لست أدري من أين أتى هؤلاء بقناع واق من الخجل كي يسخروا إمكاناتهم الشريرة لإدانة المقاومة الفلسطينية والافتراء عليها لحرفها عن معركتها ومعركة الأمة المصيرية في أشد أوقاتها حرجا؟
وكيف تجرأوا على الظهور بهذا التعري القبيح الساعي لتجريدها من سلاحها وهي التي ضحت بالغالي والنفيس في النفس والمال والبدن من أجل تحقيق ما عجزت جيوشهم العربية المجيشة على تحقيقه منذ نشأة الكيان الصهيوني؟
فقد تمادوا في غيهم لحد مطالبة المقاومة الباسلة بالاستسلام، ويزيد بعضهم بمطالبتها بقبول الخروج الآمن لمنفى اختياري، وهى التي صمدت في وجه أعتى آلة فتك عرفها التاريخ، وفقد مجاهدوها أسرهم وأحبتهم وبيوتهم، وهو المطلب الذي إن حدث- لا قدر الله- لوجدنا هؤلاء أنفسهم أول من يوجهون سهام الشماتة إليهم، ويتهمونهم بأنهم ضحوا بشعبهم من أجل مصلحتهم الشخصية، ولا شك أن هؤلاء المثبطين أنفسهم هم من دأبوا طيلة عقدين مضيا على استغلال فترات الإعداد والتخطيط والكمون ليتهموا المقاومة خلالها بأنها تسعى للسلطة وتخشى الحرب، وأن صواريخها مجرد ألعاب أطفال.
هؤلاء القوم على ما يبدو متخصصون في الوقوف إلى جانب الشر أينما كان، ويزخرفون مغالطاتهم بمنطلقات تبدو مقنعة مع أن جوهرها يخالف المنطق تماما، فهم يقولون مثلا أن المقاومة الفلسطينية ضحت بالشعب الفلسطيني وسببت له المعاناة، وهو في الحقيقة قول سخيف يجافي البديهيات وحقائق التاريخ.
حقائق التاريخ
أول تلك الحقائق أن من أوصل الشعب الفلسطيني لهذه الحالة وجعله يعيش تهجير بعد تهجير، ونكبة بعد نكبة، فتكدس على 15% من مساحة أرضه التاريخية؛ هو فقدانه قديما لمثل تلك المقاومة الفاعلة التي تستطيع أن ترد وتؤلم العدو، وأن الجزء الأكبر الذي فقدته فلسطين التاريخية من أراضيها كان بسبب وقوعهم في خديعة الإرتكان إلى سلاح غيرهم من الجيوش العربية، وهي التي ثبت أنها لم تقدهم إلا إلى هذا الواقع المذري، والمثل “ما يقول ما حك ظهرك إلا ظافرك”. وثانية الحقائق أن المقاومة هي من أشعلت في شعبها وفي الأمة كلها شعلة الأمل التي كادت أن تنطفئ، فجعلت للدم الفلسطيني ثمنا بعدما عاث العدو طيلة عقود يسفكه مجانا، فيقتل من يشاء متى شاء وكيفما شاء، وبسبب وبدونه، دون أن يخشى حتى وخزة إبرة.
وثالثها أن لكل شعب جيش، والمقاومة هي جيش الشعب الفلسطيني الذي استطاع أن يعدل الجدار المائل، وأن يرد للعدو الألم بالألم، وليس بالموت في صمت كما كان يجرى طيلة عقود، ومن السفه أن نطالب جيش أمة ما بإلقاء سلاحه والاستسلام لعدوه فقط لأنه قرر أن يقاوم ويقوم بالأدوار التي تصنع من أجلها الأسلحة وتؤسس لها الجيوش وهي حماية الأرض والعرض والنفس.
رابع تلك الحقائق أن هؤلاء لم يشعروا بالعار جراء تواطؤهم أو قل فشلهم في إدخال الأطعمة للشعب الفلسطيني المطبق عليه العدو والصديق الحصار طيلة عام ونصف العام من الموت والمجاعة، مع أن الواجب عليهم شرعا الدعوة للزحف نصرة للمظلومين، بل ودعم المقاومة بالسلاح والعتاد، تماما كما تفعل الحكومات الغربية مع المعتدي، وإن لم يكن الأمر بالشرع فهو واجب لروابط العرق والدم والجيرة والإنسانية.
وفي النهاية فأي مراقب منصف كان يعلم منذ البداية أن انتصار المقاومة يعني تدخل وكلاء إسرائيل في اليوم التالي بالخطط العجيبة الملتوية من أجل إجهاض هذا الانتصار.
ولقد كان ذلك متوقعا من هؤلاء وجامعتهم العربية التي لم تنتفض طيلة عام ونصف العام من الذبح والتنكيل بالشعب الفلسطيني على فعل أي شيء غير إصدار بيانات حفظ ماء وجه هزيلة، ربما كانت بيانات تصدرها خارجية دول في حواف العالم مثل هندوراس ونيكاراجوا أو جنوب أفريقيا أكثر تعبيرا وقوة وفعالية منها.
أبعاد دينية
لست فقيها دينيا ولكني لست بحاجة لأن أكون كذلك لكي أفهم أنه لا يكتمل إيمان المسلم وقيامه وصيامه بينما هو راضخ في المذلة والهوان، ولا يصح له إن كان “قاعدا” بدعوة “المجاهد” ليعيش هذه الحالة الإستسلامية البائسة بدعاوى الحكمة وتجنب إلقاء النفس للتهلكة.
كما علمنا التاريخ أن الرساليين وهم أصحاب الرسالات الإنسانية السامية لا سيما الإسلام يضعون عقيدتهم ومقدساتهم وأوطانهم وأعراضهم في أعلى التصنيفات الواجب عليهم الحفاظ عليها، فيما تأتي أبدانهم وأموالهم في أدناها.
ويضرب لنا القرآن الكريم العديد من الأمثلة البليغة بأن الموت والحياة قرار إلهي، وأن فرار المرء منه لا يمنع حدوثه، وعدم خشيته لا يقربه منه، ففي أواخر سورة البقرة يتحدث عن قوم عددهم بالآلاف فروا من الموت وتركوا مدينتهم هربا من طاعون أو عدو على الأرجح، فأراد الله أن يخبرهم أن فرارهم ليس بمنج لهم من الموت فأماتهم جميعا ثم أحياهم ليكسر رهبة الموت في قلوبهم، وأخبرنا في ذات السورة بأن القلة في العدد والعتاد لا تحول دون تحقيق النصر طالما توافر معها الإيمان والمثابرة.
المقاومة تنتصر
أجزم أن فكرة الاستسلام غير واردة مطلقا عند المقاومة، ولا عند الشعب الفلسطيني، لكنها موجودة فقط في مخيلات المرضى من هؤلاء المتآمرين والمتخاذلين، خاصة أن المقاومة انتصرت بالفعل ولم يتبقى لإعلان ذلك إلا قبول الكيان الصهيوني ومن يدعمونه بهذه النتيجة، وأن الدمار والإبادة الجماعية التي مارسها على الأرض ما هي إلا محاولة لتحسين صورة تلك النتيجة.
فالمقاومة ذات الدعوات الرسالية لم تفشل في الميدان ولن تفشل أبدا لأن خياراتها كما قالها الرساليون السابقون تنتصر أو تموت، فيما لطخ العار ثياب الحاضنة العربية الكبيرة التي وقفت حتى اللحظة الأخيرة من الحرب تتفرج.
المقاومة الرسالية لم تهزم ولن تهزم ولكن البعض يتمنون هزيمتها.
أقرأ المقال هنا على الجزيرة مباشر
https://bit.ly/3XoTZjQ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق