لسنا بحاجة نحن العرب إلى اكتشاف أن النظام الدولي الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية يحمل في طياته وصفة متكاملة للاستبداد؛ لأننا اكتشفناه منذ السنوات الأولى لانطلاقه
والفضل يعود في ذلك إلى القضية الفلسطينية، حيث عرفناه نظاما لا يحتكم لإجماع برلمان العالم المتمثل في الأمم المتحدة، ولكنه خاضع كليا لسلطة أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمي العضوية التي تحتكر بمفردها صكوك المشروعية، تمنحها من تشاء وتمنعها عمن تشاء، حسبما تقتضي مصالحها هي لا مصلحة شعوب هذا الكوكب.وعرفناه محتكمًا دومًا لمعيار القوة لا المشروعية، ولعله لا توجد هناك بلاغة تصف غرابة الحدث سوى القول بأنه نظام تأسس بعد أقل من 60 يوما من ارتكاب أمريكا مجزرتيها النوويتين المروعتين في جزيرتي هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين في السادس والتاسع من أغسطس 1945 مودية بحياة مئات الآلاف من المدنيين في ساعات، وأن كلتا المجزرتين وقعتا رغم وجود مفاوضات سلام أمريكية يابانية لإنهاء الحرب.
والأنكى من ذلك أنه بدلا من عقاب الدولة الباغية المتدثرة بثياب الحضرية والمدنية وجدناها هي نفسها التي تقود هذا النظام وعلى أراضيها تقبع جميع مؤسساته ومفاتيحه.
ورغم أنها هي صاحبة ما يعرف بوعد “ويلسون” الذي أصدره رئيسها عام 1923 بمناصرة حقوق الشعوب الراغبة في التحرر وجدناها هي الدولة الأولى في العالم التي تعترف بدولة إسرائيل وحتى قبل إعلان العصابات التي جلبتها بريطانيا لفلسطين بإنشائها عام 1948، حيث أعلن عن قيامها في 15 مايو في حين أن أمريكا اعترفت بها يوم 14 مايو.
ووجدنا في كافة مراحل الصراع العربي الإسرائيلي أمريكا ووريثتها بريطانيا وعدة نظم يعدون على أصابع اليد الواحدة يجهضون كافة المطالبات الدولية بإنصاف الشعب الفلسطيني، واحترام حقه في الدفاع عن نفسه وأرضه وحريته، وينصبون أنفسهم حكاما للكون.
بالطبع لسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بمواقف التسلط الذي تمارسه أمريكا عبر نظامها الدولي علينا، فقد ذقناه في العراق والصومال وليبيا وسوريا ومصر والسودان أشكالا وألوانا وصار من مسلمات الأمور لدرجة جعلتنا نبرر عجزنا في كل مسألة دولية تخصنا بأنه لا يمكننا مواجهة أمريكا، كما قال السادات.
الغبن الدولي
تجذر بشدة الشعور بالغبن من الانحياز الدائم للمنظومة الدولية إلى أي طرف يعادي توجهاتنا العربية في وجدان الإنسان العربي والمسلم على جميع المستويات حكاما ومحكومين، وطرح ذلك سؤالا جوهريا حول السبب الذي يدفعنا إلى البقاء ضمن حلقة النار تلك رغم أنه يمكننا أصلا الخروج منها تماما، ولعل هذا الخروج سيشجع دولا إسلامية أخرى لأن تحذو نفس الحذو.
وما الغرابة؟ فقد توافرت المبررات المتمثلة في عدم وجود أي دولة إسلامية ضمن الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن، ورغم أن المسلمين يشكلون ربع عدد سكان العالم، فإن هذه التشكيلة تحرمهم بشكل سافر من نيل حقوقهم بسبب نظام “الفيتو” الذي تحتكره، ولعل الرئيس التركي أردوغان كان من أعلى الأصوات التي تحدثت عن أن العالم أكبر من خمسة.
ولا ندري ما السبب وراء اختيار هذه الدول لتكون متحكمة في مصير العالم، فإذا كان لكونها امتلكت فعليا قوة نووية، فهذا تأكيد صريح لاحتكام هذا النظام لقوانين الغاب، إلا أنه مع ذلك يوجد ظلم آخر في داخل هذا الظلم، فهناك دول أخرى تمتلك تلك القوة ومع ذلك ليست من ضمنهم، وواحدة منها يصنفها الغرب دولة مارقة كما هو الحال في كوريا الشمالية نظرا لامتلاكها السلاح الذي يمتلكونه هم.
ومن العجب أنهم يعاقبون إيران بزعم رغبتها في امتلاك سلاح نووي، وقتلوا مليوني عراقي ونهبوا ثروات العراق تحت فرية ثبت كذبها حول سعيه لامتلاك هذا السلاح، ومع ذلك لم يدينوا بحرف واحد الكيان الصهيوني الذي اعترف مهندس برنامجه النووي “مردخاي فعنونو” علنا بكافة تفاصيله، بل وراح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو يطالب علنا أيضا بضرب غزة بالقنابل النووية، وهو التصريح الذي يمثل اعترافا جديدا بكون إسرائيل دولة نووية، ومع ذلك لم ينبس أحد ببنت شفة بمن فيهم وكالة الطاقة الذرية.
عربيًّا كان العقيد الليبي معمر القذافي هو أول من تحدث علنا بمثل هذا الطرح عام 2001م، بعدما عانت ليبيا جراء الحصار الدولي بسبب قضية لوكيربي، وبعد أن استفحل تأثير الحصار الغربي الخانق في العراق جراء الاتهامات الأمريكية الباطلة بالسعي لامتلاكه أسلحة نووية، ولكن دعوته قوبلت بفتور وتندر واستخفاف من أغلب النظم العربية آنذاك.
وكانت إندونيسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي أعلنت رسميا انسحابها من المنظومة الدولية عام 1965م جراء خلاف هلامي مع جارتها المسلمة ماليزيا، لكنها عادت إلى هذه المنظومة في نفس العام إثر انقلاب عسكري أطاح بنظام الحكم.
ومما لا شك فيه أن المصدر الأول لازدواجية المعايير التي تنفر من هذا النظام الدولي يقبع أساسا في عنصرين رئيسيين؛ أحداهما عدم إلزامية قرارات الأمم المتحدة، في حين هناك إلزامية في قرارات مجلس الأمن الذي لا يمثل إلا مواقف 15 دولة من دول العالم البالغ عددها نحو 206 دول.
أزمة غزة
كشفت الاعتراضات العالمية على حرب الإبادة الوحشية الصهيونية على غزة أن الاستياء من هذا النظام الدولي تنامى ليتخطى حدود الدول الإسلامية الـ57 لتنضم إليها كثير من دول العالم في القارات الست؛ وذلك لكون كافة التظاهرات التي خرجت توجهت بالأساس للكيان الصهيوني ومن يسانده في مجلس الأمن.
أعلم أن أمر الانسحاب من المؤسسات الدولية قد يكون صعب التحقق، ولكن أعلم أيضا أن مجرد التلويح به قد يكون أبلغ رسالة بالاعتراض عليه وتبيان الرغبة في إصلاحه، وقد أفلح وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف حينما ألمح إلى تنامي العجز في المنظومة الدولية من هذا الخلل الدولي بقوله إن 87 قرارا أمميا لم يتم تنفيذها في حق القضية الفلسطينية؛ وذلك لأن قوة الاحتلال رفضت تنفيذها، إذن فلا فائدة في قرارات جديدة في هذا الصدد إذا كانت ستبقى حبيسة الأدراج كسابقاتها.
اقرأ المقال كاملا هنا على الجزيرة مباشر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق