برغم كل هذا الدمار الذي خلفته الحرب الصهيونية في غزة الباسلة، وشلالات الدم التي أريقت، وتَكَشًّف الصورة الفجة للدعم الغربي الأعمى واللإنساني للمحتل الباغي، فإن هناك مكسبا جوهريا قد تحقق في موقعة طوفان الأقصى وما تلاها من أحداث، وهو أن الحاضنة الشعبية لطرفي المقاومة الإسلامية بفرعيها “السني” وفي القلب منه حماس والجهاد الإسلامي و”الشيعي” وتضم حزب الله وأنصار الله قد عاودا الالتحام مجددا، بعد الخراب العميق الذي سببته “عثرة” الثورة السورية في العلاقات بينهما، مما انعكس إيجابا على الجبهات العسكرية المقاومة وأعطاها دفعة معنوية كبيرة.
بالقطع كان هناك تنسيق بين الجبهات فيما مضى نظرا لحاجة كل منهما إلى الأخرى، لكن عدم الانسجام وأحيانا الصدام بين الحاضنتين الشعبيتين لكل منهما قلل بالتأكيد من كفاءة التنسيق وأضعف من قيمة النجاحات وعمليات الردع، أما الآن وقد عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي القديم ولا سيما بعد الكلمة التي ألقاها زعيم حزب الله الشيخ حسن نصر الله وخاطب فيها ود الإخوان المسلمين وتيارات المقاومة الإسلامية السنية، فإن عود المقاومة صار أكثر صلابة وقدرة على الإنجاز والانتصار.
الإنجازات الكبرى
ويتبدى هذا الالتحام جليا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي استثنى روادها منذ اليوم الأول لموقعة الطوفان جميع الحكومات العربية وجيوشها، وتوجهت بصائرهم نحو حزب الله عاقدين عليه الآمال أن يلتحم في المعركة، ولم يكذب الحزب الخبر فبادر باتخاذ مواقف عملية ذات طابع عسكري داعم لشقيقته حركة المقاومة الاسلامية حماس، ثم جاءت على الفور مع بدء المعركة البرية على غزة مساهمات من حركة أنصار الله الحوثية في اليمن في صورة صواريخ بالستية حتى وإن كانت لم تحقق أهدافها بحسب المزاعم الإعلامية العبرية، لكن ما فشل اليوم قد ينجح المرة القادمة.
هذه واحدة من الإنجازات الكبرى لطوفان الأقصى أفشلت ما عمل عليه المناهضون لحقوق الشعوب العربية في الحرية والاستقلال طوال أكثر من عقد مضى، وخاصة عقب ما يعرف بالربيع العربي الذي كان يسعى في الأساس لتحرير الشعوب العربية من الاستبداد والتبعية، لكن حولته المؤامرات الغربية إلى أداة تناحر على كافة الأصعدة المذهبية والدينية والعرقية وحتى الطبقية.
الوعي بالقضية
كما نجح الطوفان وما تلاه من وحشية العدوان في إعادة وضع القضية الفلسطينية على الأجندة السياسية في العالم بعد أن أوشك الصمت العربي على إهالة التراب عليها، نجح أيضا نجاحا أكثر أهمية وفائدة في إحداث عملية توعية كبيرة بالقضية الفلسطينية لدى الأجيال الجديدة من الشباب في المجتمعات الغربية فضلا عن إعادة التوعية بها لدى المجتمعات العربية والإسلامية.
ولك أن تتخيل أن منظمة “جالوب” رصدت في مارس/آذار الماضي تحولا كبيرا في الرأي العام حول القضية الفلسطينية لدى أنصار الحزب الديمقراطي الأمريكي أظهر تعاطف 49% من العينة مع الفلسطينيين مقابل 31% مع إسرائيل، وإذا كان الأمر كذلك قبل الطوفان وما تلاه من عدوان فستكون بلا شك نسبة التعاطف مع غزة أكبر كثيرا بدليل وجود استطلاع أجرته منظمة “يوجوف” في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي أشار إلى أن 48% من الأمريكيين تعاطفوا مع إسرائيل منهم 62% من كبار السنّ، ثم انخفض الرقم بعد أسبوع واحد حسب استطلاع أجرته منظمة “داتا فور بروغرس” الأمريكية أظهر أن 66% من المستطلعة آراؤهم هم من مؤيدي فلسطين، ومع استمرار العدوان تزداد نسبة التعاطف كل يوم ويرافقها وعي أكبر بالقضية.
ولعل من أبرز الدلائل على هذا الوعي أن أكبر المظاهرات الرافضة للعدوان على غزة انطلقت في المدن الغربية، إذ رأينا مظاهرات تضم عشرات وأحيانا مئات الآلاف تنطلق في أمريكا ولندن وفرنسا ودول أوروبا وهو أمر ما كان متخيلا أبدا منذ عقدين، محطمة الحظر الذي فرضته السلطات في كثير من تلك البلدان على مثل هذه النشاطات.
ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومات العربية الدائرة في مدار التطبيع لتهميش الوعي بالقضية الفلسطينية لدى الأجيال الجديدة من الشباب عبر التعليم ووسائل الإعلام التقليدية، فإن الأحداث وما رافقها من نهضة إعلامية أعادت تصحيح التوعية لدى تلك الأجيال، وقدمت لهم درسا عمليا على الإجرام الصهيوني.
ويعود الفضل في هذا التطور إلى انتصار وسائل التواصل الاجتماعي على “الجيتو” المحكم الذي تفرضه عادة وسائل الإعلام التقليدية الغربية ضد حقائق القضية الفلسطينية، ورغم تحيز تلك الوسائل كذلك لصالح إسرائيل فإن الحد الأدنى من المعلومات الذي سمحت به إداراتها أو قل فشلت في منع وصوله إلى الجماهير بسبب كثافته كان كفيلا وحده بإحداث هذا الإنجاز.
وكان لكثرة الوسائط والأخبار المتدفقة التي يقوم بها مئات الآلاف من النشطاء ورواد تلك المواقع حول حقائق ما يجري في غزة، الفضل في إرباك وربما إجبار بعضها على تخفيف قيودها خشية فقدانها مستخدميها، وأجبرت معهم أيضا وسائل الإعلام التقليدية على فتح مساحة ضيقة لم تكن متاحة من قبل لأنصار القضية الفلسطينية.
أدوار الجيوش
أما ثالث الإنجازات الكبرى للملحمة الغزيّة فهو أنها قدمت السيناريو الصحيح والمنطقي لاستخدامات الجيوش، وأعادتها إلى نصابها الحقيقي في محاربة العدو الخارجي وليس محاربة شعوبها كما تفعل معظم الجيوش العربية، خاصة بعدما شاهدنا استبسال عدة آلاف من المقاتلين بأسلحة شبه بدائية وانعدام تام في الدعم اللوجيستي مقارنة بما يملكه العدو من تقنيات رصد وتعقب وأسلحة ذات قدرات تدميرية هائلة فتاكة وعتاد وتغذية وأدوية، ورغم ذلك تمكنوا من توقيف العدو لأسابيع طويلة وإلحاق خسائر غير مسبوقة به وأسقطوا مهابته لدى الجميع.
أحرجت الأحداث الجيوش العربية على ما أنفق فيها من مال وعتاد ودعم نفسي وسياسي ودعائي، وطرحت علامات استفهام كبيرة تتردد في ذهن ملايين العرب حول أدوار الجيوش العربية، والمهام التي يجب أن توكل إليها.
الطوفان حطم الكثير من الأبواب المغلقة أمام المقاومة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق