لمنفى اختياري، وهى التي صمدت في وجه أعتى آلة فتك عرفها التاريخ، وفقد مجاهدوها  أسرهم وأحبتهم وبيوتهم، وهو المطلب الذي إن حدث- لا قدر الله-  لوجدنا هؤلاء أنفسهم أول من يوجهون سهام الشماتة إليهم، ويتهمونهم بأنهم ضحوا بشعبهم من أجل مصلحتهم الشخصية، ولا شك أن هؤلاء المثبطين أنفسهم هم من دأبوا طيلة عقدين مضيا على استغلال فترات الإعداد والتخطيط والكمون ليتهموا المقاومة خلالها بأنها تسعى للسلطة وتخشى الحرب، وأن صواريخها مجرد ألعاب أطفال.

هؤلاء القوم على ما يبدو متخصصون في الوقوف إلى جانب الشر أينما كان، ويزخرفون مغالطاتهم بمنطلقات تبدو مقنعة مع أن جوهرها يخالف المنطق تماما، فهم يقولون مثلا أن المقاومة الفلسطينية ضحت بالشعب الفلسطيني وسببت له المعاناة، وهو في الحقيقة قول سخيف يجافي البديهيات وحقائق التاريخ.

حقائق التاريخ

أول تلك الحقائق أن من أوصل الشعب الفلسطيني لهذه الحالة وجعله يعيش تهجير بعد تهجير، ونكبة بعد نكبة، فتكدس على 15% من مساحة أرضه التاريخية؛ هو فقدانه قديما لمثل تلك المقاومة الفاعلة التي تستطيع أن ترد وتؤلم العدو، وأن الجزء الأكبر الذي فقدته فلسطين التاريخية من أراضيها كان بسبب وقوعهم في خديعة الإرتكان إلى سلاح غيرهم من الجيوش العربية، وهي التي ثبت أنها لم تقدهم إلا إلى هذا الواقع المذري، والمثل “ما يقول ما حك ظهرك إلا ظافرك”. وثانية الحقائق أن المقاومة هي من أشعلت في شعبها وفي الأمة كلها شعلة الأمل التي كادت أن تنطفئ، فجعلت للدم الفلسطيني ثمنا بعدما عاث العدو طيلة عقود يسفكه مجانا، فيقتل من يشاء متى شاء وكيفما شاء، وبسبب وبدونه، دون أن يخشى حتى وخزة إبرة.

وثالثها أن لكل شعب جيش، والمقاومة هي جيش الشعب الفلسطيني الذي استطاع أن يعدل الجدار المائل، وأن يرد للعدو الألم بالألم، وليس بالموت في صمت كما كان يجرى طيلة عقود، ومن السفه أن نطالب جيش أمة ما بإلقاء سلاحه والاستسلام لعدوه فقط لأنه قرر أن يقاوم ويقوم بالأدوار التي تصنع من أجلها الأسلحة وتؤسس لها الجيوش وهي حماية الأرض والعرض والنفس.

رابع تلك الحقائق أن هؤلاء لم يشعروا بالعار جراء تواطؤهم أو قل فشلهم في إدخال الأطعمة للشعب الفلسطيني المطبق عليه العدو والصديق الحصار طيلة عام ونصف العام من الموت والمجاعة، مع أن الواجب عليهم شرعا الدعوة للزحف نصرة للمظلومين، بل ودعم المقاومة بالسلاح والعتاد، تماما كما تفعل الحكومات الغربية مع المعتدي، وإن لم يكن الأمر بالشرع فهو واجب لروابط العرق والدم والجيرة والإنسانية.

وفي النهاية فأي مراقب منصف كان يعلم منذ البداية أن انتصار المقاومة يعني تدخل وكلاء إسرائيل في اليوم التالي بالخطط العجيبة الملتوية من أجل إجهاض هذا الانتصار.

ولقد كان ذلك متوقعا من هؤلاء وجامعتهم العربية التي لم تنتفض طيلة عام ونصف العام من الذبح والتنكيل بالشعب الفلسطيني على فعل أي شيء غير إصدار بيانات حفظ ماء وجه هزيلة، ربما كانت بيانات تصدرها خارجية دول في حواف العالم مثل هندوراس ونيكاراجوا أو جنوب أفريقيا أكثر تعبيرا وقوة وفعالية منها.

أبعاد دينية

لست فقيها دينيا ولكني لست بحاجة لأن أكون كذلك لكي أفهم أنه لا يكتمل إيمان المسلم وقيامه وصيامه بينما هو راضخ في المذلة والهوان، ولا يصح له إن كان “قاعدا” بدعوة “المجاهد” ليعيش هذه الحالة الإستسلامية البائسة بدعاوى الحكمة وتجنب إلقاء النفس للتهلكة.

كما علمنا التاريخ أن الرساليين وهم أصحاب الرسالات الإنسانية السامية لا سيما الإسلام يضعون عقيدتهم ومقدساتهم وأوطانهم وأعراضهم في أعلى التصنيفات الواجب عليهم الحفاظ عليها، فيما تأتي أبدانهم وأموالهم في أدناها.

ويضرب لنا القرآن الكريم العديد من الأمثلة البليغة بأن الموت والحياة  قرار إلهي، وأن فرار المرء منه لا يمنع حدوثه، وعدم خشيته لا يقربه منه، ففي أواخر سورة البقرة يتحدث عن قوم عددهم بالآلاف فروا من الموت وتركوا مدينتهم هربا من طاعون أو عدو على الأرجح، فأراد الله أن يخبرهم أن فرارهم ليس بمنج لهم من الموت فأماتهم جميعا ثم أحياهم ليكسر رهبة الموت في قلوبهم، وأخبرنا في ذات السورة بأن القلة في العدد والعتاد لا تحول دون تحقيق النصر طالما توافر معها الإيمان والمثابرة.

 المقاومة تنتصر

أجزم أن فكرة الاستسلام غير واردة مطلقا عند المقاومة، ولا عند الشعب الفلسطيني، لكنها موجودة فقط في مخيلات المرضى من هؤلاء المتآمرين والمتخاذلين، خاصة أن المقاومة انتصرت بالفعل ولم يتبقى لإعلان ذلك إلا قبول الكيان الصهيوني ومن يدعمونه بهذه النتيجة، وأن الدمار والإبادة الجماعية التي مارسها على الأرض ما هي إلا محاولة لتحسين صورة تلك النتيجة.

فالمقاومة ذات الدعوات الرسالية لم تفشل في الميدان ولن تفشل أبدا لأن خياراتها كما قالها الرساليون السابقون تنتصر أو تموت، فيما لطخ العار ثياب الحاضنة العربية الكبيرة التي وقفت حتى اللحظة الأخيرة من الحرب تتفرج.

المقاومة الرسالية لم تهزم ولن تهزم ولكن البعض يتمنون هزيمتها.

أقرأ المقال هنا على الجزيرة مباشر

https://bit.ly/3XoTZjQ

الجمعة، 14 فبراير 2025

هكذا تحول الغرب من اضطهاد اليهود إلى تقديسهم - سيد أمين

 

مثَّل عام١٤٨٣ ميلاديا عاما فارقا في مكانة اليهود السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأثر تأثيرا كبيرا في مستقبل أجزاء كبيرة في العالم، لاسيما في الوطن العربي والإسلامي، لكونه العام الذي انتقل فيه الغرب المسيحي انتقالا مثيرا من اضطهاد اليهود واستعبادهم وإجبارهم على الدخول في المسيحية، إلى الولاء لهم لدرجة وصلت حدَّ تقديسهم.

وفي المقابل، هو أيضا العام الذي انتقل فيه مسلمو العالم من مكافحة الحملات الصليبية التي ما توقفت أبدا عن استهداف بلادهم وارتكاب أبشع المجازر بحقهم، إلى مكافحة الصهيونية التي مارست نفس هذا الدور بأقل كلفة يدفعها الغرب، وبوسيلة أكثر تزييفا لحقائق التاريخ وتبطينا لها.

قفازات الغرب الجديدة

يمكننا القول إن الغرب ارتدى قفازاته الجديدة حينما أسس مارتن لوثر حركة البروتستانت والتي تعني "المحتجون" والتي تطالب بإصلاح الكنيسة الكاثوليكية، وتضمنت تلك الإصلاحات إجراءات ثورية من شأنها إلغاء سلطة الكنيسة، بل وإلغاء الكنيسة ذاتها، وإعطاء دور أكبر للعهد القديم (التوراة) في تفسير المسيحية، بدلا من أن يكون العهد الجديد هو المفسر لها.

 وتضمن المذهب الجديد اعتقادا بأن عودة المسيح مرهونة بوجود دولة قوية لليهود في فلسطين، وإعادة بناء هيكل داود، وهي الرؤية المنبثقة من رؤية إنجيلية تتحدث عن وقوع معركة عظيمة سيتم فيها القضاء على كل من لم يؤمنوا بألوهية المسيح، بما فيهم اليهود أنفسهم، من ثم تبدأ بعدها البشرية الألفية السعيدة بعودة المسيح مجددا على الأرض.

ولقد تسببت قسوة سيطرة الكنيسة الغربية على الحياة العامة في أوروبا في تذمر قطاع عليها، ومن ثم التفافهم حول دعوة لوثر كينج التي وجدت ضالتها في الأراضي المكتشفة الجديدة، لاسيما أن الواصلين إليها اتسمت شخصياتهم بالتمرد بشكل عام على كل شيء، بما فيها السلطة الكنسية.

تطورات دموية

هذه التطورات أعطت الفرصة للماسونية لإيجاد الثغرات التي تتغلغل من خلالها لتحقيق أهدافها الخاصة، والماسونية كما نعلم هي حركة علمانية انتهازية استعمارية لا تؤمن بدين ولا إنسانية، رغم أنها تنكرت في رداء ديني مختلف على صحته، ظاهره يعني "البناؤون" الجدد للهيكل، وباطنه معني بالقضاء على روح الجماعة والمجتمع، وكافة معايير الإنسانية الأخلاقية، وتأجيج الصراعات والحروب ونشر الأمراض، وصولا للمليار الذهبي.

وبناء على ذلك رتبت الصهيونية خطتها على الاستفادة لأقصى مدى من هذا الوضع، بحيث إنها نجحت في تجنيب اليهود ويلات الاستبداد في الغرب، ووجهت قوته وغضبته نحو أعداء مشتركين، هم المسلمون والعرب، ليتحقق لها ما تعجز عن تحقيقه بمفردها، مع استمرار اعتقادها بأن النبوءات الغربية لن تتحقق أبدا، وإذا تحققت لن تكون إلا لعودة ملك داود، لا المسيح.

هذا الامتزاج لم يكن في الحقيقة بين اليهودية والمسيحية كدينين (أطلق الإسلام على أتباعهما وصف الكتابيين، تمييزا لهم عن بقية أتباع الديانات التي سمى أتباعها المشركين) ولكن كان بين حركتين متطرفتين انبثقتا منهما الصهيونية والماسونية، ووجدت كل واحدة منهما ضالتها في الأخرى لتحقق بها أهدافها الشريرة.

وإذا كانت الحرب الآن ضد المجتمعات الإسلامية، فهذا لأن الإسلام بتكوينه العقدي والفقهي استطاع الصمود أمام هذا الطوفان، وأخر نموه، رغم وقوعه الكامل تحت الاستعمار الغربي، فيما انسحقت أمامه من قبل المجتمعات الغربية بشكل كامل، فرأينا انتشار الإلحاد والشذوذ والتطرف والتعري، وتبرير إبادة المخالفين أو سبيهم واستعبادهم، رغم أن ذلك كله يخالف روح المسيحية جملة وتفصيلا.

المسيحية التقليدية

ولعل التاريخ القريب يشير الى أن المجتمعات الغربية قبل قرن أو قرنين من الآن كانت أكثر تمسكا بعقيدتها التقليدية، وكانت تنتشر فيها معاني الاحتشام والتدين بصورة قريبة من تلك التي نشاهدها اليوم في التجمعات المسيحية داخل مجتمعاتنا الإسلامية، لكن لأن تدمير المجتمعات هو أول خطوات التمكين للماسونية، فقد كان تدمير المجتمعات الغربية وسحبها بعيدا عن عقيدتها الدينية أينما كانت هو أول خطوات التمكن منها واقتيادها.

ولذلك فإن الصهيونية التي هي حليف مكين ومكير للماسونية ليستا شرا مطلقا على الإسلام فقط، بل إنهما شر مطلق على المسيحية ذاتها بنفس القدر.

كما أن انكشاف حقيقة فكرة الصهيونية الاستعلائية والاستئصالية والوحشية كما ظهرت عليها في غزة ولبنان دمر الهالة الروحية التي كانت تتسم بها اليهودية في الخلفيات الذهنية لقطاع كبير من سكان المعمورة، وألحق بها ضررا لا يمكن ترميمه.

حروب صليبية

بعد ما حدث من أعمال إبادة في غزة وتواطؤ غربي واضح مع إسرائيل، ازداد الاعتقاد أن تمكين الصهيونية بشكلها الإجرامي الحالي من فلسطين المسلمة هو امتداد جديد للحروب الصليبية.

وانكشف أن هدف الغرب في هذا الامتداد هو وضع العالم العربي (الذي هو لب العالم الإسلامي) في حالة انشغال دائم مع حرب الوكلاء، عسكريا وفكريا، وقد نجح نسبيا في ذلك، حيث تسبب في إضعاف قوته وأهدر وزنه بين الأمم.

وكانت أكبر الصفعات هي نجاح الصهيونية والماسونية عبر وسائل متعددة للنيل من بنية الإنسان المسلم الفكرية والسلوكية، فيما استطاعت السياسات الاستعمارية الغربية تغريبه داخل وطنه عبر تنصيب حكومات موالية لها.

......

الغرب يريد أن يسقينا من نفس كأس السم الذي تجرعه هو قبلنا طواعية.. ومع ذلك هو مندهش من رفضنا الشراب!

أقرأ المقال على مجلة المجتمع الكويتية

https://bit.ly/3Ey8CuF

الخميس، 13 فبراير 2025

حول الاعلام الداعم للمقاومة - سيد أمين

  

عقب الإعلان رسميا عن استشهاد رئيس أركان كتائب القسام الشهيد محمد الضيف ورفاقه سارعت العديد من الفضائيات إلى الاحتفاء ببطولاتهم، والإشادة بصبر وقوة إرادة أسرهم، وقامت بإجراء الحوارات معهم داخل بيوتهم بغزة في محاولة لتوضيح أنها بيوت متواضعة كمعظم بيوت أهل غزة، وأنها صارت مدمرة ومهدمة بعد الحرب، وذلك ردا على طنطنات كاذبة تطلقها بعض البرامج الإعلامية المشبوهة تزعم فيها أن قادة حماس  يرسلون ذويهم إلى خارج القطاع مع ثروات ضخمة تركوها لهم في البنوك، وقصور منيفة أسكنوهم فيها هناك كما كانوا يسكنون في عزة، وبقوا هم ليموت بسببهم الآلاف من شعب القطاع.

ومع أن تلك اللقاءات تعد أمرا محمودا يمنح المجاهدين فرصة جيدة للرد على شلال الافتراءات التي تطالهم، ويقدم العظة للمراقبين عن بسالة منبت هؤلاء الأبطال وصمودهم، فإن الأمر لا يخلو من خطر يجب الحذر منه، وهو أننا أمام عدو لا يفرق بين مقاتل ومدني، ومتى تسنّت له فرصة قتل أسر المقاومين وحتى أطفالهم فإنه لن يتوانى ثانية، لأنه لا يُعير الإنسانية وشرف القتال أي معيار وله سوابق لا تعد ولا تحصى في هذا الشأن.

ولا يفوتنا التحذير من أن الاستفزازات التي يطلقها بعض الإعلاميين العرب المشبوهين اتجاه أسر قادة المقاومة قد يكون الهدف منها دفع الإعلاميين الغيورين إلى الرد عليهم بمعلومات يستطيعون بها التسلل إلى صور أبنائهم وأماكن إقامتهم واستهدافهم فيما بعد بالقتل أو الأسر، خاصة أننا أمام عدو متجرد من الإنسانية وشرف الخصومة ومولع بالدم وارتكاب الفظائع، فهو يقتل ولا يبالي ما دام في مأمن من العقاب.

ولذلك فالكثير من البرامج والأطروحات والرؤى الإعلامية المسيطرة قد تكون أساسا جيدا لمعلومات استخبارية مهمة.

تجربة 2014

في العدوان الذي شنته إسرائيل عام 2014 على غزة وتوغلت قواتها خلاله بريا حتى محور صلاح الدين “نتساريم” في وسط القطاع، كان حينئذ لم يمر عام كامل على الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر من الحكم، وكانت هناك شكوك غربية وإسرائيلية بأن أسلحة تدفقت في فترة حكمه إلى القطاع من خلال الأنفاق، في هذا الوقت كانت العديد من وسائل الإعلام الغربية والعربية تهاجم حماس بأنها لم تردّ بشكل فيه أي إيلام للقوات الغازية.

كان مضمون الخطاب الإعلامي وقتها يركز على نقطتين الأولى التهوين من قدرة المقاومة وصواريخها “الفشنك” -كما كانوا يصفونها- وأنها ما دامت لا تستطيع ردع إسرائيل فيجب عليها أن تستسلم لسلطة عباس وتسير خلف مسيرته السياسية “الانبطاحية”، أما النقطة الثانية فكانت تقوم على فكرة أن قادة حماس والجهاد لا يبتغون إلا السلطة والحكم والثروة على حساب معاناة الشعب الفلسطيني، وأن كل ما يحدث بينهم وبين إسرائيل من حروب هو مجرد تمثيليات “طابخينها سويا”.

لم يدرك كثير من النابهين وقتها السبب الحقيقي وراء هذا الخطاب وكانوا يعتبرونه مجرد مكايدة إعلامية تمارس ضد هذه الحركات الإسلامية، التي يشيع عادة خطاب تخوينها وتبرير إقصائها واجتثاثها في وسائل الإعلام العربي الرسمية، لكن مع ذلك كانت المقاومة تدرك البعد الصحيح لتلك الحملات وهو استفزازها حتى تكشف مبكرا عن أنفاقها التي ربما كانت حينها في طور التدشين، وأنواع أسلحتها وعتادها العسكري الذي من الممكن أن يكون قد وصل لها، وذلك حتى تستطيع إسرائيل وأده في المهد.

لذلك لم تستفز حركات المقاومة بهذه الهرتلات الإعلامية لأنها تعرف غايتها، واستمرت في ممارسة عملية الخداع الاستراتيجي حتى ظهرت قوتها بالصورة البطولية المفاجئة للجميع التي رأيناها عليها في حرب طوفان الأقصى.

قواعد أمنية

من بديهيات الإجراءات الأمنية في وطننا العربي وربما في العالم الثالث كله أن أبناء الرؤساء والملوك وكبار المسؤولين مشمولون دائما بحماية أمنية جيدة ومع ذلك لا يسمح بنشر تفاصيل حياتهم ولا صورهم وخاصة أماكن وجودهم أبدا، رغم أن هذه البلدان غير محتلة والسلطة فيها متمكنة ومسيطرة، ولا تواجه عدوا مجرما كإسرائيل، فضلا عن أنه لا يجرؤ أحد على أن ينظر إلى تلك الشخصيات بسوء أو حتى بعين يفهم منها قلة التقدير والاحترام.

وإذا كان الحال كذلك هنا فما بالنا بالخطر المحدق بهم هناك إذ إسرائيل اعتادت قتل كل من تطاله يدها صغيرا أو كبيرا، وعسسها يبحثون عن أي انتصار زائف يسوقونه بتهم ملفقة.

وقد حاولت إسرائيل إسباغ الصفة القانونية على جرائمها بحق أسر المقاومين؛ فسنّت قانونا يسمح بأسر وترحيل أسر المقاومين والمساومة بهم، هذا هو القانون المعلن أما القانون المنفذ على الأرض فهو قتل الأسرة ذاتها ثم صناعة التبرير بعد ذلك.

حفظ الله المقاومين الفلسطينيين الأبطال وأسرهم، وبارك الله في الإعلام المناصر للحقيقة.

اقرأ المقال على الجزيرة مباشر

https://bit.ly/4gS0rah

الأربعاء، 15 يناير 2025

ينابيع الحكمة تتدفق من غزة - بقلم :سيد أمين

 


حتى جلل الأمور لا يخلو أبدا من حكمة.

أوشكت الحرب أن تضع أوزراها بعدما فتكت الضباع الغريبة بغزة طوال 16 شهرا كاملة، خلالها شخصت العيون نحو عواصم العرب المعقود عليها الأمل في التحرك ورد الظلم بما لديها من قوة في الجيوش والعتاد والعدد، أو في المال والثروة والمدد، لكن خابت آمال الآملين حينما لم يجدوا من المأمول فيهم سوى تخاذل وجعجعة، وحديث في الكواليس أيدته شواهد الواقع عن تواطؤ مع المعتدي، هنا أتتنا العظة من أفقر دول العرب وربما العالم، وهما دولتان تقفان على شفا الإفلاس والمجاعة، حيث هبّ فصيلان من شعبيهما لبث الحياة في هذا الأمل ورد المظالم عن المظلومين دون اكتراث بالعواقب.

حكمة عابرة للجنس والدين

بل أتتنا العظة من غير ذي صلة بالإسلام، حتى وجدنا أبسل من يدافع عن أهل غزة من اليهود أنفسهم، إذ تحدوا الحظر المفروض في البلدان التي يقيمون فيها على مظاهر الاحتجاج المؤيدة للحق الفلسطيني، وتظاهروا ضد إجرام من يحملون نفس اعتقادهم، ومنهم من سجن مثل “صوفيا أور”، ومنهم من منع دخول الكيان  مثل أربيل غولد، كما وجدنا المسيحي يعتصم في الميادين والجامعات، ويخسر عمله، والطيار الذي يشعل النار في نفسه ليلفت انتباه ساسته لفجاجة جريمة صمتهم وتواطئهم اتجاه هذه الإبادة والوحشية، كما فعل أرنيل بوشنيل.

حكمة عابرة للقارات

وعبرت الحكمة كذلك القارات والمحيطات الشاسعة لتؤنس قلوب خائفة تخلى عنها الجار وذو القربى، وذلك في صورة المواقف الشجاعة لحكومات عدة في أمريكا الجنوبية قطعت علاقاتها مع الكيان.

كل ما حدث كان فيه حكمة حتى إن ملياري مسلم موزعين على 56 بلدا في العالم لم يجرؤ أي بلد منهم على اللجوء إلى المحاكم والهيئات الدولية لمقاضاة الجاني وتعريته أمام التاريخ، في حين جاءت الشجاعة من بلد لا تجمع الضحية به سوى روابط وفيض من مشاعر الإنسانية الصادقة كتلك التي تتملكها حكومة جنوب إفريقيا.

 حكمة الحصار الإعلامي

ومن الحكمة أيضا أن الغرب فرض حصارا على نشر المعلومات التي تفضح جرائم الاحتلال، وذلك لإمساكه بتلابيب تدفق الأخبار حول العالم وتحديد اتجاهها الأحادي الإجباري من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، وأدواته في ذلك عدة شبكات إخبارية تمثل منفذ المعلومات الأوسع انتشارا، فضلا عن بضعة مواقع تواصل اجتماعي يمكن وصفها بالكونية، لكن كل معاييره انقلبت وتدفقت المعلومات لأول مرة في التاريخ من الجنوب إلى الشمال وعرف العالم الحقائق من خلال فضائيات جادة ذات تقارير موثقة كان أهمها شبكة الجزيرة الإخبارية؛ مما جعل الاحتلال يضعها نصب عينيه ويستهدف مكاتبها بالإغلاق ومراسليها بالقتل.

حكمة الفداء والتضحية

كما قدمت هذه الجولة من العدوان دليلا قاطعا على أن التيار الإسلامي سنته وشيعته هو أكثر التيارات الفكرية في وطننا العربي زهدا وفداء وتضحية، فرأينا قادته يقاتلون جنبا إلى جنب مع صغار المقاتلين رتبة، ورأينا أبناءهم يقتلون مع باقي أبناء الشعب الذي يقتل، ورأيناهم لا يأكلون الطعام لعدة أيام مثلهم مثل باقي أبناء الشعب المحاصر. الجريمة التي ارتكبها الصهاينة المجرمون بينت معدن الأبطال وقدمت شهادة بطولة وإخلاص لهم ولكل هذا الفصيل الفكري ممهورة بختم لا يمحو حبره الزمان.

حكمة التحام الشعب بمقاومته

وكذلك قدم الشعب الفلسطيني شهادة ممهورة بدمه بأنه داعم للمقاومة إلى أقصى مدى ومهما كانت التضحيات، بخلاف ما تزعمه الدعاية السوداء التي تزعم وقوعه تحت الاختطاف من قبل تنظيمات إرهابية مسلحة، بدليل أنه توافرت له كل أسباب التمرد الناجح لكنه فضل الموت على الإقدام على هذا العار.

حكمة الأفعال لا الأقوال

ومن بين هذا المروج الواسعة من الحكم تتجلى الحكمة الرئيسية في أن الحرب الأطول والأكثر شراسة مع هذا الكيان الغاشم لم تكن بينه وبين واحدة من دول الوطن العربي أو حتى العالم الإسلامي ذات الجيوش والاستعراضات والعضلات، ولكن مع فصيل أو بالأحرى عدة فصائل محاصرة ومحرومة من كافة تجهيزات الدعم والإمداد، بدءا من السلاح حتى الطعام والماء، ويجري تعقبها وعرقلتها استخباريا من الصديق قبل العدو.

إدانة نادرة

ومن الحكمة أن إسرائيل التي عربدت طوال تاريخها القصير وارتكبت جرائم الإبادة في جميع معاركها ضد الشعوب العربية، مثل قانا وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، ودفنت الجنود المصريين أحياء، ونجت من إدانة مؤسسات العدالة الدولية لأن انهزام خصومها السريع مكنها من امتلاك مسرح الأحداث لتخفي آثار جريمتها؛ منعها صمود شعب غزة ولبنان من فعل ذلك هذه المرة.

والغريب أنه حينما تولى بطرس غالي أمانة الأمم المتحدة نجح في إحراز هدف إسرائيلي في مرمى الشباك العربية حينما ألغى قرارها السابق باعتبار إسرائيل دولة عنصرية.

حكم المستقبل

هذه ضروب ربانية من الأمثال والحكم عشناها وحري بنا استخراجها من بين جملة الحرائق المشتعلة حولنا، وعلينا أيضا استنباط أخرى قد يسوقها إلينا المستقبل.

من تلك الحكم مثلا أن المقاومة رغم شلالات الدم التي فرضتها إسرائيل والتواطؤ الغربي والعربي معها على حاضنتها المدنية، وفي ظل أكثر حكومات العالم تطرفا سواء على المستوى الإسرائيلي أو العالمي والأمريكي بعد فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة؛ ما زالت تفرض معادلتها، وقد حقق ذلك توازنا مع قوى الاحتلال يجعلها إلى النصر أقرب في نهاية المطاف.

***

لقد أغنت إسرائيل بإجرامها الأجيال القادمة عن الحاجة لإثبات أنها كيان إرهابي، كما أغنت المقاومة بصمودها وتضحياتها عن إثبات أنها تجاهد وتقدم التضحيات لله والوطن لا غير.

المصدر : الجزبرة مباشر

الجمعة، 3 يناير 2025

“البعث” بين العراق وسوريا.. المنهجي والمحتال - بقلم :سيد أمين

 


بعدما ألهب حزب البعث العربي الاشتراكي بالعراق في العقد الأخير من القرن الماضي حماسة الجماهير العربية بتحديه غير المسبوق عربيا للتجبر الأمريكي، وصموده وصمود جيشه، وتضحياته وتضحيات قياداته متمثلة في شخص الرئيس صدام حسين، جاء حزب البعث في نسخته السورية ليلقي بكل هذا المجد في مزبلة التاريخ.

وقائع الأحداث أثبتت وجود فارق كبير بين النسختين، وهو الفارق الذي جعل النسخة العراقية تعتبر النسخة السورية خائنة لمبادئ وأفكار الحزب الرئيسية بشكل كامل، بعدما تميزت بلونها المذهبي المنحاز لتعلية وترقية أبناء طائفة دون غيرها ينتمي لها من يحكمون -وهم الذين لا تزيد نسبتهم على 17% من عدد السكان، وفي إحصاءات قديمة تبلغ نحو 10% فقط- في كافة مناصب الدولة الحساسة، في حين أن التمييز على أي أساس مذهبي أو ديني أو عشائري مجرم في فكر حزب البعث.

وتعد مسألة الوحدة العربية هي الهدف الأسمى في فكر البعث، وهو ما يوجب تشجيع التواصل بين الشعب العربي في الأقطار العربية المختلفة، إلا أن البعث السوري رفض الدعوات المتكررة التي أطلقها نظيره في العراق للوحدة بين البلدين، بل إنه جرم تواصل السوريين مع نظرائهم العراقيين، واعتبر ذلك خيانة عظمى تستحق الموت.

كما أن عدالة توزيع الثروة وهي من المبادئ الجوهرية التي لفتت انتباه المواطن العربي بشدة، طبقتها النسخة العراقية بشكل مدهش حينما عاش العراقيون رفاهية اقتصادية كبيرة رغم ظروف الحرب والحصار التي مرت بها البلاد، وكان قيام الحزب بفتح العراق على مصراعيه للعمال العرب مقدما لهم حوافز مالية مغرية تطبيقا عمليا لنظرية مال العرب للعرب، إلا أن النسخة السوري المشوهة اهتمت فقط بثراء الطائفة وأهل الحظوة بينما يموت ملايين السوريين جوعا وبردا.

مواجهة التحديات

وحينما فرضت التحديات على النسخة العراقية أيًّا ما كان صوابها أو خطؤها خاضتها وتحملت نتائجها، حتى لو كانت المواجهة المباشرة مع قطب العالم الأوحد أمريكا ومواليها، أما النسخة السورية فلم يمر يوم واحد عليها بعد الثورة السورية 2011 أو قبلها إلا وتلقت الضربات من إسرائيل، ولم يكن ردها إلا إنشائيا لتبرير الهروب من المسؤولية.

ولما حدثت الثورة وسواء أكانت مؤامرة كما رآها البعض، أو ثورة تلقائية حقيقية، كان هناك طريقان للحل، الحل الدبلوماسي وهو ما يقدمه الحاكم الوطني الذي يضحي بكرسيه أو حياته من أجل إنقاذ بلاده، والحل العسكري الذي يضحي فيه الحاكم بكل شيء من أجل أن يحتفظ بكرسيه ويحفظ امتيازات عشيرته، فاختار الأسد الحل الثاني فخرب سوريا وشرد شعبها، وبقي هو على تلها.

ومع أن المؤشرات والتسريبات تتحدث عن خيانة بشار لروسيا وإيران وحزب الله، وهم أصحاب الفضل في بقاء نظامه المنهار، وذلك بصمته وامتناعه عن الرد على كلمة الرئيس الأوكراني في القمة العربية 2023 في الرياض التي هاجم فيها روسيا، وعدم اتخاذه أي ردّ يذكر عقب اغتيال حسن نصر الله وقاسم سليماني وغيرهما من رجال إيران في سوريا، فإن أباه كان السابق في هذا المجال إذ خذل البعث العراقي والقوميين اللبنانيين.

مساندة العدوان

النسخة السورية بزعامة الأسد الأب أبدت موقفا سلبيا للغاية من العدوان الأمريكي على العراق، بل كاد موقفها يكون منحازا لأمريكا، تماما مثلما فعلت حينما وقفت مع إيران في حرب السنوات الثماني، كل ذلك رغم ما قدمه العراق لسوريا وصده الهجمة المضادة التي شنتها إسرائيل عليها أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وذلك حينما قاد صدام حسين شخصيا لواءين عراقيين نجحا في إنقاذ دمشق ودحرا الجيش الصهيوني الذي كان يقف على بعد بضعة كيلومترات منها، في حين كان الأسد قد فرّ هو وجيشه إلى اللاذقية حيث تتمركز طائفته تاركا العاصمة لقدرها.

ومع أن اللواءين العراقيين أبيدا عن بكرة أبيهما، فإن صدام حسين عاد إلى العراق ليقوم بتعبئة ثلاثة ألوية أخرى وكان هدفها تطوير الهجوم ليشمل تحرير الجولان المحتل، إلا أن الصدمة كانت في قيام الأسد بمنعها من عبور أراضيه وراح يتهمها بأنها تريد احتلال دمشق وليس تحرير الجولان، بل وسحب قواته من الجبهة السورية مع الجولان المحتل إثر مفاوضات غامضة مع أمريكا ونقلها إلى حدوده مع العراق، مع دفع الجيش العراقي إلى التراجع!

ولا ننسى طبعا أن النسخة السورية من البعث وقفت عسكريا مع أمريكا أيضا في حرب الخليج الثانية عام 1991، مع أنه بعيدا عن صوابية ذلك أو عدمه كان يجب عليها اتخاذ مواقف مغايرة تماما.

غزو لبنان

تعمقت الأزمة الفكرية عند البعث السوري إلى حد جعله يتخطى منطلقات يعتبرها من مبادئه الأساسية، وهي أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة المحورية، وذلك حينما رأينا الجيش السوري يغزو لبنان عام 1976 بدلا من تحرير الجولان، ويقود بمشاركة جيش الكتائب الماروني المسيحي المدعوم إسرائيليا الحرب على منظمة التحرير الفلسطينية والحركة التقدمية اللبنانية التي يتزعمها وليد جنبلاط، اللذين كانا قد نجحا في تحرير غالبية لبنان من القوى المتحالفة مع تل أبيب، فقتل منهم بضعة آلاف ومكن المليشات المارونية من إعادة تموضعها وتسلحها.

هناك خطايا واسعة لنظام بشار الأسد لعل منها استخدامه القوة المهلكة ضد الاحتجاجات التي نظمتها الطائفة السنية والتيارات الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين في مدينة حماة 1982 التي قتل خلالها آلاف الأشخاص في نحو 27 يوما فقط.

لذلك فقد أسقطت أمريكا حزب البعث في نسخته العراقية، وأسقط السوريون حزب البعث في نسخته السورية، وفي ذلك دلالات بيّنة.

المصدر : الجزبرة مباشر

bit.ly/4fGM2wM