مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ظهرت بوضوح خطوات روسيا الواسعة لاستعادة مجد الإمبراطورية السوفيتية، ولتحتل مكانتها القديمة المنافسة لسيطرة أمريكا على العالم.
منذ مطلع العام الجاري 2024 قام بوتين بإجراءات جريئة عدة في إطار محاولاته للفكاك من الحصار الغربي الواسع على بلاده بعد اجتياحها أوكرانيا، واتخذها فرصة من أجل تعزيز نفوذ بلاده عالميًا لتصير منافسًا حقيقيًا للنفوذ الأمريكي في العالم، مستفيدًا من حالة السخط الشعبي العالمي على سياساتها الانتقائية الداعمة للاستبداد والهيمنة الغربية.
وعلى ما يبدو أن تلك الإجراءات آتت أكلها، وأسهمت لحد بعيد في خفض حدة الحصار الغربي بدليل أن النفط والحبوب اللذين يمثلان عماد الاقتصاد الروسي يتدفقان بشكل كبير لأسواق العالم بل ولأسواق أوروبا ذاتها، بعد نجاحها في تحويل ثروتها من الحبوب إلى صمام لأمن العالم الغذائي، وافتتاحها أسواقًا جديدة للنفط أسهمت في وصوله للسوق الأوروبية عبر دول أخرى بتكلفة أعلى تحملها المستهلك الأوروبي، فيما صمد “الروبل” الروسي وحافظ على مستواه في المنطقة الآمنة رغم أنه كان من المتوقع له الانهيار السريع بعد مرور سنوات من دوران رحى الحرب.
وشجعت سياسة التعامل بالعملات الوطنية كبديل عن التعامل بالدولار العديد من دول العالم للتعامل الاقتصادي مع روسيا للدرجة التي جعلت الاحتياطي النقدي الدولاري في البنك المركزي الروسي يهبط من قرب 90% إلى نحو 57% دون حدوث رجة عميقة في موقف البلاد الاقتصادي، وهو ما يعني أن سياستها تلك مع حلفائها قد نجحت، وهو الأمر الذي جعل محافظ البنك المركزي الروسي السابق يتمادى ويتوقع أن يتعرض الدولار الأمريكي لموقف وجودي في العالم بحلول العام المقبل.
وتؤكد إحصاءات منظمة “شنغهاي” للتعاون التي تضم ست دول هي الصين وكازاخستان وقرغيزيا وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان بأن 90% من تعاملات أعضائها البينية صارت تتم بالعملات المحلية، وهو ما عزز الوضع الاقتصادي الروسي بوصفه ثاني أكبر اقتصاديات هذه المنظمة.
سياسات جريئة
وكانت زيارة الرئيس بوتين لكوريا الشمالية في منتصف يونيو/حزيران الماضي وتوقيعه مع زعيمها كيم جونغ أون في بيونج يانج اتفاقية شراكة استراتيجية ودفاع مشترك من أكثر تلك الإجراءات أهمية ولفتًا للانتباه عالميًا في هذا العام، بما تحمله من تدليل على أن روسيا مصممة للمضي قدمًا في بناء تكتل عسكري واقتصادي وسياسي قوي يضم العديد من مظاليم الهيمنة الأمريكية على العالم، وأنه لا رجعة مكوث لروسيا في مقعد الظل مجددًا.
وتأتي أيضًا اتفاقية بوتين مع حركة طالبان الأفغانية بوصفها شريكًا استراتيجيًا لمكافحة الإرهاب كضربة ذات مغزى للدعاية الأمريكية التي حاولت عبر عقود من غزوها أفغانستان تسويق الحركة كحركة إرهابية، ثم اضطرت تحت ضغط مقاومتها لمد يد الاتفاق معها لتتمكن من سحب قواتها بسلام.
ولعل روسيا كانت تدرك أن الغزو الأمريكي لأفغانستان سنة 2001، وبعد 11 عامًا من انهيار الاتحاد السوفيتي كان من أهم أهدافه تطويق نفوذها ذاته.
وكذلك هناك إجراؤها مناورات حربية في منطقة البحر الكاريبي على سواحل كوبا، وإرسالها أسطولًا من السفن الحربية ضمنها غواصة تعمل بالطاقة النووية، وسعيها لنقل صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية لتعيدنا إلى الصراعات ذاتها وقواعد اللعبة التي كانت سائدة في زمن الاتحاد السوفيتي، مع اختلاف مهم وهو أنه إذا كانت الحرب حينها ظلت باردة، فيبدو أن الحرب الآن تتجه رويدًا رويدًا لتكون بركان حمم.
ثم حسمت الزيارة التي قام بها بوتين إلى فيتنام وهي واحدة من أكبر 20 دولة سكانًا في العالم ولاءات هذه الدولة الاشتراكية المتأرجحة بينها وبين أمريكا لشغل المركز الثاني كحليف اقتصادي لها بعد الصين، حيث تم توقيع تأكيد اتفاقات الشراكة الاستراتيجية الموقعة بينهما منذ 15 عامًا مع نمو ميزان التبادل التجاري بين البلدين هذا العام بنسبة 8%، ورغم أنه ما زالت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الثانية بعد الصين في رصيد التبادل الاقتصادي مع هانوي بما يصل في عام 2022 إلى 139 مليار دولار، إلا أنه من المتوقع أن فيتنام ستسعى لتوطيد علاقاتها مع روسيا خصمًا من مكانة أمريكا، حيث يربطها بها الحنين للحقبة السوفيتية مقارنة بأمريكا وماضيها المرير.
ذلك بخلاف إنشاء روسيا العديد من القواعد والمراكز في العديد من البلدان العربية والإفريقية، وسط انحسار واضح للنفوذ الأمريكي والغربي عامة في القارة السمراء.
التقنية النووية
وما يلفت الانتباه نجاح روسيا في استخدام التكنولوجيا النووية كوسيلة لتقارب استراتيجي مع الأمم الأخرى، من حيث توريد إنشاء المحطات وتزويدها بالوقود النووي اللازم، والتخلّص من النفايات فضلًا عن إدارة تلك المحطات، خاصة أن مثل تلك المشروعات تمثل بطبيعتها أهمية قصوى لدى الدول التي أنشئت فيها اقتصاديًا، وصيانة وسلامة، فضلًا عن تميزها بطول مدة التعاقد التي قد تمتد لعقود عدة، وهو ما من شأنه ربط هذه الدول بشكل عميق واستراتيجي مع موسكو.
وتشير إحصاءات إلى أنها وقّعت بمفردها ونفّذت أكثر من نصف محطات الطاقة النووية في العالم في العقود الأخيرة، وهو ما فعلته على سبيل المثال لا الحصر مع فيتنام وبنجلاديش وتركيا والإمارات وإيران والسعودية ومصر وعشرات الدول الأخرى حول العالم.
ولما كانت روسيا تنتج بمفردها نحو 79% من الوقود النووي المنتج سنويًا في العالم لتغذية المحطات التي تشرف على إنشائها وإدارتها حول العالم، شكّلت أمريكا تحالف “سابورو 5” الذي يضم بجانبها “كندا وبريطانيا وفرنسا واليابان”، لمناهضتها في العالم وراحت تفرض عقوبات على الوقود النووي الروسي.
…
الظلم الذي صنعته أمريكا ودعمته في العالم جعل الشعوب تبحث عن بصيص أمل للخلاص لعلهم يجدونه في موسكو، إن وجدوه حقًا.
https://bit.ly/4d5xiqv