تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والعشرون للاحتلال الأمريكي للعراق، وهي الحرب التي شنتها أمريكا وخلفها قطيع كبير من الدول الغربية يصل إلى نحو 30 دولة، شارك بعضهم مشاركة فعالة، والأغلبية بمشاركات رمزية أو لوجستية وذلك في الفترة من 19 مارس/آذار حتى 10 إبريل/نيسان 2003م، وانتهت باحتلال العراق رغم البسالة التي أبداها الجيش العراقي، والتي استطاع فيها إيلام الغزاة إيلاما شديدا ولا سيما في معركة المطار، مما اضطره إلى استخدام قنابل بي 52 شبه النووية.
ومثلت هذه الحرب ثاني أعظم سقوط للنظام الرسمي العربي في العصر الحديث بعد احتلال فلسطين، بسبب عجزه عن وقف العدوان، وعدم تقديمه الدعم والمساندة للجارة الشقيقة التي تواجه هذه القوى العظمى بمفردها، ومما زاد الجرح إيلاما النتائج المرعبة وأعمال القتل التي مارستها قوات الاحتلال مخلفة ثالث أكبر كارثة عاشتها عاصمة الرشيد على مدار تاريخها بعد غزو المغول لها والاحتلال الإنجليزي، حيث تشير الكثير من الإحصاءات إلى أن نحو مليوني قتيل عراقي سقطوا في هذا الغزو وما تبعه من حرب طائفية تفنن الاحتلال في تصنيعها.
كراهية الكاريزما
أحداث الحرب ونتائجها ليست هي محل النقاش هنا فهي معلومة التفاصيل، ولكن المعتقد أن سياسات الرئيس صدام حسين الداخلية والخارجية كانت عاملا مؤثرا في التعجيل بها.
فالأمريكان والصهاينة يكنون كراهية شديدة له نظرا إلى كونه الزعيم العربي الذي استطاع قصف تل أبيب بقرابة ٣٩ صاروخا من نوع “سكود”، وهو العدد الموازي لعدد أسفار العهد القديم، مع سابق تبنيه دعوات عدة إلى تشكيل جبهة عربية تسارع بفتح الحدود للجيوش العربية من أجل تحرير فلسطين المحتلة يكون جيش بلاده في مقدمتها، وتبنيه برنامجا اقتصاديا يقضي بتعويض أسر الشهداء الفلسطينيين بمبالغ مالية مجزية فور استشهاد ذويهم لإعانتهم على تكاليف الحياة.
وكان أخطر سياساته وأهمها سعيه لتحديث جيش العراق وتسليحه بالأسلحة الحديثة انطلاقا من إيمانه بمبدأ بعثي رئيسي بضرورة امتلاك كافة أدوات القوة والردع.
وحقق صدام حسين بهذه الممارسات شعبية عربية وإسلامية عارمة بسبب نجاحه في كسر حاجز مهابتها التي صنعته عبر توالي تكبيدها لجيرانها العرب الخسائر الموجعة دون رد يذكر منهم، مما دفعها إلى التعجيل بإنشاء حائط ردع القبة الصاروخية.
ولعل تلك الكراهية بدت واضحة من خلال التلاسن الذي جرى مؤخرا بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير دفاع الكيان الصهيوني بالتزامن مع مرور الذكرى الخامسة والثلاثين لتولي صدام حسين، الذي حذر الأخير فيه الأول من نفس العاقبة.
وازدادت تلك الشعبية عربيا وإسلاميا مع أحداث الغزو الأمريكي والغربي لبلاده عام 2003، خاصة بعد الحرب الكلامية بينه وبين الرئيس الأمريكي المتطرف جورج دبليو بوش التي سخر فيها من الحضارة العربية والإسلامية بوصفها حضارة رعاة “الإبل” وسكن “الخيام”، هنا عبر صدام عن اعتزازه بتلك الحضارة، مؤكدا أن راعي الإبل وساكن الخيام هو أفضل ممن سكنوا الكهوف ورعوا الخنازير.
ثم جاءت مشاهد استشهاد ولديه دفاعا عن بغداد أثناء الغزو، ومحاكمته الصورية من قبل محكمة عراقية خاضعة لسلطة الاحتلال، وتلاها إعدامه في أقدس أيام المسلمين عيد الأضحى، وما حمله هذا من رمزية كبيرة، لتضعه بطلا قوميا رفض الخنوع للهيمنة الأمريكية، ورفض قبيل إعدامه طلب بوش الابن تقديم الاعتذار لأمريكا مقابل العفو عن روحه، وأثبت عمليا أن كل ما كان يردده من قيم فكرية كان مؤمنا به حتى النخاع دون النظر إلى التضحيات الباهظة التي دفعها شخصيا.
سياسات ناجعة
ورغم القبضة الفولاذية التي أمسك بها صدام حسين العراق؛ فإن أبرز ما ميز سياساته الاجتماعية هو اعتماده مبدأ عدالة التوزيع بحيث حرص على وصول الدعم والخدمات إلى المواطنين دون تمييز عرقي أو مذهبي، منطلقا من اقتناعات فكرية بأن البطون الجائعة لا تنتج عقلا يفكر.
وكان لزياراته المفاجئة لبيوت العراقيين والجاليات العربية في البلاد للاطمئنان على أحوالهم المعيشية تأثير كبير، خاصة أنها كانت تتم دون كاميرات ولا حتى مرافقين.
وحارب الفساد لدرجة جعلت الكثيرين من العسكريين المقربين منه ومنهم حراسه الشخصيين لا تزيد أحوالهم المادية والاجتماعية عن أحوال باقي مجندي الجيش، فضلا عن أنه اعتنى كثيرا بتحسين منظومات الصحة والتعليم ومؤسسات الخدمات لدرجة جعلت العراق من أبرز دول العالم في هذا المجال حينها.
تجريم العروبة
وينظر الغرب والصهاينة في مقدمتهم بريبة شديدة إلى أي نظام حكم عربي ذي نزعة عروبية خشية أن يؤدي ذلك إلى دفع الشعوب العربية إلى تحقيق الوحدة الشاملة، مما ينسف جذريا كل الأوضاع الاستعمارية التي نشأت جراء تقسيمات “سايكس بيكو” التي طبقت بعد الحرب العالمية الأولى 1917، وخاصة عقب انهيار الدولة العثمانية 1923، وهي الأوضاع التي ضمنت دوام تبعية هذه المنطقة للغرب وضمنت تخلفها العلمي والحضاري والعسكري.
ولما كان صدام حسين من أكثر الشخصيات العربية في العصر الحديث إيمانا بفكرة القومية العربية، وضرورة تحقيق الوحدة الشاملة، وتوجيه أموال العرب إلى العرب لدرجة دفعته إلى استقدام ملايين العمال من كافة أرجاء الوطن العربي ولا سيما تلك البلدان التي تعاني شعوبها من أوضاع مادية متعثرة كمصر والسودان وموريتانيا واليمن، مقدما لهم المحفزات المالية المغرية فيما يشبه الرواتب الشهرية؛ كان من أكثر الشخصيات تموضعا في محطة استهداف القناصة الصهاينة والأمريكيين.
……..
لقد حاولوا من غزوهم للعراق حينها إسقاط رموز التحرر سواء أكانت في العاصمة أم القيادة، واعتقدوا أنهم أسقطوه، ولكنهم فوجئوا بأن هناك أرضا عربية لم تنبت إلا الرموز.. فكانت غزة.
https://ajm.news/qitl9w