لم تحرز إسرائيل انتصارا كبيرا يستحق هذا الصخب والاحتفالات في حزمة التطبيع العربية الجديدة الموقَّعة معها، مع الإمارات والبحرين والسودان، تماما كما لم تحرز انتصارا في الحزمة القديمة إبان توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي عربة مع الأردن، وذلك لأنها في الحزمة الجديدة فقط أخرجت العلاقة الخبيثة من الظلام إلى العلن، وهى لم تطبِّع أبدا مع الشعوب العربية ولم تحترم إرادتها قط، ولكنها طبَّعت مع نظم حكم يعلم القاصي والداني أنها خاضعة
كليا أو في أحسن الظروف جزئيا لقوى الخارج لا سيما الولايات المتحدة التي هي حليف إسرائيل الكبير، وبالتالي فان النجاح هنا سيكون مشكوكا فيه.كما أنها بإشهارها حزمة المطبعين الجدد تلك، أراحتنا وأراحت كافة الوطنيين من مهمة البحث والبرهنة والتدليل على العلاقات الخبيثة التي تجمع تلك النظم بالكيان الصهيوني، وقطعت خطط التخبئة والخداع التي كانت تمكِّن هذه النظم من بث سمومها في كل أعمالنا الجمعية العربية الوطنية على قلتها، حيث صارت الصورة الآن أكثر وضوحا.
ورغم العار الذي يلاحق من سِلك هذا المسلك إلا أن التجارب السابقة أثبتت لنازعي رداء الوطنية والولاء الجدد أن من سبقوهم لارتكاب هذه الفعلة القبيحة لم ينعموا بـ “الجزرة” أبدا وأن إسرائيل هي التي تقطفها دائما لنفسها، فما خلت مصر والأردن من الهموم الاقتصادية ولا صارت القاهرة ولا عمّان فيينا الشرق، بل انتقلوا جميعا من طور الندّية إلى الأتباع.
أدوار واحدة:
ـدول الخليج المهرولة للتطبيع هي في الواقع تمارس هذا الدور منذ عقود، وخطواتها الخارجية تتوافق تماما مع المصالح الإسرائيلية، فهي تعادي من يعادي إسرائيل، كالتيار الإسلامي “حماس والإخوان”، والتيار القومي كـ “صدام حسين والقذافي وعبد الناصر، والتيار الاشتراكي كـ “المنصف المرزوقي” في تونس، والتيارات الاشتراكية في الوطن العربي.
وفي المقابل هي تسالم من يهادن إسرائيل ويساندها ككل الحركات اليمينية المتطرفة في كافة بقاع العالم من الهند لأوروبا لأمريكا.
وبعض هذه النظم ظل لعقود يخدم إسرائيل بما هو أعمق كثيرا من الملفات المعلنة لاتفاق التطبيع المزعوم، لدرجة أن البعض ذهب أن إنشاء تلك الكيانات كان في الأصل من أجل حماية إسرائيل وتفتيت وحدة العالم الإسلامي ضدها، للدرجة التي تجعلك تشك بأنها تدفع ثمن كل رصاصة أطلقها الكيان الصهيوني تجاه أبناء شعبنا في فلسطين أو لبنان أو حتى في سيناء، وتخدّم بكل جد وهمة وبذخ على سياساتها وأهدافها في مصر وليبيا و شرق المتوسط وتونس و البحر الأحمر و اليمن.
والمتأمل للمشهد العربي الآن سيكتشف بسهولة أن الدمار الذي أحدثته الدول التي هرولت تجاه إسرائيل في الوطن العربي أضعاف ما كان يمكن أن تحققه إسرائيل بعشرات النكسات والهزائم له، فقد نقلت المجابهة بين الأقطار العربية وإسرائيل إلي مجابهة بين شعب عربي وأخر، ومجابهة بين فئات داخل الشعب نفسه، وهو ثمن كثير للغاية لن تدفع إسرائيل له مقابل يعادل حجم الخيانة.
خسارة أم مكسب؟
ومن المنطقي أن نعرف أن من يلجأ إلى التطبيع من النظم العربية يكون في حاجة إلى إحداث نهضة اقتصادية وإنعاش اقتصادي، أو يكون الشعب نفسه بحاجة الى هذا الأمر، فيضطر ذليلا إلى التخلص من أعباء الالتزامات الوطنية والأخلاقية التي فرضت عليه كشعب عربي ومسلم تجاه أشقاء آخرين له تعرضوا للنفي والتهجير والإبادة.
لكن المدهش هنا أن من يقودون مسيرة التطبيع الجديدة في الوطن العربي من دول النفط والجاز ليسوا بحاجة الى الحزمات الاقتصادية التي يمكن أن تمنحها لهم إسرائيل، بل على العكس تماما، فهم من سيدفعون للكيان الصهيوني وسيساعدونه في كسر ما تبقى له من عزله، وسيروجون لمنتجات المستوطنات التي “يحظرها” الغرب نفسه، ويندد بالاستيلاء عليها، وسيدعمون قضاياه في المحافل الدولية، رغم أن انتصاره في أي قضية تعني بكل بساطة خسارة فادحة للشعوب العربية.
وبالتالي فان الهدف من تلك الهرولة لإشهار العلاقة الخبيثة مع تل أبيب هو فقط السعي نحو الإنعاش السياسي لنظم فقدت كل المبررات الأخلاقية لوجودها، وصارت تمثل احتلالا محليا لشعوبها.
فلا هي نظم منتخبة، ولا هي حتى نظم “ملكية دستورية”، ولا هي ديمقراطية، ولا هي نظم راشدة، هي فقط نظم عائدة من ظلام القرون الوسطى، فدستورهم إرادة الحاكم، يرتكبون الفظائع والجرائم النكراء دون مسائلة، وينشرون عظام المعارضين، ويتخذون أسرهم سبايا وعبيد، والمصدر الوحيد الذي يستمدون به شرعيتهم لدى الغرب منذ عقود بأنهم يقفون مع غلاتهم ومتطرفيهم في نفس الخندق حربا على العروبة والإسلام.
وفي تقديري أن انكشاف تبني إسرائيل لهذه النظم سيضرها على المدى القريب أكثر مما يفيدها، حيث يوضح صورتها الحقيقية للعالم ككيان عنصري فاشي، لا يلتحم إلا مع النظم الفاشية التي تضاهيه، وهى الصورة التي عكفت لعقود على نفيها وسعت لتزييفها غشا وخداعا.
وعلى المدى البعيد ستضطر إسرائيل لوقف عملية تلويث سمعتها التي بذلت الكثير منذ نشأتها على ترسيخها في “الميديا” الغربية خداعا وتضليلا وكذبا، وستتخلص من هذا الحمل الثقيل بعد أن بهت بريقه وجف ضرعه، وأصبحت مثالبه أكثر من مزاياه.
اقرأ المقال هنا في المعهد المصري للدراسات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق