الدهشة تتركز تحديدًا في تلك الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي استهدفت مقرات لمنظمات انفصالية في باكستان، وهي الدولة النووية التي لا تقع داخل دائرة تأثيرها الثقافي والسياسي والعسكري كما هو الحال في سوريا والعراق، وتمتد الدهشة أيضًا إلى التوقيت الذي اختارته لتنفيذها خاصة مع تعمق العدوان الصهيوني الوحشي على غزة، وما ترتب عليه من تصاعد الصدام بين حزب الله اللبناني وأنصار الله الحوثية والمقاومة الإسلامية في العراق وبين هذا الكيان، وهو ما يحتم على إيران معه عدم فتح جبهات نزاع فرعية جديدة تشغلها عن تلك المعركة المصيرية، بما يحمله ذلك من تحجيم للتعاطف الكبير التي نالته مواقفها، ويشتت وحدة الإجماع الإسلامي حول محور المقاومة.
لكن مع تقريب العدسات سنرى أن الهجمات لا تشذ بعيدًا عن هوى الحكومة الباكستانية أيضًا، خاصة أن “جيش العدل” الذي استهدفته إيران هو في الأساس ضمن ميليشيات عدة طائفية وانفصالية تدعو إلى انفصال قبائل البلوش التي تمتد عبر شطري إقليم بلوشستان في الدولتين، وكثيرًا ما حاربها الجيشان الباكستاني والإيراني كل في أراضيه، وأحيانًا بتنسيق مشترك بينهما، ولطالما نفّذت هذه الميليشيات التي تضم أيضًا “جيش تحرير بلوشستان” وحركة “أنصار الفرقان” “وجند الله” عمليات في البلدين على حد سواء، وضد التجمعات الشيعية والصوفية.
ولعل الإدانة الباهتة التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الباكستانية كانت في الأصل تتضمن القبول بها حينما ركزت على إبراز ضعف تأثيرها، وقالت إنها تسببت في مقتل طفلين وإصابة ثلاث فتيات، وذرت الرماد في العيون الأمريكية الراصدة حينما قالت “إنها تدين بشدة هذا الهجوم وإن انتهاك سيادة باكستان أمر غير مقبول على الإطلاق، ويمكن أن تكون له عواقب وخيمة”، ولعل الرد الباكستاني الذي استهدف مجموعات انفصالية في محافظتي سيستان وبلوشستان الإيرانيتين هو الآخر لا يوجع إيران كذلك، بل إنه يصب في المصلحة المشتركة ذاتها.
مصلحة أمريكية
وتتسبب الجماعات الانفصالية والطائفية الناشطة في محافظتي بلوشستان وسيستان الإيرانيتين في نزيف متكرر للدماء بين الحين والآخر في مناسبات دينية وسياسية متنوعة من خلال اتباعها أسلوب الاغتيالات والتفجيرات المباغتة.
وتتهم طهران كلًا من أمريكا وإسرائيل بدعم هذه الجماعات بغية زعزعة تماسكها الداخلي وكسر نفوذها الخارجي، ولذلك ربطت بين التفجيرين المتعاقبين اللذين استهدفا زوارًا لمرقد قائد الحرس الثوري الإيراني السابق قاسم سليماني الأسبوع قبل الماضي وبين تلك الجماعات، وبالتالي نسبت الأمر برمته لإسرائيل خاصة مع التصعيد بين البلدين بسبب العدوان على غزة ومضاعفاته.
ويعزز ذلك الاحتمال أن الهجمات الإيرانية على بلوشستان الباكستانية ترافقت مع هجمات أخرى على ما قالت إنه معقل للموساد الإسرائيلي في مدينة أربيل الكردية في العراق.
وهناك سجل طويل لعمليات تلك الجماعات الانفصالية في البلدين يلاحظ فيه بجلاء نشاطها في الأوقات التي تشهد توترات إقليمية، أو وجود حاجة غربية لممارسة الضغط السياسي على طهران، أو حتى إسلام أباد.
طريق الحرير
أما إذا تعلق الحديث بالاقتصاد فإن ما يجمع باكستان وإيران أكبر بكثير مما يفرق بينهما، ولعل المشروع الصيني العملاق “الحزام والطريق” الذي يمر عبر إقليم بلوشستان الذي يمتد بين الدولتين لهو أكبر دليل على صحة هذه الرؤية، فقد ألقى بطوق النجاة لإيران للخروج من الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليها أمريكا والدول الغربية، وحسّن من علاقتها مع الصين لدرجة جعلت منها المستورد الكبير لنفطها بما قيمته 400 ألف برميل يوميًا.
ومنذ أن أقرت الصين خطة هذا المشروع الذي يهدف إلى استثمار مئات المليارات من الدولارات، ومد آلاف الكيلومترات من الطرق المعبدة وأنابيب الغاز والطاقة رحبت به إيران بشدة، وحلمت باستعادة مجد طريق الحرير الذي تمر أجزاء منه عبر أراضيها خاصة في بلوشستان -محط العمليات الإرهابية- ليصل بحر الصين بأوروبا وإفريقيا، ومع ذلك ما زالت كثير من البلدان تراودها المخاوف من الانضمام الإيراني لهذا المشروع، وما قد يستتبعه من تعقب أمريكي.
فيما تتجاوز المكاسب الباكستانية المباشرة من المشروع الصيني 64 مليار دولار، فضلًا عن أنه يمكنها من الاستفادة القصوى من الثروات المعدنية التي يتمتع بها إقليم بلوشستان، ونظرًا لأهمية المشروع لاستقلالها نجد هناك تصريحًا لمساعد رئيس الوزراء الأسبق عمران خان يؤكد فيه أن الولايات المتحدة وبدعم هندي تسعى لإفشاله.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمشروع أعدته الصين، فماذا لو اجتمعت معها باكستان النووية، واجتمعت معهما ثالثة الأثافي إيران المارقة عن الحظيرة الأمريكية، وكان مركز كل هذا التجمع “بلوشستان”؟
التعاون الاقتصادي
بقدر حاجة إيران إلى فتح أسواق تتحدى الحظر الغربي المفروض على منتجاتها عامة والنفطية خاصة التي تمتلك وحدها نحو 10% من احتياطاتها المؤكدة في العالم، فإن باكستان هي الأخرى بحاجة ماسة للنفط الإيراني، وقد حدث عام 2010 أن وقّع البلدان “مشروع السلام” لتوصيل الغاز الإيراني إلى باكستان، لكن إسلام أباد تراجعت بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، فضلًا عن اضطرابات إقليم بلوشستان في البلدين.
وسعت باكستان أثناء فترة حكم رئيس الوزراء عمران خان إلى العودة لتنفيذ هذا الاتفاق، ووقّعت صفقات عدة لتزويدها بالطاقة بنظام الصفقات الآجلة، وهي الطريقة التي تناسب حالة البلاد الاقتصادية المتردية، وظل الأمر قائمًا إلى الآن وسط مخاوف من أن تنجح الضغوط الأمريكية المتوقعة للعصف بهذا التكامل البناء.
وبعد ذلك التكامل كله بات واضحًا أن أي تصعيد بين البلدين مستقبلًا سيكون قطعًا استجابة لضغوط أمريكية وإسرائيلية.
https://bit.ly/3HCKVQi