الانبهار الذي عاشه المصريون ومعهم إخوتهم العرب وهم يشاهدون الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي جرت بين بايدن وترامب، وكيف أن الرئيس الأمريكي “السابق” ترامب وحملته، كانوا يتصرفون بوصفهم “معارضة” منزوعة السلطات، وكيف أن القضاة المنتمين للحزب الجمهوري والذين عينهم “ترامب” في مناصبهم بالمحاكم العليا خذلوه حينما طلب منهم وقف التصويت في بعض الولايات انحيازا للقانون، وكيف كان فرز الأصوات وغيرها من تصرفات غير معهودة في عالمنا العربي.
يتوازى ذلك الانبهار مع انبهار أخر جرى في مصر من الانتخابات البرلمانية المصرية، ولكنه انبهار مساوي له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه!!.
وفي الواقع أن تجارب الاحتكام لرأي الأغلبية في مصر سواء أو في جميع أرجاء هذا الوطن المبتلى بحكم العسكر أساء كثيرا للفكرة على ما بها من نقاء ومنطقية، وحولها إلى ظاهرة عبثية تحمل قدرا كبيرا من التهريج، حيث جرى التحايل عليها بطرق شتى حتى صارت تعبيرا أكيدا عن حكم الأقلية.
حكم الأغلبية ما له وما عليه
في الغرب، جاء اللجوء لحكم الأغلبية بعد تجارب مريرة دامت لقرون من صور الاستبداد والصراع في جميع الاتجاهات ولكافة الأسباب، فعمَّ الخوف والجوع والجهل والتخلف، هنا اجبروا تحت وطأة هذه الظروف للتخلي عن أنانيتهم ومصالحهم الفردية الضيقة، وقفزوا على متن سفينة حكم الأغلبية وخضعوا لاشتراطاتها وتجاوزا عن انتقاداتها.
ومن ضمن تلك الانتقادات الموجهة لهذا النظام من الحكم، أنه يساهم في صناعة ديكتاتورية الأغلبية ويحرم الأقلية مهما كان عددها من إنفاذ رأيها، بل ويجبرها على الخضوع لرأي الأغلبية مهما كان خاطئا.
ومن الانتقادات أيضا أنهم يرون أن الإجماع على رأي ما لا يعني أبدا صحته، بخلاف أنه يمكن أن يُبنى رأي الأغلبية على معلومات مضللة، وبالتالي يتم خداعهم والتأثير على مواقفهم عبر الدعاية الإعلامية ومن خلال نقص الوعي وقلة المعرفة، فضلا عن إيمانهم بحقيقة أن معظم الآراء التي غيرت العالم وحسنت بيئته كانت أراء فردية.
حكم الأقلية في الوطن العربي
تستطيع أن تجزم أنه لا يوجد حكم أغلبية في معظم البلدان العربية، لأنها إما محكومة بنظم حكم ملكية وبعض تلك النظم ما زالت لا تمتلك مرجعية دستورية ولو شكلية، وإما نظم حكم عسكرية أو طائفية أو عشائرية منفردة او مجتمعة، وتحاول مسايرة الموضة العالمية بإخراج نظم حكمها بصورة كما لو كانت تعبير عن حكم الأغلبية.
وهذه الصيغة الزائفة هي الصورة المُرضية والمقبولة غربيا، لكونها تحقق له مصالحه من جانب، وتستوفي الشكل الديمقراطي من جانب آخر، رغم أنه يدرك يقينا أنها لا تمثل إرادة الأغلبية.
وللأسف كثيرا ما تواطأت تلك الدول في صناعة هذا الشكل من الحكم، فقد عملت على استبدال الحكم المنتخب برأي الأغلبية في مصر بحكم عسكري يرتدي ثوب الأغلبية، ولنا في الدعم الأوروبي غير المعلن أو حتى القليل المعلن منه إعلاميا وسياسيا أو ما ظهر منه عبر متحدثته كاثرين آشتون التي حثت المتظاهرين في ميدان التحرير عام 2012 على الاستمرار من أجل الإطاحة بالنظام، خير دليل.
وبنظرة متأملة في أغلب بلدان وطننا العربي ستكتشف بسهولة أن ما ينتج تحت شعارات حكم الأغلبية هو حكم الأقلية أو “اتحاد الأقليات” وهم من يحرصون على إقصاء الأغلبية.
النموذج المصري
ترافقت مع الانتخابات الأمريكية انتخابات أخرى برلمانية في مصر، وبالطبع عقد مقارنة بين الحدثين هو في الواقع مقارنة بين الثريا والثرى، ولكننا نحن هنا سنحاول المرور عبر أهم معوقات قيام حكم الأغلبية في مصر بالطريقة الصحيحة.
1- الأحزاب الوهمية :
بالقطع ستندهش لو عرفت أنه يوجد في مصر 104 حزب سياسي تربط بينهم جميعا صفات بأنه لا يوجد إيديولوجية أو برنامج حزبي واضح أو مفهوم، ولا يوجد من خلفه هدف سياسي جاد يحظى بشعبية، ويتسم جميع رجالها بدعم النظام الحاكم وقيادته، ويتصدر القيادة فيها أشخاص يعانون من الجهل السياسي والمعرفي، ولا يوجد لها أنصار حيث لا تزيد شعبية أغلبيتها عن الـ 5 ألاف عضو اللازمة لتأسيس الحزب قانونا، وفي الغالب لا يعبر عن وجود الحزب سوى مقر بائس في شقة هنا أو هناك، كما أن مفهوم تأسيس الحزب عند كثير من مؤسسي تلك الأحزاب لا يختلف كثيرا عن إنشاء محل بقالة، وبالتالي فان انتخابات تدور بين عناصر منتمية لهذه الكيانات بالقطع سيعزف عنها الناس.
وفي المقابل يتم منع الأحزاب ذات الإيديولوجيات الواضحة بدءا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من ممارسة أنشطتها بمزاعم “جنائية” أو “دستورية” رغم أنها تحظي بشعبية ضخمة، وفي الغالب يتم حظرها أو دس عناصر أمنية بها لتفجيرها من الداخل.
2- ضعف الوعي السياسي:
عمل النظام العسكري الحاكم منذ انقلاب 1952 جاهدا على تسطيح وعي الناس وتجهيلهم، وإيهامهم عبر وسائل الإعلام التي يحتكرها بشكل مباشر أو غير مباشر بأن جماعات المعارضة عموما هي دكاكين – للمزايدة والتربح والابتزاز، ما تسبب في عزوف الناس عن العمل والمشاركة السياسية خاصة لما رأوه في أحزاب “الأنابيب” التي أنشأها النظام والقائمين عليها من نقائص.
وفي السنوات العشر الأخيرة أضيفت إليهم تهم العمالة للخارج وخيانة الوطن والإرهاب وذلك ردا على الطفرة الثقافية التي اكتسبها الناس من الممارسات الجادة للنشاط السياسي للأحزاب التي نشأت بعد ثورة يناير قبل القضاء عليها، كل ذلك جعل الناس ومعهم رجال “الأحزاب القائمة نفسها” يخشون الجهر بالمعارضة.
وكان البديل إزاء ذلك هو أن يستبدل الشعار السياسي بالشعار الخدمي المناطقي والجهوي، بمعني أن يكون برنامج المرشح في العمل النيابي عبارة عن لائحة بقائمة أعمال كإنشاء كوبري أو معدية أو مدرسة أو وحدة صحية.. إلخ في دائرته الانتخابية، ورغم أن ذلك من أعمال الإدارات المحلية “سواء معينة أو منتخبة” الروتينية إلا أن النائب عادة ما يعجز عن تنفيذها، فيلجأ للاستفادة من وصوله للبرلمان بتعيين عدد من أقاربه في دوائر السلطة المختلفة كالشرطة والجيش والقضاء والسلك الدبلوماسي.
وبالطبع فإن مثل هذا النائب لا تعنيه السياسات العامة للدولة وسيوقع على ما يطلب منه دون اكتراث للنتائج والأخطار.
أبرز ملامح عدم إنفاذ حكم الأغلبية في ضوء العملية الانتخابية الأخيرة في مصر:
1ـ الترهيب والترغيب: ترهيب المواطنين بدفع غرامات نظير عدم مشاركتهم في الانتخابات وتعقبهم أمنيا، وترغيبهم عبر توزيع الكراتين الخاصة بالسلع الغذائية والأموال على المواطنين من قبل جميع المرشحين والأحزاب القائمة، من أجل حثهم على المشاركة في الانتخابات، ورغم ذلك لم تتعدى نسبة المشاركة المعلن عنها رسميا 28% في المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، وأن أكثر من ثلث المصوتين أبطلوا أصواتهم.
2ـ ضعف المنافسة: رغم أن جميع الأحزاب القائمة في مصر لا تعتبر أحزابا معارضة للسلطة الحاكمة وإنما تتدرج بشكل مختلف في القرب منها أو البعد عنها، إلا أن المنافسة الحزبية جرت بين حزب السلطة وقائمته وبين أخرى للأحزاب الأقرب لها، فيما شاركت قائمة الأحزاب الأبعد من السلطة طمعا في الإفراج عن معتقليها، وبارك النظام مشاركتها من اجل تنفيس جزء يسير من الغضب الشعبي.
3ـ ضحالة وعي المرشحين: أظهرت الدعاية الانتخابية والمؤتمرات التي دعا لها بعض المرشحين والأحزاب في جميع الدوائر تقريبا ضحالة فكرهم وثقافتهم وكانت مثالا للتندر والسخرية، فضلا عن أن يكونوا ممثلين لإرادة الشعب.
خلاصة
في الواقع، إن ما حدث في أمريكا انتخابات تعبر عن حكم الأغلبية، وما جرى في مصر شئ يبدو كأنه انتخابات ولكنه لا يعبر إلا عن حكم الأقلية.
نشر المقال للمرة الاولى في المعهد المصري للدراسات
او هــــــــنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق